الفصل الأول
الجواد في ظلِّ أبيه عليهما السلام
ظروف ما قبل الميلاد:
لو عدنا قليلاً إلى الوراء . . أي إلى ما قبل مولد أبي جعفر الثاني عليه السلام بسنة أو نحوها ، لوجدنا أن ظروفاً عصيبة مرّت بأبيه الاِمام الرضا عليه السلام ، الذي عانى في أخريات سني حياته الشريفة من أزمات حادة ، كان يثيرها بعض الواقفة والانتهازيين؛ للتشكيك بإمامته عليه السلام بعدم إنجابه الوَلَد . ذلك أنّه كان مركوزاً في الذهنية العامة للمسلمين أنّ من علامات الاِمام المعصوم أن يخلفه إمام من صلبه ، إذ لا تكون الاِمامة في أخ أو عمٍّ أو غيرهم ، فقد سُئل الاِمام الرضا عليه السلام ، أتكون الاِمامة في عمٍّ أو خالٍ ؟ فقال : « لا ، فقلت : ففي أخ ؟ قال : لا ، قلت : ففي مَن ؟ قال : في ولدي ، وهو يومئذٍ لا ولد له » (1) .
وأغلب الظنّ أنّ الاَيدي العباسية لم تكن بعيدة عن ساحة قدس الاِمام الرضا عليه السلام في التنقيب وافتعال الحوادث والمواقف للنيل من إمامته عليه السلام والطعن فيها .
نعم ، من هنا كانت معاناة الاِمام أبي الحسن الرضا عليه السلام تتزايد يوماً بعد
____________
1) اُصول الكافي | الكليني 1 : 286 | 3 كتاب التوحيد .
يوم ، خاصة وقد امتدّ به العمر إلى نحو الخامسة والاَربعين ، ولم يكن قد خلّف بعدُ ( الولد ) الذي يليه بالاِمامة ، ثم الذي زاد المحنة سوءاً هو تكالب بعض إخوته وعمومته وأبناء عمومته من العلويين والعباسيين عليه ، حسداً من بعضهم ، وبغضاً وكرهاً من البعض الآخر . . وثمّة تأليب الانتهازيين والسلطويين على البيت النبوي عموماً ، حيث أثاروا جميعاً حول شخصية الاِمام العظيمة غبار حسدهم وأحقادهم الدفينة .
لكنّ الاِمام عليه السلام كان يقف أمامهم بحزم . . ويجيبهم جواب الواثق المطمئن من نفسه بأنّ الليالي والاَيام لا تمضي حتى يرزقه الله ولداً يُفرّقُ به بين الحق والباطل . هذا الموقف نستشفّه من رواية محمد بن يعقوب الكليني ، قال : كتب ابن قياما (1) إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام كتاباً يقول فيه : كيف تكون إماماً وليس لك ولد ؟
فأجابه أبو الحسن عليه السلام : « وما علمك أنّه لا يكون لي ولد ؟ ! والله لا تمضي الاَيام والليالي حتى يرزقني الله ذكراً يُفرّق بين الحق والباطل ») (2) .
وينقلنا الكليني عليه الرحمة إلى مشهد آخر مع نفس هذا الواقفي ، وهو يصف حواره مع الاِمام الرضا عليه السلام بقوله : دخلتُ على علي بن موسى ، فقلت له : أيكون إمامان ؟ قال : «لا ، إلاّ أن يكون أحدهما صامتاً » . فقلت له : هو ذا أنت ، ليس لك صامت ! فقال لي : « والله ليجعلنَّ الله مني ما يُثبت به الحق وأهله ، ويمحق به الباطل وأهله » ولم يكن في الوقت له ولد ، فولد له أبو
____________
1) ابن قياما الواسطي : واقفي ، مخالف معروف .
2) اُصول الكافي 1 : 320 | 4 ، وعنه نقل الشيخ المفيد في الارشاد 2 : 277 بواسطة أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه . وراجع إثبات الوصية | المسعودي : 183 .
جعفر عليه السلام بعد سنة (1) .
وحتى بعد مولد أبي جعفر التقي عليه السلام لم يكن المشككون منفكّين من محاولاتهم تلك حتى رأوا البيّنة وأذعنوا لها صاغرين ، هم ومن جاءوا بهم من القافة أجمعين . وهنالك رقى ابن الرضا عليه السلام درجات منبرٍ ، وألقى خطبة قصيرة بليغة ، وصلت في مداها أقصى غاية المنى في تأنيب المشككين ، وردع ( الواقفة ) والمتصيدين في الضباب ، أو عكرٍ من الماء ، حين طعنوا في بنوّة أبي جعفر عليه السلام وانتسابه للاِمام الرضا عليه السلام . فلقد جاءوا بالاِفك ، وقول الزور . . وإنّه لكبير ما ادّعوه على قدس الاِمامة ، والشرف الباذخ للبيت النبويّ الطاهر .
مطهّـرون نقيّـات ثيـابـهم * تجري الصلاة عليهم كلّما ذكروا
كانت هذه لمحة ضوء خاطفة تطلّعنا من خلال أشعتها على بعض الظروف التي واكبت وسبقت ولادة الاِمام أبي جعفر الجواد عليه السلام . . ثم يحين اليوم الموعود . .
بشرى المولد العظيم :
« اللهمّ إنّي أسألك بالمولودين في رجب محمد بن علي الثاني ، وابنه علي بن محمد المنتجب . . . » (2) الدعاء .
هذا الدعاء أورده شيخ الطائفة الطوسي رحمه الله ( ت | 460 هـ ) في مصباح
____________
1) اُصول الكافي 1 : 321 | 7 . والارشاد 2 : 277 ـ 278 .
2) الاِمام علي بن محمد التقي يلقّب بالنجيب أيضاً ، وأن أباه الاِمام الجواد عليه السلام يلقّب بالمنتجب ، فلاحظ .
(14)
المتهجّد (1) ، وابن عياش أحمد بن محمد بن عبدالله الجوهري صاحب كتاب ( مقتضب الاَثر ) ، وقيل هو دعاء مأثور عن صاحب الاَمر عليه السلام ، قال ابن عياش : خرج إلى أهلي على يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه في مقامه عندهم . وبه أخذ بعض المؤرخين بناء على نقل ابن عياش من أن مولد الجواد عليه السلام كان في يوم الجمعة العاشر من رجب سنة ( 195 هـ ) الموافق لسنة ( 811 ) الميلادية . وهو التاريخ المعمول به عند الطائفة اليوم .
لكن العلماء ومشايخ الطائفة يذهبون إلى أن ولادته الميمونة كانت في شهر رمضان من عام ( 195 هـ ) ، وترددوا بين ( 15 ، 17 ، 18 ، 19 ) منه ، ولعلّ ثانيها (2) هو الاَرجح من بين هذه التواريخ ، لكن الاَكثر قال بالتاريخ الاَخير بناءً على نقل اللاحق عن السابق (3) .
وأما حدث المولد العظيم وساعته وما جرى فيه من الكرامة فتحكيه السيدة الكريمة حكيمة بنت أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام قالت : ( لمّا حضرت ولادة الخيزران أم أبي جعفر عليه السلام دعاني الرضا عليه السلام ، فقال : « يا حكيمة احضري ولادتها » ، وأدخلني وإيّاها والقابلة بيتاً ووضع لنا مصباحاً ، وأغلق الباب علينا .
فلمّا أخذها الطلق طفئ المصباح ، وكان بين يديها طست ، فاغتممت بطفء المصباح ، فبينا نحن كذلك إذ بدر أبو جعفر عليه السلام في الطست ، وإذا
____________
1) مصباح المتهجّد وسلاح المتعبّد : 741 .
2) إعلام الورى 2 : 91 . وتاج المواليد | الطبرسي أحمد بن علي ( ت | 548 هـ ) : 52 المطبوع ضمن كتاب « مجموعة نفيسة » .
3) اُصول الكافي 1 : 492 . والاِرشاد 2 : 273 . وعيون المعجزات : 121 . ومناقب آل أبي طالب 4 : 379 . وكشف الغمة 3 : 135 .
(15)
عليه شيء رقيق كهيئة الثوب يسطع نوره حتى أضاء البيت فأبصرناه فأخذته فوضعته في حجري ونزعت عنه ذلك الغشاء . فجاء الرضا عليه السلام وفتح الباب وقد فرغنا من أمره ، فأخذه ووضعه في المهد ، وقال لي : « ياحكيمة إلزمي مهده » .
قالت : فلمّا كان في اليوم الثالث رفع بصره إلى السماء ثم نظر يمينه ويساره ثم قال : « أشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله » . فقمت ذعرة فزعة فأتيت أبا الحسن عليه السلام ، فقلت : سمعت من هذا الصبي عجباً . فقال : « وما ذاك ؟ » ، فأخبرته الخبر . فقال : « يا حكيمة ما ترون من عجائبه أكثر » (1) .
رعاية أبوية خاصة:
ليس أمراً غريباً أن يكتنف الاِمام الرضا عليه السلام وليده برعاية وعناية خاصتين ، بل ويحيطه بهالة من التعظيم والتبجيل وهو طفل رضيع ، ذلك أن أبا جعفر هو وحيد الاِمام أبي الحسن الرضا عليه السلام الذي رُزقه بعدما جاوز عليه السلام الخامسة والاَربعين من العمر ، فعليه تكون الاِمامة منحصرة بوليده الفرد . لهذا كلّه فقد كان إمامنا الرضا عليه السلام يوليه تربية خاصة ، وعناية زائدة ، كما كان يتوسم فيه بركة وخيراً عظيماً على شيعته ومحبيه .
فعن يحيى الصنعاني ، قال : دخلت على أبي الحسن الرضا عليه السلام وهو بمكة وهو يقشّر موزاً ويطعم أبا جعفر عليه السلام ، فقلت له : جعلت فداك هو المولود المبارك ؟ قال : « نعم يا يحيى ، هذا المولود الذي لم يولد في الاِسلام مثله مولود أعظم بركة على شيعتنا منه » ) (2) .
____________
1) مناقب آل أبي طالب 4 : 394 . والفصول المهمة | ابن الصباغ المالكي : 208 ـ 209 .
2) الفروع من الكافي 6 : 360 | 3 .
(16)
وينقل لنا الرواة والمؤرخون أيضاً كيف أنّ الاِمام الرضا عليه السلام كان يترقب وبشوق بالغ ، ولهفة عجلى مولد ابنه محمداً ، فلما ولد كان عليه السلام يلازم مهده ، وفي بعض الاَحيان كان يناغيه وهو في مهده طول ليلته (1)؛ بل إنّ علقته بطفله الرضيع بلغت حداً أنّه عليه السلام كان يلازم مهده لعدة ليالٍ حتى إن أحد شيعته كلمه في أن يكف عن كثرة ملازمته لمهد وليده قائلاً له : جُعلت فداك ، قد وُلد للناس أولاد قبل هذا ، فكل هذا تعوّذه ؟
لقد ظن هذا المعترض أن الاِمام أبا الحسن عليه السلام ، ولشدة حبّه لمولوده ، فإنّه يخاف عليه من عيون الحسّاد؛ لذلك فهو يعوّذه طوال هذه المدة . لكن الاِمام عليه السلام أجاب المستفهم بأن حنوّه على ولده ليس لغرض التعويذ ، بل إنّه عليه السلام يلقي إليه أمر الاِمامة وعلومها ، بقوله : « ويحك ليس هذا عوذة ، إنّما أغرّه بالعلم غرّاً » (2) ، كما كان يطعمه بنفسه ، وما كان يفارقه طويلاً ، حتى إنّه عليه السلام ليصطحبه في سفره وتنقلاته داخل المدينة وخارجها تنويهاً به عليه السلام ، وزيادة في إعظامه وإكرامه .
وأما تعظيم الاِمام الرضا عليه السلام لمولوده المبارك ، فإنّه ما كان يناديه إلاّ بكنيته منذ نعومة أظفاره ، فقد تحدّث محمد بن أبي عبّاد وكان يكتب للرضا عليه السلام ، ضمه إليه الفضل بن سهل ، قال : ما كان عليه السلام يذكر محمداً ابنه إلاّ بكنيته ، ويقول : كتب إليّ أبو جعفر . . وكنت أكتب إلى أبي جعفر . . وهو صبيّ بالمدينة ، فيخاطبه بالتعظيم ، وترد كتب أبي جعفر عليه السلام في نهاية البلاغة والحُسن ، فسمعته يقول : « أبو جعفر وصيي وخليفتي في أهلي من
____________
1) عيون المعجزات : 121 . وعنه بحار الاَنوار 50 : 15 | 19 .
2) إثبات الوصية : 183 .
(17)
بعدي » (1) ، وربما كتب إليه الاِمام الرضا عليه السلام : فداك أبوك !!
فقد روى العياشي عن محمد بن عيسى بن زياد . قال : كنت في ديوان أبي عباد ، فرأيت كتاباً يُنسخ فسألت عنه فقالوا : كتاب الرضا إلى ابنه عليهما السلام من خراسان ، فسألتهم أن يدفعوه إليّ فإذا فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، أبقاك الله طويلاً وأعاذ من عدوّك يا ولد ، فداك أبوك … » ثم يوصيه عليه السلام بالاِنفاق وخاصة على الهاشميين من قرابته ، ويختم كتابه بقوله : « وقد أوسع الله عليك كثيراً ، يا بنيّ فداك أبوك لا تستر دوني الاَمور لحبّها فتخطئ حظّك ، والسلام » (2) .
ويبلغ حبّ الوالد لولده مداه ويغرق فيه نزعاً ، حتى يوصله إلى امتزاج روحيهما في روح واحدة هي روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
ذلك الاغراق في الحبّ والمودّة يوقفنا عليه بنان بن نافع في خبر يرويه حول محاورة في الاِمامة جرت بينه وبين الاِمام الرضا عليه السلام من جهة وبين الاِمام الجواد عليه السلام من جهة اُخرى .
يقول ابن نافع في نهاية الخبر : ثم دخل علينا أبو الحسن ، فقال لي : « يابن نافع سلّم واذعن له بالطاعة ، فروحه روحي وروحي روح رسول الله » (3) .
وأخيراً ينقل لنا صاحب كتاب دلائل الاِمامة خبراً عن أُمية بن علي القيسي الشامي يمكننا من خلاله الوقوف على درجة العلاقة بين الوالد والولد ، وشدة حبّ الوالد لولده واهتمامه به من جهة ، ومدى تعلّق الولد
____________
1) عيون أخبار الرضا 2 : 266 باب 60 . وعنه بحار الاَنوار 50 : 18 | 2 .
2) تفسير العياشي 1 : 131 ـ 132 .
3) مناقب آل أبي طالب 4 : 388 .
(18)
بوالده من جهة اُخرى ، فقد نقل قول أُمية : كنت مع أبي الحسن عليه السلام بمكة ، في السنة التي حجّ فيها ، ثم صار إلى خراسان ، ومعه أبو جعفر ، وأبو الحسن عليه السلام يودّع البيت ، فلمّا قضى طوافه عدل إلى المقام فصلّى عنده ، فصار أبو جعفر إلى الحجر فجلس فيه ، فأطال . فقال له موفق : قم جُعلت فداك . فقال : « ما أريد أن أبرح من مكاني هذا إلاّ أن يشاء الله » ، واستبان في وجهه الغم . فأتى موفق أبا الحسن عليه السلام فقال له : جُعلت فداك قد جلس أبو جعفر في الحجر ، وهو يأبى أن يقوم ، فقام أبو الحسن عليه السلام فأتى أبا جعفر فقال : « قم ياحبيبي » . فقال عليه السلام : « ما أريد أن أبرح من مكاني هذا » . قال عليه السلام عليهم السلام « بلى ياحبيبي » . ثم قال عليه السلام : « كيف أقوم وقد ودّعت البيت وداعاً لاترجع إليه » ؟ فقال له عليه السلام : « قم يا حبيبي » ، فقام معه (1) .