إن الكلام عن الأسباب التي دفعت تركيا لأن تغيّر من سياستها تجاه سوريا انطلاقاً من البوابتين الروسية والإيرانية، يتطلّب التدقيق في: هل أن ذلك التغيير حقيقي أو مُحكم أم أنه تكتيكي أو متشابه، كما يتطلّب التدقيق في الأسباب التي منعت حلفاء تركيا من الاعتراض على ما ذهبت إليه.
يبدو الموقف التركي من عملية أستانة حمّال أوجه، وقد أثار تأويلات وتقديرات مختلفة إلى حد التناقض بين مُحكَمٍ ومُتشابَه، ولم تكن تركيا بريئة من ذلك، إذ أن مسؤوليها حرصوا على إطلاق تصريحات مختلفة، وقعت مواقع شتى لدى المتابعين والخبراء وصنّاع السياسات. وفي الوقت الذي قال فيه نائب رئيس الوزراء نعمان كورتولموش إن سياسة بلاده تجاه سوريا كانت مليئة بالأخطاء، كان أردوغان يؤكّد مرة بعد أخرى أن موقفه منها لم يتغيّر. وهكذا فإن الكلام عن الأسباب التي دفعت تركيا لأن تغيّر من سياستها تجاه سوريا انطلاقاً من البوابتين الروسية والإيرانية، يتطلّب التدقيق في: هل أن ذلك التغيير حقيقي أو مُحكم أم أنه تكتيكي أو متشابه، كما يتطلّب التدقيق في الأسباب التي منعت حلفاء تركيا من الاعتراض على ما ذهبت إليه. والمفارقة أن الانتقادات الأكثر حدّة تجاه تركيا جاءت من جانب أحد أكثر الأطراف حماساً لجذبها إلى مسار التسوية، أي إيران. وما دفع إيران لانتقاد تركيا قد يكون هو نفسه الذي دفع حلفاء الأخيرة للصمت، وهو بالضبط ما أعلن عنه مصدر في قيادة غرفة عمليات حلفاء سوريا من رصد “نقل تعزيزات كبيرة بشرية ولوجستية (دبابات ورشاشات محمولة وذخائر )، عبرت [من تركيا] نحو إدلب حيث تجري مناورات عسكرية تدريبية للوافدين الجُدد من المسلّحين وإعداد الإنتحاريين إلى جانب صيانة الدبابات والآليات العسكرية”. و”إن مستوى التعزيزات للمسلّحين التي يتم استقدامها على اختلافها وتنوّعها، هو مؤشر حقيقي على كذب ونفاق المعارضة ومشغّليها الذين كما يبدو لا يناسبهم ما يتم السعي للوصول إليه من تسويات ترفع عن هذا البلد العظيم سوريا المعاناة وعذابات المواطنين على اختلافهم”. و”كل المعطيات والمؤشرات تؤكّد وتثبت بالدليل القاطع وجود ضبّاط أتراك داخل الأراضي السورية ينظّمون ويديرون الجماعات المسلّحة ويحدّدون لها الأهداف ويرسمون لها الخطط”. (الميادين، 15 كانون الثاني/يناير الجاري). هنا يتبين للبعض الُمحكَم والُمتشابَه في موقف تركيا من الأزمة السورية. هذا يعني أن تركيا ماضية في عملية أستانة، على أمل أن تحقّق بالمفاوضات ما لم تحقّقه بالتورّط العسكري، فضلاً عن محاولة تحقيق اختراق طالما طمحت إليه وعملت عليه، وهو تعزيز الفروق أو الصدوع القائمة أو المحتملة بين روسيا وإيران، بكيفية تمكّنها وحلفائها من تحقيق وضع أفضل في المشهد السوري. ولو أن المهمة شاقة وغير مضمونة النتائج. تراهن أنقرة على أن تكون عملية أستانة مناسبة لمراجعة تداعيات التورط في سوريا، وخاصة مع تزايد الاستقطاب الداخلي وارتفاع مؤشرات التطرّف الديني والتوتّر الاجتماعي والضغوط الاقتصادية وغيرها. وقد عبَّرَ مسؤولٌ كبير في حزب الشعب الجمهوري المعارض عن أن أردوغان أخذ يقترب من المواقف التي كان حزبه يطالب بها منذ بدايات الأزمة السورية. ويبدو أن محاولة الانقلاب (تموز/يوليو الماضي) وتداعياتها الصادمة كانت مدخلاً مناسباً لتغيير الأجندة ولو على قاعدة المساومة والمفاضلة بين مختلف الخيارات والبدائل. وعملية أستانة هي رافعة للسياسة الخارجية التركية، ورهان على إعادة إنتاجها، بعد أن منيت بهزائم شتى جراء تورطها الدامي في أزمات المنطقة، وخاصة الأزمة السورية، ولكن من دون التخلي عن رهان التورط العسكري، ومن دون فك تحالفاتها العميقة والمعقدة مع السعودية والولايات المتحدة وأطراف أخرى. ويمكن تركيز رهانات تركيا على عملية أستانة في النقاط الرئيسة التالية: – إظهار الجدية والأهلية في علاقتها مع روسيا وإيران، وتوجيه رسائل متعددة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرهما أن بإمكانها الذهاب بعيداً في علاقاتها مع موسكو، حتى أنها لوّحت بإمكان إغلاق قاعدة إنجرليك. – إدراج الجماعات المسلّحة في عملية سياسية، وتحقيق مكاسب غير مسبوقة تتمثّل بشرعنتها وقوننتها في إطار اتفاق دولي. – تشكيل وفود الجماعات المسلّحة للمشاركة، والاحتفاظ بوزن نسبي أكبر في هذا الباب، ربما على حساب السعودية وأطراف أخرى. وقد أظهرت للعالم قوة وضعفاً في آن، قوة في إجبار عدد من الجماعات المسلّحة على المشاركة في أستانة، وضعفاً في عدم القدرة على فرض إرادتها أو رغبتها على جماعات مسلّحة أخرى، وفي هذا ترتيب قصدي ولا شك، آخذين بالاعتبار ما تضمّنه بيان غرفة عمليات حلفاء سوريا المذكور أعلاه من استمرار الدعم للجماعات المعترضة على عملية أستانة. – محاولة إدراج حزب الله والجماعات الحليفة لدمشق في كفة مقابلة للجماعات التي يفترض احتواء وجودها في سوريا، أي “داعش” و”جبهة النصرة”. وكان من اللافت أن تركيا شنّت حملة معادية لـ حزب الله مُشكّكة بالتزام الحزب والمجموعات الحليفة باتفاق وقف إطلاق النار. – احتواء تطوّر الحركية الكردية في شمال سوريا واستثنائها من عملية أستانة، وتشجيع الروس على خلق ديناميات طمأنة أو تعويض للكرد في إطار سوري. وعندما دعت الولايات المتحدة لإشراك القوات الكردية في أستانة، كان رد وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو بأن ذلك يتطلب إشراك “داعش” و”النصرة” أيضاً. – شرعنة الوجود العسكري التركي في شمال سوريا، وتقسيم سوريا إلى مناطق تفوذ وسيطرة تحت إشراف تركيا مقابل دور روسي مماثل في الجانب الآخر، وبالتالي استمرار وجودها ومصالحها مستقبلاً، بضمانات روسية وإيرانية والتي تأمل أن تصبح ضمانات دولية أيضاً. -الإقرار التكتيكي بشرعية نظام الرئيس بشّار الأسد، وإظهار تغيير في أجندة تركيا تجاه الحكومة السورية من محاولة إسقاطها بالقوة إلى محاولة إسقاطها بالاحتواء والتدخّل في عملية “الانتقال السياسي” و”التسوية”. وقد أشاعت تركيا تقديرات إعلامية وسياسية بأن عملية أستانة باعَدَت ما بين روسيا وإيران، وأنها سوف تحد من عمل الجيش السوري ضدّ المجموعات المسلّحة، وأدّعت أن مظلّة وقف إطلاق النار تشمل مسلّحي “جبهة النصرة” في وادي بردى الذين قطعوا مياه الشرب عن ملايين المواطنين في مدينة دمشق. ولكن السوريين والروس والإيرانيين قطعوا الطريق على تلك التقديرات، معلنين أن عملية أستانة تقتصر على مناقشة العمليات العسكرية ولن تتطرّق للجوانب السياسية، وأن نظام وقف إطلاق النار لا يشمل “جبهة النصرة”، كما أكّدت موسكو أن رعاية عملية أستانة هي ثلاثية تشمل طهران أيضاً، وأن من غير المناسب إطلاق تصرحيات تُظهر الأمور كما لو أنها ثنائية تقتصر على موسكو وأنقرة. وهكذا يذهب أردوغان إلى أستانة، من موقع الراعي والضامن للجماعات المسلّحة ولمصالح الحلفاء الآخرين، وهو إذ يُنحّي بعض رهاناته تجاه سوريا، إلا أنه يؤكّد في كل مناسبة أنه لن يغيّر موقفه و”لن يخلع صاحبه”.