الرئيسية / تقاريـــر / العداء بين إيران وأمريكا… لماذا لن يتوقف؟ – مصطفى قطبي

العداء بين إيران وأمريكا… لماذا لن يتوقف؟ – مصطفى قطبي

هل يغير التقارب الأميركي الإيراني تاريخاً من العداء ويفتح الباب أمام حلول طال انتظار حلها، فيشكل نقطة سوداء في إسرائيل، قد يكون عكسها عربياً…؟ في الواقع، إن العداء الأمريكي تجاه إيران هو في معظمه حول سياسات القوة من الطراز القديم، حيث في عام 2003 اعترف وزير الخارجية الأمريكية الأسبق كولن باول أن امتلاك إيران للأسلحة النووية من شأنه الحد من قدرة الولايات المتحدة الأميركية على استخدام القوة في المنطقة.‏

فهل فرضت طهران مصالحها فرضاً وعولت على الجناح (البراجماتي) في السلطة الأميركية ضد الجناح (الأيديولوجي) على عكس ناتنياهو؟ ثم هل هناك إتفاق سري بين واشنطن وطهران؟ هل توصل الرئيس أوباما إلى درجة التحالف الخفي بين الولايات المتحدة وجمهورية إيران الإسلامية؟

هذه هي الأسئلة الحارقة التي تتردد على ألسن الدبلوماسيين والإعلاميين والخبراء وهي أسئلة مشروعة حين نرى التغيير الطارئ والسريع والعجيب على موقف واشنطن من إيران أي من الملفين الخطيرين المتعلقين بايران وهما: ملف النووي وملف الدعم العسكري الإيراني في منطقة الحروب الدائرة رحاها في العراق وسوريا ومنطقة الأزمات المتفاقمة في اليمن ولبنان ومصر.

لا ننسى أن ثمة تاريخاً طويلاً من الصراع المرير بين أمريكا وإيران وأن أمريكا سعت كثيراً للحفاظ على نظام الشاه والحيلولة دون سقوطه من خلال إبداء العداء العلني للثورة الإيرانية التي تفجرت منذ عام 1978 ونجحت في بداية عام 1979 ومع هذا لم تبادر طهران بعد الثورة إلى قطع العلاقات فوراً مع واشنطن نظراً لاختيار قيادة الثورة وجوها ليبرالية موالية للغرب، لكن الاندفاع الثوري والشبابي في إيران تخطى آنذاك حدود الأعراف الدبلوماسية من خلال مهاجمة واحتلال السفارة الأمريكية في طهران واعتقال جميع الدبلوماسيين الأمريكيين الـ 66 وعدهم رهائن حتى تذعن واشنطن لمطالب قيادة الثورة الإيرانية. وبذلت واشنطن محاولات لإنقاذ رعاياها من خلال عملية عسكرية فاشلة في صحراء طبس الأمر الذي عقد الأمور وتدهورت العلاقات بين البلدين إثر قيام النظام العراقي آنذاك بشن غزو شامل على إيران متهماً إياها بالتدخل في شؤونه وأنها تريد تصدير ثورتها إلى دول عربية.

وفي أعقاب هذه التطورات بادرت أمريكا إلى قطع علاقاتها الدبلوماسية مع إيران ما أدى إلى إسقاط حكومة مهدي بازركان المعتدلة وذات الميول الغربية ولم تنته أزمة الرهائن الأمريكيين المعتقلين في إيران إلا بعد مرور 444 يوماً على اعتقالهم وقد أفرج عنهم بوساطة جزائرية ومن خلال توافق سياسي عرف آنذاك باتفاق الجزائر ينص أساساً على إلزام الطرفين بالاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤون كل طرف والحفاظ على مصالح البلدين من خلال تعيين وتوكيل طرف ثالث.

وكانت هذه الاتفاقية هي الأولى من نوعها بين أمريكا وإيران بعد الثورة، وهي الاتفاقية التي يعتقد الرئيس حسن روحاني أنها اللبنة الأولى التي يمكن البناء عليها وبدء الحوار الدبلوماسي من خلالها لحل الأزمات المستعصية والشائكة والمزمنة التي لا يمكن حلها أو تبديد إشكالاتها إلا إذا توافرت إرادة واقعية وعزم مشترك وحسن نيات قد يفتقدها حالياً الطرفان اللذان يتهم كل واحد منهما الآخر بأنه يهدد مصالح الطرف الثاني وانه لا سلام ولا مصالحة بين البلدين إلى يوم الحساب أو بعد سقوط أي طرف منهما…

منذ تسلم الشيخ حسن روحاني الحكم في إيران، أمل عديدون أن يتمكن ذاك الإصلاحي من إحراز تقدم على هذا الخط الساخن، ليبعد عن إيران تلك ”الحرب” الدائرة عليها نفسياً وضغطاً، والتي قد تتطور عسكرياً، لتصبح لها قابلية التفاهم والتفهم على قاعدة قبول أفكار إيران ولو بالحد الأدنى. حيث تعتبر السيطرة على الشرق الأوسط هي واحدة من ركائز القوة العالمية الأميركية، حيث هيمنت الولايات المتحدة على الشرق الأوسط منذ عام 1945 ولكن إيران الإسلامية التي برزت بعد عام 1979 مثلت تحدياً قوياً لهيمنة الولايات المتحدة في المنطقة والسيطرة على طاقته.‏
في أواخر الثمانينيات، تدخّل الرئيس رونالد ريغان في الحرب الإيرانية ـ العراقية، واصطف مع صدام حسين لتغيير مسار الصراع وتحقيق فوز عراقي، فشاركت الولايات المتحدة في حرب بحرية وجوية دموية (حتى لو كانت غير معلنة) ضد إيران، بينما خاض العراق حرباً برية ضارية، لذا لا بد من مراجعة الدروس المستخلصة من أول حرب أمريكية مع إيران قبل شن حرب ثانية.
كانت الحرب بين إيران والعراق مدمِّرة، بل كانت واحدة من أكبر وأطول الحروب التقليدية بين الدول، منذ الصراع الكوري في عام 1953، فقُتل خلالها نصف مليون شخص وجُرح مليون شخص آخر على الأرجح، وفاقت الكلفة الاقتصادية حدود التريليون دولار، لكن خطوط المعركة بقيت في نهاية الصراع كما كانت عليه في بدايته، وكانت هذه المعركة بمنزلة الحرب الوحيدة في التاريخ الحديث التي استُعملت فيها الأسلحة الكيماوية على نطاق واسع.
أدى الصراع بين عامي 1980 و1988 إلى كوارث أخرى، بما في ذلك الغزو العراقي للكويت عام 1990 والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، لكن ربما لم يكن الصراع المحلي الدموي في العراق غداة تلك الأحداث النتيجة النهائية لهذه المسيرة الجنونية، فقد زُرعت بذور المأساة بين الأجيال المختلفة خلال الحرب بين إيران والعراق، ولا شك أننا سنواجه تداعيات تلك الحقبة طوال عقود أو أكثر. وأول درس يجب أن نتعلمه من الماضي هو توقع إلقاء اللوم على الولايات المتحدة في جميع الأخطاء المرتكبة، إذ اقتنع العراقيون والإيرانيون بأنها كانت تتلاعب بهم خلال تلك الحرب، وتكمن المفارقة في واقع أن واشنطن حاولت بكل سذاجة التواصل مع المقاتلين من الجانبين سراً، وعرضت على كل فريق منهما شراكة استراتيجية.
كذلك، اقتنع العراقيون بأن الولايات المتحدة كانت تتلاعب بالفريقين بعد السياسة الكارثية المبنية على تبادل الأسلحة مقابل الرهائن في منتصف الثمانينيات، حين باعت الولايات المتحدة الأسلحة إلى إيران واستعملت تلك المبالغ لتمويل العصابات المعادية للشيوعية في نيكاراغوا، ونتيجة لذلك، اعتبر النظام العراقي ومعظم المواطنين العراقيين بعد انتهاء الحرب أن الولايات المتحدة تطرح تهديداً عليهم، رغم الدعم الكبير الذي قدمه الأمريكيون خلال تلك الحرب التي شملت تقاسم المعلومات الاستخبارية، وتوفير الغطاء الدبلوماسي الفاعل، وتجاهل معظم الحلفاء العرب الذين أقرضوا بغداد عشرات مليارات الدولارات بهدف متابعة جهود الحرب في العراق.

في المقابل، اعتبر الإيرانيون أن تلك الحرب فُرضت عليهم لأنهم يظنون أن الولايات المتحدة أشعلت فتيلها، ووجهت الرأي العام العالمي إلى دعم العراق، رداً على قرار إيران باحتجاز رهائن من الدبلوماسيين الأمريكيين عام 1979. ويذكر الإيرانيون أن الأمم المتحدة امتنعت عن إدانة العراق لأنه بدأ الحرب (حتى أنها لم تناقش تلك الحرب بعد أسابيع من انطلاقها)، ثم لامت الأمم المتحدة العراق باعتباره الطرف المعتدي بعد سنوات عدة كجزءٍ من اتفاق لتحرير الرهائن الأمريكيين الذين احتُجزوا في لبنان!

صحيح أن تلك الحرب ترافقت مع عواقب مأساوية بالنسبة لإيران، ولكنها مكّنت النظام من تفعيل الثورة الإسلامية عام 1979 وكانت مدة الثورة قصيرة وبقيت كلفتها ضئيلة مقارنةً بغيرها. أما بالنسبة إلى جيل الإيرانيين الذين يقودون البلد اليوم، فكانت الحرب بين إيران والعراق حدثاً حاسماً ساهم في صقل رؤيتهم العالمية، ويمكن تفسير النزعة المعادية للولايات المتحدة والمخاوف العميقة من الغرب من خلال طريقة فهمهم لذلك الصراع، ولا عجب اليوم إذا أدت أي حرب جديدة إلى زيادة تصميم إيران على اكتساب أسلحة نووية.

ويمكن استخلاص درس آخر من الحرب الأولى، بأن إيران لم تخاف بسهولة من الولايات المتحدة، إذ كانت إيران في أسوأ حالاتها في عام 1987، فقد دُمِّر عدد من مدنها مثل مركز تكرير النفط في عبدان، وكانت صادراتها النفطية ضئيلة، وكان اقتصادها متدهوراً، ومع ذلك، لم تتردد إيران في محاربة البحرية الأمريكية في الخليج واستعمال الوسائل المختلفة للرد في لبنان وأماكن أخرى، حتى عندما أغرقت البحرية الأمريكية معظم السفن الإيرانية، تابع الإيرانيون القتال واصطفوا وراء آية الله الخميني الذي كان زعيم البلد حينئذ.
كذلك، خاضت إيران حرباً ذكية فتجنبت تصعيد الوضع بشكل سريع وخطير، واعتبر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية، الجنرال مارتن ديمبسي، أن السلوك الإيراني منطقي وليس انتحارياً، فلن تتخذ إيران أي خطوات تهدد صمود النظام، بل إنها ستسعى إلى استغلال نقاط ضعف الأمريكيين في أفغانستان وغيرها ونقاط ضعف إسرائيل في لبنان وغيرها.

إن المسار المنطقي بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية هو الترحيب بالانفتاح الإيراني وعلاوة على ذلك، على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقبل في مرحلة ما بأن إيران هي قوة إقليمية مؤثرة مع مصالحها المشروعة الخاصة بها في المنطقة واذا كانت واشنطن تريد حقاً الاستقرار بدلا من طاعة إسرائيل فقط، ينبغي لها أن ترحب بمبادرات إيران وانفتاحها.‏

لا نقول إن هنالك منتصراً ومهزوماً في العلاقات الإيرانية الأميركية… هنالك منتصران أميركي وإيراني الأول أخرج نفسه من ورطة كادت لو وقعت لوضعت الولايات المتحدة أمام محكها التاريخي في المنطقة، والثاني أنه تم الاعتراف له بالحقيقة التاريخية التي رفعها حول نوويته. أما السؤال الذي لم يطرح بعد، فهل تقبل إسرائيل هذا التطور أم تندفع في ظروف الغزل الأميركي الإيراني إلى إعادة توريط أميركا بتوجيه ضربة مفاجئة لإيران، أم أن إسرائيل ستعترف ذليلة بنجاح المشروع الإيراني الذي أثبتت جذوره في المنطقة أنه الأقوى بين كل المشاريع.

اليوم، وبعد تحرر إيران وتجاوزها للكثير من العقوبات والحظر الدولي، تبدو مسؤوليتها أكبر تجاه باقي قوى هذا المحور شبه المحاصرة انطلاقاً من قدرتها على التحرك سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً بحرية مطلقة، ومما يفرض عليها وبالتعاون مع حلفائها في محور المقاومة وأصدقائه كبح جماح الاندفاعة التركية ضد الدولة في سورية بشكل نهائي وحاسم بعدما طال زمن عبثها في الداخل السوري… وتبدو أزمتها وأزمة هذا المحور أعمق في العراق ـ الحليف الافتراضي حكومياً والواقعي شعبياً ـ في ظل صراع القوى المكونة للسلطة على مواقعها ومغانمها أو ما تبقى منها، وعودة الخطاب الدولي والإقليمي حول إمكانية وضرورة تقسيمه إلى كانتونات طائفية ومذهبية إلى الواجهة مع ما يعني ذلك من تكريس لوجود ”داعش” كحالة مذهبية على مساحة جغرافية واقتصادية توفر لهذا التنظيم أسباب الحياة والصمود وما يعنيه أيضاً من تساؤلات عن جدية المسعى الأميركي للقضاء عليه.

شاهد أيضاً

الشهيد سمير عبد الكريم مرزه الملكي – 127 أبوشهاب

ولد الشهيد في عام 1967م في العاصمة بغداد، شارع الكفاح، وتربى في أحضان أسرة غرست ...