الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / الشهيد الطيَّار عبَّاس بابايى

الشهيد الطيَّار عبَّاس بابايى

طلب المسامحة من العائلة

في تلك الليلة، اتصل الأمير الطيّار عبَّاس بابايي من منطقة همدان بزوجته في مكَّة. سألته بلهفة وقلق شديدَين: “عبَّاس! متى ستأتي؟ لقد تعبتُ من الانتظار!”.

أجابها بهدوء: “لا تقلقي سأكون عندكم في يوم عيد الأضحى”. استمرّت المكالمة لدقائق وقبل أن ينهي الحديث معها طلب منها المسامحة.

عندما سمعت ذلك امتقع لون وجهها وقالت بصوتٍ متهدِّج: “يا إلهي ماذا قال؟ لماذا طلب المسامحة؟”.

رفعت يديها نحو السماء ورجت الله قائلة: “إلهي إلهي احفظ عبَّاسًا من كلّ مكروه”… وبكت بمرارة.

ذكريات كودرزى
عند السحر، عزم الشهيد بابايى على الذهاب من همدان إلى طهران برفقة سائقه. لم يمضِ وقتٌ طويل حتَّى داهمه النعاس من شدّة التعب. يروي السائق كودرزى: ما إن قطعنا مسافة قصيرة حتَّى هبّ عبَّاس من نومه، نظر حوله فكانت الظلمة تلفّ المكان، وضع يده على رأسه وابتسم، نظرت إليه عبر المرآة وسألته: “لماذا تبتسم؟”.
تنفَّس وقال: “ليس مهمًّا لقد رأيت منامًا”.
قلت: “خيرًا إن شاء الله؟”.

ومن دون أن يردف شيئًا أخرج إجاصة من داخل الكيس وقال: “تفضَّل وكُل” نظرت إليه قائلًا: “وأنت لماذا لا تأكل؟”.

أجاب: “سآكل ولكن بعد أن تأكل أنت أوّلًا لأنَّك متعب”.

كنت طوال مسيرنا أراقبه فسألته: “لماذا تهتمّ بي وأنت لا تأكل شيئًا؟”.

فقال: “دعك منّي!! كل أنت بالصحّة والهناء”.

ظهر من لحن كلامه أنّه مسرورٌ جدًّا، أغمض عينيه وشرعت شفتاه بالمناجاة. عندما وصلنا إلى مبنى معاونية العمليَّات ترجَّل عبَّاس من السيّارة ودخل المكان. وبينما كنت أرجع إلى الخلف وقع نظري على كيس الفاكهة، وبدا أنَّه لم يأكل منها شيئًا.

في الصباح الباكر دخل القائد بابايى مكتب دعم (إسناد) العمليَّات، وقال لأمين السرّ: “أحضر لي ملفّ الطيَّار اغناميان”. أحضروا الملفّ وكانت الصفحة الأولى منه عبارة عن طلب قرض من

المال، وقَّع الرسالة، وأكد على أمين السرّ أن يتمّ الإسراع في إنجاز الطلب، وتابع قائلًا: “اعتذروا إليه نيابةً عنِّي، وقولوا له بأنّي لم أستطع تلبية طلبه بأسرع من ذلك”.

ثمَّ ودّع أمين السرّ وخرج. في ذلك اليوم أنجز كلّ ما عليه من واجباتٍ ومتعلّقات، وذهب إلى المنزل حيث ودّع والدة زوجته وأطفاله (سلمى وحسين ومحمّد).

يقول سائقه, بعدها نظر إليَّ مليًّا وقال: “سيِّد كودرزي! تفضَّلوا الآن واستريحوا، يمكنكم الذهاب وبعد عيد الأضحى عودوا إلى عملكم”. ثمَّ عانقني وقال: “إذا كان قد صدر منّي سوء أو تقصير فسامحني” فسألته: “إلى أين؟” فوضع يده على رأسه وقال: “جيِّد، لا أحد يعلم بعد ساعة ماذا سيجري له”.

اللقاء مع الأب والأمّ
بعد عدّة ساعات، انطلق إلى قزوين برفقة “موسى صادقي”. وصلا منتصف الليل، وقف أمام منزل والده وكالعادة طرق بإصبعه على شبّاك الزجاج الصغير، فتحت والدته الباب، فقبّلها وقال: “هل أبي نائم؟” أجابت: “نعم، إنّه نائم”.

– “سأوقظه”.
– “انتظر! سيستيقظ عند صلاة الفجر وستراه حينها”.
– “لا يا أمي، عليَّ الذهاب، لا أستطيع البقاء حتَّى موعد صلاة الفجر، لديَّ مهمّة عاجلة”.

ذهب إلى غرفة والده نظر إلى وجهه، ثمَّ انحنى وقبّل وجنتيه. فتح الحاج إسماعيل عينيه وقال: “عبَّاس لقد أتيت؟”

– “أتيتُ, ولكن عليّ العودة بسرعة لديّ مهمّة عاجلة”.
– “كيف ذلك يا عبَّاس! في عيد الأضحى لدينا مراسم عزاء وأنت ستشارك فيها، وعليك البقاء هنا”.
– “لا مشكلة، ولكن أرجو أن يكون دوري قصيرًا، إن شاء الله سآتي في عيد الأضحى”.

وداع الأب والأمّ
ودّع عبَّاس والديه وغادر، عندما استقلّ السيارة وتحرّك، نظر إلى الوراء عدّة مرّات، ثمَّ مضى وتوارت سيّارته خلف المنعطف. اضطربت والدته اضطرابًا شديدًا وهاج قلبها، نظرت إلى الحاج إسماعيل وقالت: “إنّها المرّة الأولى التي يُودِّعنا فيها عبَّاس على هذا النحو، إنّي قلقة عليه!!”.

ابتسم الحاج إسماعيل ونظر إليها قائلًا: “لا تقلقي يا حاجّة, إنّه في كنف الله ورعايته”.

ردّدت والدته دعاء والده: “حفظك الله ورعاك يا ولدي عبَّاس، وكَلتُ أمرك إلى الباري” وفاضت عيناها بالدموع.

قراءة الدعاء
غادر عبّاس المدينة، أخرج من جيبه كُتيّبًا عبارة عن أدعية ومناجاة، انشغل بالدعاء، وبعد مضي ساعة قال لموسى صادقي الذي كان يقود السيَّارة: “سأنام قليلًا، وعندما تشعر بالتعب أيقظني”.

لم تمضِ دقائق حتَّى هبَّ من نومه صارخاً بصوتٍ عال.

ارتاع قلب “موسى صادقي” عند سماع صوت عباس وسأله عن

السبب، اعتذر منه عبَّاس، وقال: “كنت في حلمٍ”. كانت الساعة الرابعة صباحًا عندما وصلا إلى قاعدة “همدان” الجويّة حيث قام عبَّاس بتنفيذ عدّة طلعات جويّة حتَّى المساء.

وفي الليل، كلّما حاول “عظيم دربند سرى” – أحد رفاقه في الحرب – النوم، لم يستطع. حدّث نفسه قائلًا: “ما سرّ هذه الليلة؟! ولماذا أنا أرقٌ إلى هذا الحدّ؟!” توجّه نحو غرفة العمليَّات، وقبل أن يدخل سمع صوت عبَّاس يقرأ القرآن: ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ ، ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ .
فتح “عظيم” الباب بهدوء وجلس في زاوية الغرفة يراقب حال عبَّاس.

تدمير منشآت العدوّ
حلَّ عيد الأضحى في يوم الجمعة 7 آب لعام 1987م. ركب القائد “عبَّاس” الطائرة برفقة “العقيد نادري” للمرّة الأخيرة، بعد أن نفّذت الطائرة غارةً على منشآت العدو وأصابتها بدقّة فاشتعل جبل من النار امتلأت بعده السماء بالدخان.. ارتفع صوت القائد عبَّاس في قمرة الطائرة: “الله أكبر الله أكبر الله أكبر”, ثمّ قال: “سأغير على قوّات العدوّ المدرَّعة”. ما هي إلاّ لحظات حتَّى انهمر وابل من النيران على رؤوس الأعداء، وبعد إتمام المهمّة قال عبَّاس: “سيِّد محمّد فلنرجع”.

كان العقيد نادري صامتًا. أمّا عبَّاس، فكان يتمتم بمصرع بيتٍ من رثاء مسلم: “مسلم يقرؤك السلام يا حسين”.

فجأة دوّى انفجارٌ

مهيب في الطائرة, قلب كلَّ شيءٍ رأسًا على عقب. في تلك اللحظة شعر كأنّه يطوف حول الكعبة، وراح يدمدم بصوتٍ هادئ وضعيف: “لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك…” ولم يكمل بقيَّة كلامه.

التحليق الأخير
أحسّ العقيد نادري بألم شديد في ظهره وركبته، وأصيب بدوارٍ شديدٍ، احتار ماذا يفعل، وبعد محاولاتٍ عديدة استطاع أخيرًا أن يهبط بالطائرة.

خرج من قمرة القيادة منهك القوى، مشى بعيدًا عن الطائرة بقدمين مرتجفتين، ونظر إلى قمرة عبَّاس المتحطّمة.

اقترب أحد أصدقائه منه، نظر العقيد نادري حوله، ثمَّ نظر إلى الطائرة، ورمى بنفسه بين ذراعي صديقه وبكى بشدّة.

كان الرائد “بالازاده” أوّل الواصلين إلى قمرة القيادة، ثم خرج بسرعة من الطائرة، وبعد أن وصل أمام الجموع في المأتم المهيب، ضرب بيده على رأسه مناديًا: “عبَّاس داخل القمرة”.

وآخر ما سُمِع في تلك الظهيرة صوت المؤذِّن الذي علا في فضاء المدرج: “الله أكبر الله أكبر الله أكبر”. عند لحظة أذان ظهر عيد الأضحى، حُمِل جثمان الشهيد “عبَّاس بابايى” على أكف الأحبّة، ونقل بسيّارة الإسعاف إلى المستشفى .

حدس الزوجة
تقول زوجة الشهيد عبَّاس: “في ذلك اليوم كنت في مكّة، لم أُنهِ الركعة الثانية من صلاتي حتّى شعرت بطوفانٍ يتلاطم في أعماقي، ولفَّ السواد ناظري، حاولت السيطرة على نفسي إلاّ أنَّ الدموع غلبتني”.