حذف الحيعلة؟
وامتناع بلال عن التأذين؟
الصفحة 274
الصفحة 275
قبل البدء في بيان بحوث هذا الفصل لابدّ من معرفة معنى ما قاله أحد الصادِقَيْن(1) فيما رواه عنه أبو بصير، أنّه قال: إنّ بلالاً كان عبداً صالحاً فقال: لا أُؤَذِّنُ لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتُرِكَ يومئذ «حيّ على خير العمل»(2).
ولو ثبت هذا الخبر وصح الحديث لصار زمن سقوط حيّ على خير العمل من الأذان بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي عهد أبي بكر بالذات، وهذا يخالف المشهور بين الطالبيين والمتّفق عليه عند الشيعة الإمامية، والزيديّة، والاسماعيليّة، فإنّهم جميعاً قد أطبقوا على إسقاطها في عهد عمر بن الخطّاب، فما يعني ما رواه أبو بصير إذاً؟
الحديث الآنف هو بصدد التعريف ببلال الحبشي مؤذّن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأنّه كان صلب العود شجاعاً في مبادئه، وعبداً صالحاً، ومعناه: لو كان بلال مؤذناً في العصور اللاَّحقة لما تُرك حيّ على خير العمل ; وذلك لإيمانه وتقواه وثباته على العقيدة، لكن لما ترك بلال ـ بل اضطُرَّ إلى ترك ـ الأذان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان في ذلك فرصة للآخرين بالزيادة والنقيصة فيه(3).
ولك الحقّ أن تسأل عن علّة ترك بلال للأذان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعن
____________
1- أي الإمام الباقر أو الإمام الصادق (عليهم السلام).
2- من لا يحضره الفقيه باب الأذان والإقامة 1: 184 ح 872.
3- كزيادة (الصلاة خير من النوم) فيه أو نقيصة (حيّ على خير العمل) منه.
الصفحة 276
الأقوال التي قيلت في ذلك، وهل يصح حقاً ما نقل عن بلال بأنّه طلب من أبي بكر أن يذهب إلى الشام كي يرابط على ثغور المسلمين، أو أنّه قال: لا أطيق أن أؤذّن بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أو غير ذلك؟
إنّ الدقّة في معرفة سير الأحداث تفرض علينا أن نقول: إنّ ترك بلال للأذان لم يكن لمجرّد حالة نفسية وردّة فعل تجاه وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأنّ بلالاً كان أتقى وأورع من أن يترك منصباً نصبه فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) طيلة حياته، ذلك لأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم ينصّبه مؤذِّناً شخصيّاً له، بل أعطاه دور مؤذّن الإسلام، فكيف يترك هذا الدَّور الشريف لمجرّد موت النبيّ (صلى الله عليه وآله)؟! وهو أعلم الناس بما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في فضل الأذان والمؤذنين.
بل كيف تعقل صياغة عذر ترجيحه للجهاد في الشام على التأذين للمسلمين، مع أنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) أمر المسلمين أن ينضووا تحت لواء أُسامة وفيهم أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة، ومن الثابت أنّ بلالاً كان مستثنى من هذا الأمر الجهادي، حيث أطبق التاريخ والمـؤرّخون على أنّه كان عند رسـول الله (صلى الله عليه وآله) يؤذّن له حتّى آخر لحظة من لحظات حياته الشـريفة، فكيف تـرك التـأذين ورجّح الجهاد؟!
إن هذا ما لا يعقل في حق بلال، خصوصاً وأنّه لم يُعهد عنه اتخاذه موقفاً مرتبكاً عند موت النبيّ (صلى الله عليه وآله) كما حدث ذلك لعمر بن الخطّاب(1)، بل تلقّى الحادث كباقي المسلمين بألم وأسى، واضعاً نصب عينيه قوله تعالى: {وَمَا مُحمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنْقَلِبْ عَلَى
____________
1- تاريخ الطبري 3: 202 ـ 203 في أحداث سنة 11 هـ، وأُسد الغابة 3: 221.
الصفحة 277
عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً} (1)، وقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ} (2).
فما قيل في ترك بلال للأذان لمجرّد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يمكن الركون إليه بحال من الأحوال، خصوصاً وأنّ بلالاً لو بقي على أذانه لكان ذلك أقوى للمسلمين وأثبت لنفوسهم، حيث يظلّون يعيشون مع الرسول وذكرياته السماوية العطرة، بل يكون ذلك أبْعَثَ للمسلمين على الجهاد، لأنّه يذكّرهم بأيّام كان ينادي فيها بمحضر النبيّ بالصلاة جامعة للجهاد والخروج والقتال.
على أنّنا نرى أنّهم يستعيضون عن بلال بسعد القرظ الذي لم يؤذن على عهد رسول الله إلاّ ثلاث مرّات بقباء ـ ان صح النقل ـ وأبي محذورة الذي كان يستهزئ بالأذان وبرسول الله(3)، فلماذا لم يخرج سـعد القرظ للجهاد إذا كان الجهاد أفضل من التأذين؟!
وإذا كان بلال قد ترك الأذان لترجيح الجهاد عليه، فلماذا لا نرى له أيّ مشاركة في قتال المرتدين؟! ولماذا لم يرد اسمه مع أبي بكر في حروب الردّة؟ ونحن نعلم بأنّ حروب الردة قد طالت ـ بين موت النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبدء فتوح الشام ـ فاصلة زمنية تقارب سنة(4) أو أقل.
ولماذا لم يؤذِّن بلال في هذه المدّة لأبي بكر، إذ كان بوسعه أن يؤذّن له، حتّى إذا بدأت مسيرة جيوش المسلمين للشام تركه واشتغل بالجهاد؟
____________
1- آل عمران: 144.
2- الزمر: 30.
3- هذا ما سنوضحه لك في الباب الثاني من هذه الدراسة ” الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة ” فانتظر.
4- بدأت حروب الردة بعد أربعين أو ستين أو سبعين يوماً من وفاة النبيّ، وانتهت بمقتل مسيلمة في ربيع الاول سنة 12 هـ.
الصفحة 278
إنّ بقاء بلال في المدينة ولو فترةً قصيرة لم يؤذّن فيها لأبي بكر، إنّما يعني شيئاً؟ فما هو؟ حتّى إذا بدأت الجيوش بالزحف نحو الشام، خرج بلال ـ طائعاً أو مكرها ـ إلى الشام وبقي فيها.
وعليه لا يصح التبرير المطروح من ترك بلال الأذانَ ترجيحاً للجهاد عليه، بل يبدو أنّ هذا العذر والتبرير اختُلِقَ لدعم فكرة حذف الحيعلة الثالثة ترجيحاً للجهاد عليها ـ وهي فكرة عمر بن الخطّاب التي صرّحت بها روايات عديدة ـ بدعوى أنّ الجهاد ـ لا الصلاة ـ هو خير العمل، ومعنى كلامهم أن بلالاً ترك الأذان ترجيحاً للجهاد عليه!!
فإذا لم يصح هذا التبرير فلنا أن نقول: إنّ هناك أمراً آخر دعاه إلى اتخاذ هذا الموقف. فما هو؟
يبدو أنّ وراء ترك بلال للأذان سرّاً كامناً، لأنّه ترك الأذان بمجرّد تسلّم أبي بكر للخلافة، ويظهر أنّه بقي في المدينة مدّة يسيرة قد لا تتجاوز وقت وفاة فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو تتجاوزها بأيام قلائل.
وما قيل من أنّ بلالاً أذّن لأبي بكر مدّة خلافته، ثمّ رجّح الجهاد في زمان عمر فهو شيء لا يصحّ ; لأنّ بلالاً كانت له مشاركات في فتوح الشام، وهذا يعني أنّه كان مع جيوش المسلمين، وقد تفطّن ابن كثير إلى ذلك قائلاً:
ولمّا توفّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ترك بلال الأذان، ويقال: أذّن للصدّيق أيّام خلافته، ولا يصحّ(1).
وقد علق النووي في المجموع على كلام ابن قسيط الذي قال بأن بلالاً كان يسلم على ابي بكر وعمر في آذانه يقول: وهذا النقل بعيد أو غلط، فان المشهور
____________
1- البداية والنهاية 4: 7/104 احداث سنة عشرين من الهجرة.
الصفحة 279
المعروف عند أهل العلم بهذا الفن ان بلالاً لم يؤذن لابي بكر ولا عمر وقيل اذن لابي بكر رضي الله عنهم، ورواية ابن قسيط هذه منقطعه فانه لم يدرك ابا بكر ولا عمر ولا بلالاً رضي الله عنهم(1).
وكأنّ امتناع بلال من التأذين لأبي بكر بعد النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يَرُق لرجال النهج الحاكم، لأنّه تبدو منه معالم معارضته للخلافة الجديدة، من هنا وضعوا شتى المختلقات لتوجيه عدم تأذينه له، وكأنّ الأقرب للواقع أنّه اضطُرّ إلى ترك المدينة متّجهَّا نحو الشام، إذ كانت الشام منفى المعارضين، وكان ستار الجهاد خير وسيلة لإبعاد المعارضين، حيث ذهب سعد بن عبادة الأنصاري مكرهاً إلى الشام فقتل هناك غيلة، ونفي في زمان عثمان أبو ذر ومالك الأشتر وغيرهما من المعارضين إلى الشام وحبوس معاوية(2)، ولا يستبعَد أن يكون بلال قد رأى ـ نتيجة ضغوط أبي بكر وعمر عليه كما ستعلم ـ أنّ الذهاب إلى الشام أسلَمَ له، وأبعد عن عيون السلطة.
ويؤكد لنا أنّ وراء امتناع بلال من التأذين لأبي بكر أمراً مخفيّاً، عدمُ امتناعه من التأذين لأهل البيت، حيث أذَّن لفاطمة الزهراء بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرّة، وأذّن لولديها الحسن والحسين (عليهما السلام) مرّة أخرى بعد وفاة فاطمة، وذلك ما لم يختلف فيه المؤرخون وأرباب السير.
روى الصدوق: أنّه لما قُبض النبيّ (صلى الله عليه وآله) امتنع بلال من الأذان وقال: لا أؤذّن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإن فاطمة قالت ذات يوم: إنّي أشتهي أن أسمع صوت مؤذّن أبي
____________
1- المجموع 3: 125.
2- تاريخ اليعـقوبي 2: 172 وفيه نفـي أبي ذر إلى الشـام، وتاريخ الطبري 4: 317 ـ 326 / احداث سنة 33 وذكر فيه تسير عثمان جماعة من أهل الكوفة إلى الشام منهم مالك الأشتر.
الصفحة 280
بالأذان، فبلغ ذلك بلالاً فأخذ في الأذان، فلمّا قال: “الله أكبر الله أكبر” ذكرت أباها (صلى الله عليه وآله) وأيّامه فلم تتمالك من البكاء، فلمّا بلغ إلى قوله “أشهد أنّ محمّداً رسول الله” شَهِقت فاطمة شهقةً وسـقطت لوجـهها وغُشي عليها، فقال الناس لبلال: أمِسـكْ يا بلال، فقد فارقت ابنةُ رسول الله الدنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقَطَع أذانه ولم يُتمّه، فأفاقت فاطمة وسألته أن يُتّم الأذان فلم يفعل، وقال لها: يا سيّدة النسوان، إني أخشى عليك مما تُنزلينه بنفسك إذا سمعتِ صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك(1).
وهذا يدل على وجود بلال في المدينة قبل وفاة الزهراء (عليها السلام)، ولم يكن قد خرج منها بعدُ إلى الشام، وهذا يؤكد أنّ أبا بكر بقي أربعين يوماً(2) ـ على أقل التقادير ـ يدبّر أموره قبل أن يجهز لقتال المرتدين، وظل يقاتل المرتدين مدّة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد عن سنة قبل أن يسيِّر الجيوش التي فتحت الشام بعد أن كان جيش أسامة رجع عن وجهة الشام دون قتال.
وقد علمتَ أنّ بلالاً لم يشارك في قتال المرتدين، بل صرّحوا بأنّه أقام في المدينة إلى أن خرجت بعوث الشام(3).
كان بلال إذاً في المدينة ولم يؤذّن لأبي بكر، فلماذا لم يؤذّن لأبي بكر؟! إنّه تساؤل يفرض نفسه، ويبحث عن اجابة.
____________
1- من لا يحضره الفقيه 1: 298 / ح 907، وانظر: الدرجات الرفيعة: 365 ـ 366.
2- وقيل: ستين يوماً، وقيل سبعين يوماً، انظر: تاريخ الطبري 3: 241، واليعقوبي 2: 127.
3- انظر: كنز العمّال 13: 305 ح 36873، مختصر تاريخ دمشق 5: 265. بل قال ابن أبي حاتم أنّه خرج إلى الشام في خلافة عمر. انظر: المراسيل: 108، وعنه في تهذيب الكمال 17: 373.
الصفحة 281
روى إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، حدثني أبي محمد بن سليمان، عن أبيه سليمان بن بلال، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء، قال: إنّ بلالاً رأى في منامه النبيّ (صلى الله عليه وآله) وهو يقول له: ما هذه الجفوة يا بلال؟! أما آن لك أن تزورني يا بلال؟
فانتبه حزينا وجلاً خائفاً، فركب راحلته وقصد المدينة [من الشام]، فأتى قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه.
فأقبل الحسن والحسين فجعل يضمّهما ويقبِّلهما، فقالا له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك الذي كنت تؤذّنه لرسول الله (صلى الله عليه وآله) في السَّحَر، ففعل، فَعَلا سطح المسجد، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه، فلمّا أن قال: “الله أكبر الله أكبر” ارتجّت المدينة.
فلما أن قال: “أشهد أن لا إله إلاّ الله” زاد تعاجيجها، فلما أن قال: “أشهد أن محمّداً رسول الله” خرج العواتق من خدورهنّ، فقالوا: أبُعِث رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟! فما رؤي يوماً أكثر باكياً وباكية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك اليوم(1).
____________
1- تاريخ دمشق 7: 136 ترجمة رقم 493 قال: انبأنا أبو محمد بن الاكفاني، نا عبدالعزيز بن أحمد، نا تمام بن محمد، نا محمد بن سليمان، نا محمد بن الفيض، نا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سليمان بن بلال بن أبي الدرداء، ثم ذكر باقي الاسناد، والنص عنه، ومختصر تاريخ دمشق 4: 118، 5: 265، أسد الغابة 1: 208. وانظر: تهذيب الكمال 4: 289، حيث أبدل ” الحسن والحسين ” بـ ” بعض الصحابة “.
الصفحة 282
لقد ثبت أنّ بلالاً أذّن لفاطمة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقبل خروجه إلى الشام، وأذّن للحسن والحسين بعد وفاة فاطمة عند رجوعه من الشام لزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بل روي أنّه كان يرجع كلّ سنة مرّة إلى المدينة فينادي بالأذان للمسلمين إلى أن مات(1)، فلماذا لم يؤذّن للخليفة الأوّل، ومن بعده للثاني؟!
إنّ حقيقة امتناع بلال من التأذين تتجاوز مسألة ترحيله إلى الشام للمشاركة في الجهاد، بل إنّ المسألة لَتصل إلى معارضته لأصل خلافة أبي بكر وعمر ولأنّه أبى ـ كما يبدو ـ أن يؤذّن لهما بالأذان الذي بُدِّل فيه وغُيِّر، والذي سخّروا له من بعد سعد القرظ مولى قريش، الذي ظل مؤذّناً حتّى للحجّاج الثقفي، ولم يكن له أيّ دور في المدينة في زمان النبيّ (صلى الله عليه وآله).
قال النووي في تهذيب الاسماء: جعل النبيّ (صلى الله عليه وآله) سعد القرظ مؤذناً بقباء، فلما ولي أبو بكر الخلافة وترك بلالٌ الأذان نقله أبو بكر إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليؤذن فيه فلم يزل يؤذن فيه حتّى مات في أيّام الحجاج بن يوسف الثقفي، وتوارث بنوه الأذان. وقيل: الذي نقله عمر بن الخطاب(2).
ولكنّ بلالاً مع ذلك لم يمتنع عن التأذين لأهل البيت والمسلمين المخلصين ـ ولذلك قال جعفر بن محمّد: رحم الله بلالاً فإنّه كان يحبنا أهل البيت(3) ـ، بل إنّه
____________
1- انظر: الدرجات الرفيعة: 367، نقلاً عن كتاب المنتقى.
2- تهذيب الأسماء 1: 207.
3- الاختصاص: 73. ويدل على اختصاص بلال بعليّ وأهل البيت وعدم إيمانه بشرعية خلافة أبي بكر، ما روي في تفسير الحسن العسكري: في ان بلالاً كان يعظّم أمير المؤمنين (عليه السلام) ويوقره أضعاف توقيره لأبي بكر، فقيل له في ذلك مع أنّ أبا بكر كان مولاه الذي اشتراه واعتقه من العذاب، فأجاب من ذلك بأحسن جواب، فكان فيما قال: ان حقَّ عليٍّ أعظم من حقه، لأنّه أنقذني من رق العذاب الذي لو دام عليّ وصبرت عليه لصرت الى جنات عدن، وعليّ انقذني من رق العذاب الأبد، واوجب لي بموالاتي له وتفضيلي إيّاه نعيم الأبد “تفسير العسكري 621/ ح 365”.
هذا وقد بقى بلال إلى آخر لحظات عمره الشريف موالياً لمحمّد وآل محمّد، وقد ردد قبل موته نفس الشعار الذي ردده عمار في صفين من بعد:
غداً سنلقى الأحبّة محمداً وحزبه
“مختصر تاريخ دمشق 5: 267”.
الصفحة 283
امتنع عن التأذين لرجال النهج الحاكم ورؤوس الخلافة وحدهم.
روى الشيخ المفيد بسنده عن الصادق(عليه السلام) أنّه قال: وكان بلال مؤذّن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فلمّا قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله) لزم بيته ولم يؤذّن لأحد من الخلفاء(1).
وقال المزّي: ويقال: إنّه لم يؤذّن بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، إلاّ مرّة واحدة، في قَدمة قَدِمها لزيارة قبر النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وطلب إليه الصحابة ذلك فأذّن، ولم يُتمّ الأذان…(2)
وفي كتاب أصفياء أمير المؤمنين، روى عن ابن أبي البختري، قال: حدّثنا عبدالله بن الحسن: انّ بلالاً أبى أن يبايع أبا بكر، وإنّ عمر جاء وأخذ بتلابيبه، فقال: يا بلال، إنّ هذا جزاء أبي بكر منك؟! إنّه أعتقك فلا تجيء تبايعه؟!
فقال بلال: إن كان أبو بكر أعتقني لله فليدعني له، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها أنا ذا(3).
____________
1- الاختصاص: 73.
2- انظر كلام المزي في تهذيب الكمال 4: 289، ومثله ما حكاه الحصني الشامي ” ت 829 هـ ” في كتابه دفع الشبه عن الرسول: 182 عن الحافظ عبدالغني المقدسي في كتابه الكمال في ترجمة بلال ـ وأنّه قد قال بهذا القول قبل المزّي ـ. وقد يكون مقصود المزّي والمقدسي من جملة “طلب إليه الصحابة” هو طلب الحسن والحسين، إذ لم يقل أحد بأنه أذن للصحابـة على نحو العمـوم، وكذا لا يصـحّ ما قاله بأن بلالاً لم يـؤذّن بعد النـبيّ إلاّ مـرّة واحدة ; لثبوت تأذينه لفاطمة الزهراء قبل رحلته إلى الشام.
3- لا يخفى عليك أنّ رسول الله(صلى الله عليه وآله) هو الذي اشترى بلالاً وأعتقه، لكن بواسطة أبي بكر إذ كانت عنده علاقات حسنة مع كفار قريش ولم يكن وَتَرهم.
الصفحة 284
وأ مّا بيعته فما كنت أبايع أحداً لم يستخلفه رسول الله، وإنّ بيعة ابن عمّه يوم الغدير في أعناقنا إلى يوم القيامة، فأيّنا يستطيع أن يبايِع عَلَى مولاه؟
فقال له عمر: لا أمّ لك، لا تُقِمْ معنا!
فارتَحَلَ إلى الشام(1)…
وفي كتاب كامل البهائي ـ لعماد الدين الطبري(2) ـ: إنّ بلالاً امتنع عن بيعة أبي بكر والأذان له(3).
فعلى هذا يكون بلال قد عارض خلافة أبي بكر، وامتنع من التأذين له مع بقائه بالمدينة، لعدم إيمانه بشرعية خلافته، ولأنّه وعمر أرادا منه ما يأباه، خرج إلى الشام مكرهاً لا ترجيحاً للجهاد على منصبه النبوي في التأذين، ولاردّة فعل منه تجاه وفاة الرسول االمصطفى (صلى الله عليه وآله).
فإنّ بلالاً لم يبايع لهما، وبقي معارضاً للغاصبين في صفّ عليّ وغيره من عيون الصحابة، وقد أذّن في هذه المدّة لفاطمة، وكان على اتصال بأهل البيت، ثمّ إنّهم بعد وفاة فاطمة وإجبار عليّ على البيعة، ونفي سعد بن عبادة إلى الشام، وكسرهم سيف الزبير، ووو…. أجبروا بلالاً على مغادرة المدينة تحت غطاء القتال في جبهات الشام، وكان قد عاد إلى المدينة لزيارة قبر النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأذّن للحسن والحسين.
____________
1- الدرجات الرفيعة: 367، عن كتاب أصفياء أمير المؤمنين. وقد روى الوحيد البهبهاني قريباً من هذا في التعليقة (انظر: معجم رجال الحديث 4: 272)..
2- الذي فرغ من تأليفه سنة 675 هـ.ق.
3- الأربعين للماحوزي: 257، نقلاً عن كامل البهائي.
الصفحة 285
وبهذا، فإنّ مختلقة تأذينه لعمر(1) في الجابية بالشام، قد وضعت للتغطية على نزاع بلال مع عمر في شأن كيفية توزيع الأراضي المفتوحة وأمثالها، حيث قام بلال إلى عمر فقال: لتقسمنّها أو لنتضاربَنّ عليها بالسيف(2).
ولما أبى عمر ذلك، ودعا على بلال ومن معه بالهلاك(3)، سألَ بلال عمرَ البقاء في الشام واعتزال باقي الفتوحات، ففعل ذلك عمر(4)، فبقي بلال في دمشق إلى
____________
1- وضعت روايات مفادها أنّ بلالاً أذّن لعمر في الجابية، وقد وردت بأربعة طرق:
أوّلها: ما رواه الطبري في تاريخه 4: 65 / أحداث سنة 17 هـ، قال: ” كتب إلي السري، عن شعيب، عن سيف [ بن عمر التميمي ]، عن مجالد عن الشعبي “. وهذا الإسناد فيه سيف بن عمر الوضاع المتّهم بالزندقة.
ثانيها: ما رواه البيهقي في سننه 1: 419، وابن عساكر في تاريخه 10: 471، والذهبي في سيره 1: 357، وكلها تنتهي إلى ” أبي الوليد أحمد بن عبدالرحمن القرشي، حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: سألت مالك بن أنس… “. وهذا الإسناد فيه أحمد بن عبدالرحمن القرشي الذي لم يسمع من الوليد بن مسلم قط، وكان شبه قاصٍّ، وقالوا عنه: لا تقبل شهادته على تمرتين. ناهيك عن الوليد بن مسلم الذي كان رفّاعاً للحديث كثير الخطأ وروى عن مالك عشرة أحاديث ليس لها أصل، وكان رديء التدليس.
ثالثها: ما ذكره البخاري في التاريخ الصغير والذهبي في سيرة 1: 357 والنص عن البخاري: ” حدّثنا يحيى بن نشر، حدّثنا قراد، أخبرنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه “. وهذا الإسناد فيه هشام بن سعد الذي ضعفه أحمد بن حنبل وابن سعد ويحيى بن معين والنسائي، وقال أبو حاتم الرازي: لا يحتج به، وقال ابن حبان: كان ممن يقلب الاسانيد وهو لا يفهم، ويسند الموقوفات من حيث لا يعلم، وبطل الاحتجاج به.
رابعها: ما أخرجه ابن الأثير في أسد الغابة عن أولاد سعد القرظ.
وفي هذا الإسناد أولاد سعد القرظ المجهولون كما مرّ عليك.
ولا يفوتنّك أنّ أولاد سعد القرظ أرادوا التغطية على نزاع بلال مع الخلفاء الذي أدّى إلى تركه الأذان، حتّى جاءوا بسعد القرظ فجعلوه بديلاً عن بلال رحمه الله، واستمرّ التأذين الرسمي في ذريّته كما عرفت.
2- السنن الكبرى للبيهقي 6: 318.
3- الروض الأنف 6: 581، المبسوط للسرخسي 10: 16.
4- اسد الغابة 2: 79، تار يخ دمشق 16: 21، الاصابة 4: 72.
الصفحة 286
أن مات بها.
وقد كان أبو بكر قد أغضب بلالاً في زمن النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأمر النبيّ أبا بكر أن يترضّاه، قالوا:
مرّ أبو سفيان ببلال وسلمان وصهيب، فقالوا: ما أخَـذَت سيوفُ الله من عُـنُق هذا بعدُ مأخذها، فقال أبو بكر الصديق: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيّدها؟!
فذهب أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأخبره بذلك، فقال له النبيّ (صلى الله عليه وآله): يا أبا بكر لعلّـك أغضبتهم، لئن كنـت أغضبتهم لقد أغضبت ربّك، قال: فرجع أبو بكر، فقال: يا إخوة، لعلّكم غضبتم. قالوا: يغفر الله لك يا أبا بكر(1)!
وقد كان بين بلال وعمر اختلاف في وقت الأذان، أدّى بهم من بعد أن يختلقوا صحة أذان ابن أم مكتوم الأعمى في الفجر، مخطّئين أذان بلال لعدم تشخيصه الفجر الصادق، لضعف في بصره!!(2)
روى الأوزاعي أنّ بلالاً أتى عمر بن الخطّاب فقال: الصلاة الصلاة، فردّدها عليه، فقال له عمر: نحنُ أعلمُ بالوقت منك، فقال له بلال: لاَنا أعلم بالوقت منك، إذ أنت أضلّ من حمار أهلك(3)!
وفي زحمة هذا التضادّ السياسي الفقهي بين بلال من جهة، وأبي بكر وعمر وأتباعهما من جهة، يبدو أنّهم طلبوا منه حذف «حيّ على خير العمل» وإبدالها بـ
____________
1- مختصر تاريخ دمشق 5: 261.
2- هذا ما تقف عليه في الباب الثاني من هذه الدراسة: ” الصلاة خير من النوم ” فراجع.
3- مختصر تاريخ دمشق 5: 266 ـ 267.
الصفحة 287
«الصلاة خير من النوم»، فرفض بلال ذلك، ولذلك رفضوا بلالاً ورفضهم، ونسبوا إلى بلال ضعف البصر واللثَّغة في اللسان وغيرها من الأمور الجارحة، وجاءوا بدله بسعد القرظ وأبي محذورة، ووضعوا أحاديث نسبوها إلى بلال، وكأنّه أذّن بـ “الصـلاة خير من النوم” في زمان النبيّ، مع أنّ الصحيح نسبته إلى بلال عكس ذلك، فإنّه اذّن بـ «حيّ على خير العمل» لا الصلاة خير من النوم.
على أنّ بلالاً كان هو أقرب المشاهدين لما واجهوا به النبيَّ قبيل وفاته، وكيف تخلفوا عن جيش أسامة، وقدّموا أبا بكر للصّلاة.
كان بلال على علم بما يجري من حوله، ولذلك اعتزل القوم ونجا بدينه وأذانه الذي رواه لنا أهل البيت عن جبرئيل عن الباري والذي ليس فيه «الصلاة خير من النوم».
لكنّ عمر بن الخطّاب لمّا استتّب له الأمر، سعى لتطبيق ما يرجوه، فحذف الحيعلة الثالثة وأبدلها بالصلاة خير من النوم، وهو الواقع الذي رواه الأعلام من المسلمين:
قال سعد التفتازاني في حاشيته على شرح العضد، والقوشجي في شرح مبحث الإمامة وغيرهم: إنّ عمر بن الخطاب خطب الناس وقال: أيها الناس، ثلاث كُنَّ على عهد رسول الله أنا أنهى عنهنّ وأحرمهنّ وأعاقب عليهن، وهي: متعة النساء، ومتعة الحجّ، وحيّ على خير
وقال الحافظ العلوي: أخبرنا محمّد بن طلحة النعالي البغدادي، حدثنا محمّد بن عمر الجعابي الحافظ، حدّثنا إسحاق بن محمّد [بن مروان]، حدّثنا أبي، حدّثنا المغيرة بن عبد الله، عن مقاتل بن سليمان، عن عطاء، حدّثنا أبي [السائب بن مالك ]عن عمر أنّه كان يؤذن بحيّ على خير العمل، ثمّ ترك ذلك وقال: أخاف أن يتكل الناس(2).
وجاء في كتاب الاحكام ـ من كتب الزيدية ـ: قال يحيى بن الحسين صلوات الله عليه: وقد صحّ لنا أنّ «حيّ على خير العمل» كانت على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) يؤذن بها ولم تطرح إلاّ في زمن عمر بن الخطاب، فإنّه أمر بطرحها وقال: أخاف أن يتّكل الناس عليها، وأمر بإثبات «الصلاة خير من النوم» مكانها.
قال يحيى بن الحسين رضي الله عنه: والأذان فأصله أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عُلِّمهُ ليلة المسرى، أرسل الله إليه ملكاً فعلّمه إيّاه، فأما ما يقول به الجهال من أنّه رؤيا…(3).
وعن نافع، عن ابن عمر: أنّه كان يؤذن فيقول: حيّ على خير العمل، ويقول كانت في الأذان فخاف عمر أن ينكل الناس عن الجهاد.
وعن الباقر قال، كان أبي عليّ بن الحسين يقول إذا أذّن: حيّ على الفلاح، حيّ على خير العمل. قال: وكانت في الأذان، وكان عمر لمّا خاف ان يتثبط الناس
____________
1- شرح التجريد: 374، كنز العرفان 2: 158، الغدير 6: 213، والبياضي في الصراط المستقيم 3: 277 عن الطبري في المسترشد: 516.
2- الأذان بحيّ على خير العمل للحافظ العلوي، بتحقيق عزّان: 99، وانظر: صفحه 63 منه.
3- الإحكام 1: 84.
الصفحة 289
عن الجهاد ويتكلوا، أمرهم فكفوا عنها(1).
وعن الإمام زيد بن عليّ: أنّه قال: ممّا نقم المسلمون على عمر أنّه نحى من النداء في الأذان حيّ على خير العمل، وقد بلغت العلماء أنّه كان يؤذّن بها رسول الله حتّى قبضه الله عزّوجلّ، وكان يؤذن بها لأبي بكر حتّى مات، وطرفاً من ولاية عمر حتّى نهى عنها(2).
وعن جعفر بن محمّد قال: كان في الأذان حيّ على خـير العمل، فنقصـها عمر(3).
وعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، قال: كان الأذان بحيّ على خير العمل على عهد رسول الله، وبه أمروا أيّام أبي بكر وصدراً من أيّام عمر، ثمّ أمر عمر بقطعه وحذفه من الأذان والإقامة، فقيل له في ذلك فقال: إذا سمع الناس أنّ الصلاة خير العمل تهاونوا بالجهاد وتخلفوا عنه. وروينا مثل ذلك عن جعفر بن محمّد، والعامة تروي مثل هذا…(4)
____________
1- انظر: الأذان بحيّ على خير العمل: 79.
2- الاذان بحي على خير العمل: 29 ـ 30 وهامش السنه للإمام زيد: 83.
3- النصوص عن ابن عمر والباقر، وزيد، وجعفر بن محمد موجودة في الأذان بحيّ على خير العمل، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان: 63.
4- دعائم الإسلام 1: 142، بحار الأنوار 81: 156. وجاء في كتاب الايضاح للقاضي نعمان المتوفى 363 هـ والمطبوع في (ميراث حديث شيعه) 10: 108:.. فقد ثبت انه اذن بها على عهد رسول الله حتى توفاه الله تعالى وان عمر اقطعه وقد يزيد الله في فرائض دينه بكتابه وعلى لسان نبيه ما شاء لا شريك له وانا ذاكر ما جاءت به الرواية من الأذان بحي على خير العمل ـ وبدأها بهذا الخبر ـ: في كتب ابن الحسين علي بن فرسند [ورسند] روايته عن احمد عن الحسين عن لولو عن بشر عن ابي جعفر محمد بن علي قال: اسقط عمر من الأذان حي على خير العمل فنهاه علي فلم ينته.
الصفحة 290
وروى القاضي زيد الكلاري في شرح التحرير، عن الإمام القاسم بن إبراهيم أنّه قال: فأمّا «حيّ على خير العمل» فكانت في الأذان، فسمعها عمر يوماً فأمر بالإمساك فيه عنها وقال: إذا سمعها الناس ضيّعـوا الجهاد لموضـعها واتّكلوا عليهـا(1).
وقال في المنتخب: وأمّا «حيّ على خير العمل» فلم تَزَل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتّى قبضه الله عزّوجلّ، وفي عهد أبي بكر حتّى مات، وإنّما تركها عمر وأمر بذلك، فقيل له: لم تركتها؟
فقال: لئلاّ يتّكل الناس عليها ويتركوا الجهاد(2).
وعن الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد بن عليّ، قال: لم يَزَل النبيّ (صلى الله عليه وآله) يؤذن بحيّ على خير العمل حتّى قبضه الله، وكان يؤذّن بها في زمن أبي بكر، فلمّا ولي عمر قال: دعوا «حيّ على خير العمل» لا يشتغل الناس عن الجهاد، فكان أوّل من تركها(3).
وقال الفضل بن شاذان (المتوفّى 260 هـ) مخاطباً أهل السنّة:… ورويتم عن أبي يوسف القاضي ـ رواه محمّد بن الحسن عن أصحابه ـ وعن أبي حنيفة، قالوا: كان الأذان على عهد رسول الله وعلى عهد أبي بكر وصدراً من خلافة عمر يُنادى فيه «حيّ على خير العمل».
فقال عمر بن الخطاب: إنّي أخاف أن يتّكل الناس على الصلاة إذا قيل: «حيّ على خير العمل» ويَدَعُوا الجهاد، فأمر أن يطرح من الأذان “حيّ على خير
____________
1- الأذان بحيّ على خير العمل بتحقيق عزّان: 153.
2- الأذان بحيّ على خير العمل بتحقيق عزّان: 153. وانظر الايضاح للقاضي نعمان: 108.
3- الأذان بحيّ خير العمل، للحافظ العلوي بتحقيق عزّان: 63 ـ 64.
الصفحة 291
العمل”(1).
إنّ كل هذه النصوص دالّة على أنّ إسقاط «حيّ على خير العمل» من الأذان كان في عهد عمر بن الخطّاب، وأنّ الصحابة كانوا قد أذّنوا بها على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعلى عهد أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر، وأنّ عمر سمعها يوماً فأمر بالإمساك فيه عنها وقال: إذا سمعها الناس ضيّعوا الجهاد.
إنّ عمر نفَّذَ في أثناء تسلّمه أزمّة الأمور ما كان يطمح إليه من حذف «حيّ على خير العمل» التي كانت في أذان المسلمين، وقد سمعت أنّ مما نقمه المسلمون على عمر حذفه «حيّ على خير العمل».
ويبدو أنّه لم يتسنَّ لعمر أن يحذفها بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله) مباشرة وإن حاول ذلك، وكان الجهاد قائماً على سوقه أيضاً، لكنّه نجح في ذلك عند استلامه الخلافة مسكتاً المعارضين بالقوة والشدة المعهودتين منه.
ومن هنا تعرف أنّ المقصود من كلمة بلال “لا أوذّن لأحد بعد رسول الله” أنّها تعني: أنني لا أوذّن لأحد اغتصب الخلافة ظلماً بعد رسول الله، ومن جدّ في حذف ما يدل على الإمامة والولاية وإسقاطها من الأذان(2).
وبهذا فليس هناك تخالف بين مارواه أبو بصير وما قالته الشيعة ـ بفرقها الثلاث ـ وذلك للدور الذي لعبه عمر بن الخطاب إبّان عهد الخليفة الأوّل في رسم الخطوط العامة للحكم الذي يرتضـيانه، إذ أقـرّ تلك التطـلعات بعد بسـط نفـوذه في خلافته، ممّا دعا بلالا الى أن يترك الأذان ويقـول: “لا أوذّن لأحد بعد رسـول
____________
1- الايضاح: 206 وراجع كتاب العلوم 1: 92 والاعتصام بحبل الله المتين 1: 296،299،304.
2- هذا ما سنبحثه في الفصل القادم ” حي على خير العمل دعوة إلى الولاية “.
الصفحة 292
الله”.
وخلاصة القول: أنّ الحيعلة الثالثة “حيّ على خـير العـمل” كانـت على زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وزمن أبي بكـر، وصـدراً من خلافـة عمـر، ثـمّ حذفـها عمـر في أيّام حكومته، وأنّه كان يقصـد إلى ذلك منـذ حـروب الـردة، ثـمّ أراد تطبيقها بعد وفاة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، لكنّه اصطدام بمعارضة بلال مؤذن النـبيّ (صلى الله عليه وآله) الـذائـع الصِّيت، الذي رفض أنْ يـؤذن لرمـوز الخلافـة المغتصـبة، فأبعدوه وأبدلوه بسعد القرظ، فتسنى لهم ما أرادوا من بعد، فتمهّدت لهم الأرضية لذلك بعد إقصاء بلال عن منصبه الذي وضعه فيه النبيّ (صلى الله عليه وآله). وقد دلّـت كلّ النصـوص والأحداث التاريخية على أنّ حذفها كان في حكومة عمر، ودلَّ خبرُ أبي بصير عن أحد الصادقَين ـ الذي صدّرنا هذا الفصل به ـ على أنّ عمر كان قاصـداً هذا القصد من قبل، ثمّ نفّـذهُ في أيّام اسـتخلافه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ـ كما ستعرف في الباب الثاني “الصلاة خير من النوم شرعة أم بدعة” ـ أنّ إضافة «الصلاة خير من النوم» أيضاً كانت من مبتكرات عمر بن الخطاب، الذي رفع الحيعلة الثالثة وجعل مكانها «الصلاة خير من النوم» فسار الأمويّون والمجتهدون من بعده على مساره، وأحكموا ما ذهب إليه عمر، حتّى صار في العصور اللاحقة تلازم بين إثبات الحيعلة الثالثة ورفض التثويب عند نهج التعبد، وفي المقابل ثمّة تلازم بين حذف الحيعلة الثالثة واثبات التثويب عند نهج الاجتهاد والحكومات. وقد تطور الأمر ـ كما سيأتيك ـ إلى أن صار ذلك شعاراً سياسيّاً لكل من طرفَي النزاع.
وفي هذا المقام نلحظ ما رواه زيد النرسي في أصله عن أبي الحسن
الصفحة 293
الكاظم (عليه السلام)، حيث قال: ” الصلاة خير من النوم ” بدعة بني أمية، وليس ذلك من أصل الأذان “(1)، فإن الإمام الكاظم كان ناظراً إلى استفحال هذا التثويب وشيوعه واتخاذه طابع العموم والانتشار في زمن بني أميّة الذين ساروا في هذا المجال على خطى عمر بن الخطاب، وأيّدوا نهج الاجتهاد والرأي في مقابل نهج التعبد المحض، وبذلك لا يكون ثمة تخالف بين القول بأنّها بدعة وضعت في عهد عمر بن الخطاب والقول بأنّها بدعة أموية ; لأن الثانية حكّمت ما شرّع في عهد الشيخين.
وبعد هذا نتساءل: هل تصحّ هذه العلّة “أي علّة الخوف من ترك الناس للجهاد” لحذف هذا الفصل من فصول الأذان، أم أنّ هناك دافعاً آخر وراء هذا الأمر؟ هذا ما سنوضحه في الفصل اللاحق.
____________
1- مستدرك الوسائل 4:44.
الصفحة 294