إن إشكالات مجتمعاتنا العربية والإسلامية المعاصرة ليست بسيطة، وإنما هي شديدة التعقيد بما يتطلب تفكيراً معمقاً، يأخذ في الاعتبار الإجابة عن كثير من الأسئلة الجدلية المتعلقة بمفهومي الوحدة والاختلاف بخاصة وما يتفرع منهما في الواقع والراهن العملي والمستقبل المنشود، ما يستدعي ويستوجب أن نحرض أنفسنا على التفكير الخلاق والطرح البناء والتنوع في وجهات النظر، وحتى نكون على مستوى من التفكير والطرح والنقاش، فلا بد لنا من تجسيد وتفعيل تعريفات متعددة للمفهومين وفي إطار وحدة الهدف وحق الاختلاف.
ولو أردنا أن نتأمل وأن ننظر في واقعنا ومكاننا ومدى تقبلنا ورفضنا لها، فإن عالماً، على سبيل المثال، كمواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت اليوم تكشف عن خلل كبير في مدى استعدادنا للحوار مع الآخر وتقبل رأيه، أو رفض هذا الرأي بآليات الرفض الحضارية المعروفة، وكذلك نرى ذلك في بعض البرامج الحوارية أو في عدد آخر من وسائل الإعلام العربية خصوصاً.
لقد أصبح من الواضح أن من يملك ـ الموارد المعلوماتية وشبكات الاتصال ـ سيملأ الفضاء العالمي الإعلامي بمفاهيمه وثقافته بوصفها أدوات عصرية لاحتواء العقل في إطار إكراهاته غير المباشرة على محاكاة نموذجه المتفوق، وقد تم فعلاً تفكيك المجتمعات الإسلامية وضرب منظوماتها الأخلاقية والروحية بقوة الإعلام المتخصص بتغيير المبادئ والسلوك تحت لافتات الحرية والحضارة التي تجره بجاذبية سحرها نحو فتنة التبعية المطلقة للغرب.
وفي موازاة هذه البرامج التي تعمل على مدار الساعة يتمادى الغرب في مشاريع استلابه للمسلمين عبر التدخل السياسي والعسكري والإغواء بفرض ـ بدائله الحضارية ـ فيما شهدناه من طروحاته في الدعوة إلى تغيير مناهج التربية والتعليم ومناهج الإصلاح ومناهج التنمية.
ولتحقيق تلك الأهداف كان لا بد من تسفيه العقيدة الإسلامية وتوكيد عجز المسلمين عن مواكبة التقدم بأساليب استفزازية، تنتهي إلى زعزعة الإيمان بقدرة الإسلام على تحدي العولمة ومواجهتها حضارياً ولا سيما مع انقسامات الأنظمة الإسلامية وتداعياتها في الاصطفافات المذهبية والطائفية.
وما من شك في أن جهالات الرأي العالم الغربي بالإسلام وتقصير المسلمين في الدفاع عن قضاياهم العادلة وانتشار العنف المسلح داخل الاجتماع الإسلامي نفسه، واختزال صورة الإسلام في الغرب بأنظمته المستبدة وأصولياته التكفيرية وضعف مراكز الأبحاث الإسلامية في إنجاز شروط الترجمة والتواصل والحوار، قد حجب الحقيقة الإسلامية وفتح شهية الغرب على تسديد ضربته لأجهزة الإعلام والاتصال الإسلامية نفسها ليغدو بعضها في واضحة النهار جزءاً من مشروع الأجهزة المعادية أساساً للإسلام.
وما كنا نحسب أن كثيراً من الفضائيات العربية والإسلامية قد فقدت صدقية الانتماء لأمتها لتضخ إعلامها المتفرق بلا رؤى أو أهداف أو استراتيجيات تحمي العقل الإسلامي من حروب التزوير والتزييف في أعز ما يتصل بصورته وسمعته وهويته.
ومع غياب المراكز العربية والإسلامية المتخصصة بدراسة الاستثمارات الإعلامية في المجالات كافة تم إنشاء بعض قنوات الفتن الدينية وفق سياسات مشبوهة لا تفقه شيئاَ عن إعلام الحكمة والموعظة الحسنة، وبذلك فشل الإعلام الإسلامي في أن يقدم إجاباته في سياق الأزمات الحضارية التي تواجه العالم، واهتزت فكرة العالمية الإسلامية بفعل انصراف المسلمين عن محورية خصائصها لأن نزعة الانغلاق على عصبياتهم قد أضافت إلى جدرانهم القديمة جداراً حديثاً من القطع الحضاري، فلم نلتفت إلى أن بنيان المناعة في الشخصية الإسلامية لا يعني بالضرورة الانسحاب من ميدان المواجهة التي تستهدف محو الهوية وذاكرتها.
وها هنا يجدر بمجامع الفقه الإسلامي استنهاض اجتهادها للنظر في قضية الفضاء العالمي واستخداماته السلمية لكي لا تكون الأمة ضحية من ضحايا افتراس عالم الاتصال والمعلوماتية، ويبدو لي أن حديثنا عن الإعلام الإسلامي الواعد يتصل اليوم كأشد ما يكون الاتصال في إبراز نظرة الإسلام لجوهر العلاقات الإنسانية وأثر الثقافة وتكنولوجيا المستقبل في أبعاد ودلالات الجانب القيمي والأخلاقي من فكرة العالمية الإسلامية وإعلامها.
الولاية الاخبارية