الوقت – منذ إحتلاله لأرض فلسطين عام 1948 عمد الكيان الإسرائيلي إلى بناء وجوده على أساس القوة العسكرية بمساعدة الدول الغربية وفي مقدمتها أمريكا.
وطيلة العقود السبعة الماضية سعى الكيان الإسرائيلي إلى بناء منظومة أمنية تعتمد على أحدث التجهيزات العسكرية وأكثرها تطوراً في هذا المجال، كما قام بشن العدوان على الدول المجاورة بشكل متكرر لتنفيذ حلمه بالتوسع من النيل إلى الفرات، لكنه فشل في تحقيق هذا الحلم بفضل صمود الشعب الفلسطيني وفصائله المجاهدة لاسيّما حركتا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” وقوى المقاومة في المنطقة وفي طليعتها حزب الله لبنان والدول الداعمة له وفي مقدمتها إيران وسوريا.
وبما أن الكيان الإسرائيلي ولد نتيجة الغزو والإستيطان الإستعماري فإن “إرادة البقاء” هي التي تسيطر على جميع نشاطاته العسكرية وأغراضها وأسسها ومفاهيمها. وتتولد عن هذه الإرادة ثلاثة مفاهيم أساسية توجه الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية وترسم لها سبل العمل وطرائق التنفيذ، وهذه المفاهيم هي:
أولاً: الأمن؛ فمشكلة الكيان الإسرائيلي الأولى هي “أن يكون أو لا يكون”. ومن هنا غدت هذه المشكلة محور تفكيره وسلوكه. ومن هنا أيضاً نشأت تلك الثنائية التي يتصف بها مفهوم الأمن لديه؛ فهو حركي – عدواني في آن واحد لأنه يجد مجاله الحيوي في هذه الثنائية.
ثانياً: العنف؛ وهو وليد طبيعة الحركة الصهيونية ومبادئها، إذ أن حماية كيان قام على الغزو والعدوان لابدّ أن تخلق عقلية تعتنق مبادئ العنف والقتل والإبادة.
ثالثاً: حتمية الحرب؛ وهي مفهوم ينبثق من طبيعة إنشاء الكيان الإسرائيلي. ولذا فإن تاريخ هذا الكيان هو عبارة عن سلسلة متواصلة من الحروب العدوانية والاعتداءات والمعارك. وبذلك تصبح الحرب سلوكاً حتمياً يفرض نفسه على “إسرائيل” التي تعتقد بأن السياسة هي إمتداد للحرب على عكس المقولة المعروفة بأن الحرب هي إمتداد للسياسة وأداة لها.
وقد إستخدم الكيان الإسرائيلي في تطبيق إستراتيجيته العسكرية مبدأ الهجوم إستخداماً واسعاً. وجوهر الهجوم عنصران هما المبادأة والعمل التعرضي، فعليهما ترتكز نظرية الحرب الوقائية، والهجوم الإستباقي، والردع، والضربة الأولى، والحرب الخاطفة، وغير ذلك من أشكال الأعمال الهجومية.
وتجدر الإشارة إلى أن الدول العربية التي كانت تعرف بدول الممانعة والتصدي وفي مقدمتها العراق وسوريا ومصر قد خاضت ثلاث حروب كبيرة لدحر الكيان الإسرائيلي الغاصب في الأعوام 1948 و1967 و1973، واستمر هذا النهج إلى أن قام الرئيس المصري الأسبق “أنور السادات” بتغيير المسار من خلال توقيع إتفاقية التسوية مع الكيان الإسرائيلي عام 1978 والتي عرفت باسم “إتفاقية كامب ديفيد”. ولم تحصل بعد ذلك أيّ مواجهة عسكرية ضد هذا الكيان حتى ظهور المقاومة الإسلامية في لبنان المتمثلة بحزب الله وفلسطين المتمثلة بشكل واضح في حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
وخاضت المقاومة الإسلامية في لبنان مواجهات عسكرية واسعة ضد القوات الإسرائيلية كان أبرزها في عام 2000 عندما تمكن حزب الله من طرد هذه القوات من جنوب لبنان، وتوّجت هذه الانتصارات في تموز/ يوليو عام 2006 خلال الحرب التي عرفت بـ “حرب الـ 33 يوماً” التي حطمت أسطورة “الجيش الذي لايقهر” التي كان يتباهى بها الكيان الإسرائيلي قبل هذه الهزيمة المرّة.
كما تمكنت الفصائل الفلسطينية لاسيّما حماس والجهاد الإسلامي من صد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في الأعوام 2008 و2012 و2014 ما دفع كيان الإحتلال إلى بناء ما يسمى “الجدار الفاصل” مع القطاع. ولجأت المقاومة الفلسطينية في السنوات الأخيرة إلى حفر الأنفاق بين القطاع والأراضي المحتلة المحاذية له، ما تسبب بنشر الهلع والذعر في نفوس المستوطنين خشية من العمليات الفدائية للمقاومة.
ومن الوسائل الأخرى التي لجأ لها الكيان الإسرائيلي لمواجهة صواريخ المقاومة قيامه بنشر ما يعرف بـ “القبة الحديدية” التي كلّفت هذا الكيان نفقات طائلة دون أن تتمكن من منع المقاومة من تحقيق أهدافها في ضرب المواقع العسكرية والإستراتيجية الإسرائيلية.
ومن التحديات الأخرى التي تواجه كيان الإحتلال إنعدام الرغبة لدى الشباب الإسرائيلي بالإنخراط في صفوف الجيش والقوات الأمنية الإسرائيلية لخشيتهم من العمليات الإستشهادية التي ينفذها الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة خصوصاً بعد إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الثالثة التي عرفت بـ “إنتفاضة القدس” في مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2015 والتي أدت حتى الآن إلى مقتل أكثر من 40 عسكرياً إسرائيلياً وجرح نحو 500 آخرين حسب إعتراف المصادر الإسرائيلية ومن بينها “لجنة الإسعاف الرسمية”. وأدت هذه الإنتفاضة أيضاً إلى إرباك الجيش الإسرائيلي بحرمانه من التحرك كجيش نظامي، وإشغاله بالتحرك في شوارع المدن والتمركز على حواجز الطرقات، وملاحقة المنتفضين.
في سياق متصل كشف موقع مجلة “إسرائيل ديفنس” المختصة بالشؤون العسكرية قبل أيام بأن جيش الإحتلال يواجه أكبر أزمة في تاريخه، حيث لا يوجد ضباط يتولون مناصب برتبة نقيب بـ”الوحدة 8200″ الإستخبارية المعروفة باسم “أمان” التي أنشئت قبل ثلاثة عقود لتكون الذراع الإسرائيلي في التجسس والتنصت الإلكتروني والرصد والتشويش والتصوير باستخدام طائرات الإستطلاع والمناطيد وقاعدة تجسس كبيرة في النقب والشمال وغيرها. وتعد هذه الوحدة من أخطر الوحدات على الشعب الفلسطيني ومقاومته.
ومنذ نشر رئيس أركان الجيش الإسرائيلي “الجنرال غادي أيزنكوت” في أغسطس/آب من العام الماضي، علناً وللمرة الأولى في تاريخ الإحتلال الإسرائيلي، وثيقته المعروفة باسم “إستراتيجية الجيش الإسرائيلي” لم يتوقف الجدل في الأوساط الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، إلى جانب المستوى السياسي، حول طبيعة العلاقة بين قيادة الجيش والقيادة السياسية.
وحدّد أيزنكوت في وثيقته أن الإختبار الأكبر للجيش الإسرائيلي هو في قدرته على ضمان فترات طويلة من الهدوء قدر الإمكان، لإتاحة المجال أمام التطورات الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، ومراكمة القوة العسكرية لتكون قاعدة أكثر متانة. وعنى أيزنكوت بهذا القول ضرورة إعتماد مبدأ “غياب نمط الحرب الخاطفة” أو “الحسم العسكري بالشكل التقليدي” الذي ساد قبل العدوان الاسرائيلي الثاني على لبنان، وحروب “الرصاص المصبوب” ومن ثم “عمود السحاب” و”الجرف الصامد” على قطاع غزة. وحسب ما نشرته صحيفة “هآرتس” في 26 يوليو/تموز الماضي، وصف أيزنكوت الجيش الإسرائيلي بأنه عبارة عن بيت من زجاج شفّاف.
وعلى هذه الخلفية وفي ضوء تجربة المقاومة اللبنانية المظفرة، ولدت نظرية “بيت العنكبوت” المنسوبة إلى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله التي فسّرها رئيس الأركان الإسرائيلي الأسبق الجنرال “موشيه يعلون” وفق الآتي “إنَّ إسرائيل دولة عسكرية، ولكن مجتمعها المدني، هو مجتمع ثري، مدلل غير مستعد للكفاح أكثر، والجيش الإسرائيلي قوي، ولإسرائيل تفوق تكنولوجي، وينسبون لها قدرة إستراتيجية لكن مواطنيها غير مستعدين للتضحية بحياتهم من أجل الدفاع عن مصالحهم وأهدافهم، ولذلك فإنّ إسرائيل هي كبيت العنكبوت، تبدو قوية من الخارج ولكن حين تلمسها تتفكك”.
فإلى متى تستمر إستراتيجية الاختباء الإسرائيلية؟ وحتى متى يبقى الكيان الإسرائيلي متحصناً خلف هذه الإستراتيجية؟ وأيّ ضعف إسرائيلي هذا الذي يجعل هكذا قوة عسكرية وأمنية قد تكون من بين الأقوى في العالم من حيث التجهيز، لا يجرؤ جنودها وضباطها وجنرالاتها وحتى قادتها السياسيون من الظهور بشكل واضح في الليل والنهار في كثير من المناطق؟ وكيف يمكن أن نفسّر هذا الأمر وانعكاسه على الكيان الإسرائيلي والمستوطنين فيه على المدى البعيد؟ وكيف يمكن لمن يختبئ في جحره أن يتمكن من حماية كيان أساسه العسكر؟ أليس كل ذلك يدلل أن “إسرائيل” أوهن من بيت العنكبوت؟ ولعل من أهم الإنجازات التي حققها حزب الله في تصديه للكيان الإسرائيلي هو أنه أثبت للعالم بأن هذا الكيان هو بالفعل أوهن من بيت العنكبوت.
ومن الأسباب الأخرى التي جعلت الجيش الإسرائيلي يواجه أزمة حقيقية في إستراتيجيته وتكتيكاته العسكرية هي:
– إتكال القيادة الإسرائيلية المفرط على سلاح الجو منذ أواخر تسعينات القرن الماضي، ومرد ذلك هو العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تضع ضمن أولوياتها تقليص الإصابات في صفوف جنودها.
– الإعتماد المتزايد على سلاح المدرعات في المعارك البرية مع إعطاء دور ثانوي لسلاح المشاة. ومرد ذلك أيضاً هو العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي تعطي أولوية لتقليص عدد الإصابات في جنودها.
– تأثير الإتكال المتزايد على التكنولوجيا على القدرات القتالية لسلاح المشاة، خاصة عند فشل المدرعات في تحقيق السيطرة الكاملة على أرض المعركة خلال مواجهة خصم محترف كحزب الله. كما أن الجيش الإسرائيلي يفتقر اليوم للضباط المتمرسين ممن شاركوا في الحروب السابقة كحرب عام 1973.
وفي ذلك تتبدى مفارقات كبيرة في وضع الكيان الإسرائيلي، فهذا الكيان قوي من ناحية التجهيز العسكري، إلاّ أن الهاجس الأمني يسيطر عليه باستمرار، كما أنه يشكو من عقدة الخوف وحتى الغياب الوجودي المستقبلي. فالجيش الإسرائيلي يستطيع أن يقتل ويدمر لكنه لا يستطيع أن يفرض الإستسلام على الآخرين، وهو معرض للهزائم المرّة في أي وقت، وهذا ما أثبتته التجارب بشكل واضح وجليّ.