الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٣٠١ – ٣٢٠
والسكون، وكيف يجري عليه ما هو أجراه، ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدثفيه ما هو أحدثه، إذا لتفاوتت ذلته، ولتجزأ كنهه، ولامتنع من الأزل معناه،ولكان له وراء إذا وجد له إمام، ولالتمس التمام إذ لزمه النقصان، وإذا لقامتآية المصنوع فيه، ولتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، (١) وخرج بسلطان
<=
وذاته تعالى ليست بجسم.
” ولا يحسب بعد ” لعدم المماثل له وواجب الوجود لا يتعدد كما هو ثابت في محلهكما أن صفاته عين ذاته غير زائدة عليها فلا تدخل تحت العدد، ولا بداية لوجوده حتىيقال: كان منذ كذا وكذا ” وإنما تحد الأدوات أنفسها ” لتركبها من جنس وفصل،ولكونها من الأجسام فتشملها الحدود والأبعاد الهندسية.
” وتشير الآلات إلى نظائرها ” فتدخل تحت العدد وقد ” منعتها – إطلاق لفظة:
منذ عليها – القدمة ” في قولنا وجدت هذه الآلات والأدوات منذ كذا، ومتى كان للشئابتداء فهو غير قديم.
” وحمتها – إطلاق لفظه قد عليها – الأزلية ” في قولنا قد وجدت هذه الآلاتوالأدوات منذ كذا لأن قد تفيد تقريب الزمان الماضي من الحال، ومتى تعين زمنوجود الشئ انتفت أزليته.
(وجنبتها – إطلاق كلمة: لولا عليها – التكملة) في قولنا: ما أحسن هذه الآلاتوالأدوات لولا أن فيها كذا لدلالتها على امتناع كمال الشئ لوجود نقص فيه.
ويمكن أن يكون المعنى: أن قدمه وأزليته وكماله منعت من إطلاق لفظة: (منذوقد، ولولا) على ذاته المقدسة، لدلالتها على الحدوث والابتداء والنقص.
(بها) بتلك الآلات والأدوات ببديع صنعها، بإتقانها، بحكمة تدبيرها (تجلىصانعها للعقول) التي هي طبعا بعض تلك الآلات لدلالة الأثر على المؤثر (وامتنع) بدليلتجرده وتنزهه عن المادة والجسمية واللون والجهة التي هي من لوازم المرئيات (عننظر العيون).
(١) الحركة سواء كانت بمعناها الفلسفي الذي هو: (الخروج من القوة إلىالفعل) أو بمعناها الفيزيائي الذي هو: (الانتقال من مكان إلى آخر) فهي تتقومبالتدرج والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى آخر وتخلع صورة وتلبس أخرى
=>
الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره، (١) الذي لا يحول، ولا يزول،
<=
وتصل إلى جزء وتنفصل عن سابقه وهكذا، ويقابلها السكون الذي هو: (التوقفوالخمود فيما يقبل الحركة) والحركة والسكون كلاهما من الحوادث المستندة في وجودهاإلى علة، وحيث ثبت أن لا موجد إلا الله ولا خالق سواه فيكون هو الذي خلقهما وأجراهماعلى نفسه، وأحدثهما في ذاته، ولاستحالة أن يكون مخلوقه جزء ذاته، نفى أمير المؤمنينعليه السلام ذلك في صورة استفهام إنكاري في قوله، (وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟؟
ويعود إليه ما هو أبداه، ويحدث فيه ما هو أحدثه؟!) ثم إنه عليه السلام شرع فيإقامة الأدلة على استحالة هذه النسبة فقال:
١ – (إذا لتفاوتت ذاته) أي: تغيرت، لأنها تكون متحركة تارة وساكنةأخرى فالحركة والسكون من الحوادث المتغيرة، فيكون محلا للحوادث، وذلك من لوازمالإمكان، فيكون واجب الوجود ممكن الوجود، وهو مستحيل.
٢ – (ولتجزأ كنهه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام والأجسام مركبةفيلزم حقيقته التركيب وهو باطل.
٣ – (ولامتنع من الأزل معناه) لأن الحركة والسكون من لوازم الأجسام الحادثةوالحادث لا يكون أزليا.
٤ – (ولكان له وراء إذ وجد له إمام) إذ لو جرت عليه الحركة لكان له إماميتحرك نحوه وحينئذ يلزم أن يكون له وراء لأنهما أمران إضافيان لا ينفك أحدهما عنالآخر وحينئذ يكون له وجهان وكل ذي وجهين منقسم وكل منقسم ممكن.
٥ – (ولالتمس النمام إذ لزمه النقصان) إذ هو في حركته يتوجه نحو غاية إمالجلب نفع أو لدفع ضرر، وذلك كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته وذلك يستلزمالإمكان فهو باطل.
وإذا لقامت آية المصنوع فيه وثبت إمكانه وحدوثه وتحول دليلا يستدل بوجودهعلى خالقه.
(١) أي خرج بسلطان امتناعه التجردي، وعدم شموله بحد، ودخوله تحت العددوامتناعه عن نظر العيون، وعدم جريان الحركة والسكون عليه خرج بهذا السلطان منأن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات.
ولا يجوز عليه الأفول، (١) لم يلد فيكون مولودا، ولم يولد فيصير محدودا (٢)جل عن اتخاذ الأبناء، وطهر عن ملامسة النساء، لا تناله الأوهام فتقدره، ولا تتوهمهالفطن فتصوره، ولا تدركه الحواس فتحسه، ولا تلمسه الأيدي فتمسه، ولا يتغيربحال، ولا يتبدل بالأحوال، ولا تبليه الليالي والأيام، ولا يغيره الضياء والظلام،ولا يوصف بشئ من الأجزاء، ولا الجوارح والأعضاء، ولا بعرض من الأعراضولا بالغيرية والأبعاض، ولا يقال له حد ولا نهاية، ولا انقطاع ولا غاية، ولا أنالأشياء تحويه، فتقله أو تهويه، ولا أن شيئا يحمله فيميله أو يعدله، (٣) ليس فيالأشياء بوالج، ولا عنها بخارج، يخبر لا بلسان ولهوات، ويسمع لا بخروقوأدوات، يقول ولا يلفظ، ويحفظ ولا يتحفظ، ويريد ولا يضمر، يحب ويرضىمن غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة، ويقول – لما أراد كونه -: ” كنفيكون ” لا بصوت يقرع، ولا نداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه أنشأهومثله لم يكن من قبل ذلك كائنا، ولو كان قديما لكان إلها ثانيا، (٤) ولا يقال
(١) لا يحول: لا يتغير. والأفول: الغيبة.
(٢) الولادة تحصل بانفصال شئ عن آخر من جنسه ونوعه، فالوالد والولديشتركان في النوع والصنف والعوارض، ولا يكون هذا الانفصال والتجزي إلا بواسطةالمادة القابلة للتجزأة، وإذا كان كذلك فهو متولد من مادة وصورة. ويحتمل أن يكونالمراد بالمولود المخلوق، فيكون المعنى لم يلد فيثبت كونه جسما مخلوقا. وعلى كلا التقديرينسواء كان مولودا من مادة وصورة، أو كان جسما مخلوقا، فإنه يكون محدودا بالحدودالمنطقية، والأبعاد الهندسية.
(٣) لا تناله الأوهام فنقدره بمقدار وكم، وشكل وكيف، والفطنة سرعة للفهمولا تتوهمه الفطن فتصوره بصور خيالية أو عقلية، ولا تدركه الحواس بنحو المباشرةولا تلمسه وتحسه الأيدي بنحو المماسة، ولا يتغير أبدا، ولا يوصف بالغيرية والأبعاضفصفاته لا يغاير بعضها بعضا، وليس هو بذي مكان يحويه، فيرتفع بارتفاعه وينخفضبانخفاضه، كما أنه غير محمول على شئ، فيميله إلى جانب، أو يعدله على ظهر من غير ميل
(٤) يحفظ عباده ويحرسهم، ولا يتحرز ولا يخاف ويبغض ويغضب ولا
=>
جميع حيوانها: من طيرها، وبهائمها، وما كان من مراحها، وسائمها، وأصنافأشباحها، وأجناسها، ومتلبدة أممها وأكياسها (١) على إحداث بعوضة ما قدرتعلى إحداثها، ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها ولتحيرت عقولها في علم ذلكوتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة (٢) عارفة بأنها مقهورةمقرة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضعف عن إفنائها، وأنه يعود سبحانه بعد فناءالدنيا وحده لا شئ معه، كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها، لا وقتولا مكان، ولا حين ولا زمان، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنونوالساعات، فلا شئ إلا الواحد القهار، الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرةمنها كان ابتداء خلقها، وبغير امتناع منها كان فنائها، ولو قدرت على الامتناعلدام بقائها، لم يتكاده صنع شئ منها إذا صنعه، ولم يؤده منها خلق ما براهوخلقه، ولم يكونها لتشديد سلطان، ولا لخوف من زوال ونقصان، ولا للاستعانةبها على ند مكاثر، ولا للاحتراز بها من ضد مساور (٣) ولا للإزدياد بها في ملكهولا لمكاثرة شريك في شركته، ولا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها، ثمهو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم دخل عليه من تصريفها وتدبيرها، ولا لراحة واصلةإليه، ولا لثقل شئ منها عليه، لا يمله طول بقائها فيدعوه إلى نزعة إفنائها، لكنهسبحانه دبرها بلطفه، وأمسكها بأمره، وأتقنها بقدرته، ثم يعيدها بعد الفناءمن غير حاجة منه إليها، ولا استعانة بشئ منها عليها، ولا لانصراف من حالوحشة إلى حال استيناس، ولا من حال جهل وعمى إلى حال علم والتماس، ولا منفقر ولا حاجة إلى غنى وكثرة، ولا من ذل وضعة إلى عز وقدرة.
(١) المتلبدة: ذو البلادة ضد الأكياس.
(٢) الخاسئ: الذليل الصاغر. والحسير: الكال المعيى.
(٣) لم يتكاده: لم يشق عليه. لم يؤده: لم يثقله. الند: المثل. المكاثرة المغالبةبالكثرة. المساورة: المواثبة.
ومن خطبة له عليه السلام: (١)الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد (٢) ولا تحويه المشاهد، ولا تراه النواظرولا تحجبه السواتر، الدال على قدمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجودهوباشتباههم على أن لا شبه له، الذي صدق في ميعاده، وارتفع عن ظلم عباده،وقام بالقسط في خلقه، وعدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليتهوبما وسمها به من العجز على قدرته، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه،واحد لا بعدد، ودائم لا بأمد، وقائم لا بعمد، تتلقاه الأذهان لا بمشاعرة (٣)وتشهد له المرائي لا بمحاضرة (٤) لم تحط به الأوهام بل تجلى لها بها، وبهاامتنع منها، وإليها حاكمها (٥) ليس بذي كبر امتدت به النهايات فكبرته تجسيماولا بذي عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا، بل كبر شانا، وعظم سلطانا.
ومنها في الاستدلال عليه تعالى بعجيب خلقه من أصناف الحيوان وغيرها:
ولو فكروا في عظيم القرة، وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذابالحريق، ولكن القلوب عليلة، والأبصار مدخولة، أفلا ينظرون إلى صغير ما خلقكيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشرانظروا إلى النملة في صغرة جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر،ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة إلىجحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي ورودها لصدورها،مكفولة برزقها، مرزوقة بوفقها، لا يغفلها المنان، ولا يحرمها الديان، ولو في
(١) ج ٢ ص ١٣٧ من نهج البلاغة.
(٢) المراد بالشواهد: الحواس
(٣) أي: لا بطريق المشاعر والأحاسيس.
(٤) أي: المرئيات تشهد له بالوجود من غير أن يكون محسوسا معها.
(٥) أي: لم تحط به العقول بل بها تجلى وظهر وثبت وجوده لها وبالنظروالتعقل علمنا أنه ممتنع من أن تدركه العقول وجعل العقول السقيمة المدعية بالإحاطة بهتعالى خصمه، ثم حاكمها إلى العقول السليمة فحكمت عليها.
الصفاء اليابس، والحجر الجامس، ولو فكرت في مجاري أكلها، وفي علوها وسفلهاوما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت منخلقتها عجبا، ولقيت من وصفها تعبا، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناهاعلى دعائمها، ولم يشركه في فطرتها فاطر، ولم يعنه على خلقها قادر، ولو ضربتفي مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلتك الدلالة إلا على أن فاطر النملة هو فاطرالنحلة، لدقيق تفصيل كل شئ، وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيفوالثقيل والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه إلا سواء، كذلك السماء والهواء،والريح والماء، فانظر إلى الشمس والقمر والنبات والشجر، والماء والحجر،واختلاف هذا الليل والنهار، وتفجر هذه البحار والأنهار، وكثرة هذه الجبالوطول هذه القلال، وتفرق هذه اللغات والألسن المختلفات، فالويل لمن أنكرالمقدر، أو جحد المدبر، وزعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف صورهمصانع، لم يلجؤا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق فيما أوعوا، وهل يكون بناءمن غير بأن، أو جناية من غير جان، وإن شئت قلت في الجرادة: إذ خلق لهاعينين حمراوين، وأسرج لها حدقتين قمراوين، وجعل لها السمع الخفي، وفتحلها الفم السوي، وجعل لها الحس القوي، ونابين بهما تقرض، ومنجلين بهما تقبضترهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون ذبها ولو أجمعوا بجمعهم، حتى تردالحرث من نزواتها، وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة،فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، ويعفر له خداووجها، ويلقي بالطاعة له سلما وضعفا، ويعطي له القياد رهبة وخوفا، والطيرمسخرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنفس، وأرسى قوائمها على الندى واليبسقدر أقواتها وأحصى أجناسها، فهذا غراب، وهذا عقاب، وهذا حمام، وهذا نعامدعا كل طائر باسمه، وكفل له برزقه، وأنشأ السحاب الثقال فأهطل ديمها،وعدد قسمها، قبل الأرض بعد جفوفها، وأخرج نبتها بعد جدوبها.
وروي أنه وفد وفد من بلاد الروم إلى المدينة على عهد أبي بكر وفيهمراهب من رهبان النصارى فأتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله ومعه بختي موقرذهبا وفضة وكان أبو بكر حاضرا وعنده جماعة من المهاجرين والأنصار.
فدخل عليهم، وحياهم، ورحب بهم، وتصفح وجوههم، ثم قال:
أيكم خليفة رسول الله وأمين دينكم؟
فأومي إلى أبي بكر فأقبل إليه بوجهه ثم قالأيها الشيخ ما اسمك؟ قال، عتيق. قال ثم ماذا؟ قال: صديق. قال: ثمماذا؟ قال: لا أعرف لنفسي اسما غيره فقال: لست بصاحبي فقال له: وما حاجتك؟
قال: أنا من بلاد الروم جئت منها ببختي موقر ذهبا وفضة، لأسأل أمين هذه الأمةمن مسألة إن أجابني عنها أسلمت، وبما أمرني أطعت، وهذا المال بينكم فرقتوإن عجز عنها رجعت إلى الوراء بما معي ولم أسلم، فقال له أبو بكر: سل عما بدا لك.
فقال الراهب: والله لا أفتح الكلام ما لم تؤمني من سطوتك وسطوة أصحابكفقال أبو بكر: أنت آمن، وليس عليك بأس، قل ما شئت.
فقال الراهب: أخبرني عن شئ: ليس لله، ولا من عند الله، ولا يعلمه الله.
فارتعش أبو بكر ولم يحر جوابا، فلما كان بعد هنيئة قال – لبعض أصحابه -:
ائتني بأبي حفص عمر. فجاء به فجلس عنده ثم قال:
أيها الراهب سله. فأقبل بوجهه إلى عمر وقال له مثل ما قال لأبي بكرفما يحر جواباثم أتى بعثمان، فجرا بين الراهب وعثمان مثل ما جرى بينه وبين أبي بكروعمر فلم يحر جوابا.
فقال الراهب: أشياخ كرام، ذووا فجاج لإسلام. ثم نهض ليخرج.
فقال أبو بكر: يا عدو الله لولا العهد لخضبت الأرض بدمك.
فقام سلمان الفارسي رضي الله عنه، أتى علي بن أبي طالب عليه السلام وهو
جالس في صحن داره مع الحسن والحسين عليهما السلام، وقص عليه القصة.
فقام علي عليه السلام وخرج ومعه الحسن الحسين عليهما السلام حتى أتى المسجد، فلمارأى القوم عليا عليه السلام، كبروا الله، وحمدوا الله، وقاموا إليه أجمعهم، فدخلعلي عليه السلام وجلس فقال أبو بكر: أيها الراهب سله فإنه صاحبك وبغيتك، فأقبلالراهب بوجهه إلى علي عليه السلام ثم قال:
يافتى ما اسمك؟
قال: إسمي عند اليهود ” إليا ” وعند النصارى ” إيليا ” وعند والدي ” علي “وعند أمي ” حيدرة “قال: ما محلك من نبيكم؟
قال: أخي وصهري وابن عمي لحا.
قال: الراهب: أنت حاصبي ورب عيسى، أخبرني عن شئ ليس لله، ولامن عند الله، ولا يعلمه الله.
قال: عليه السلام على الخبير سقطت:
أما قولك ” ما ليس لله “: فإن الله تعالى أحد ليس له صاحبة ولا ولد.
وأما قولك ” ولا من عند الله “: فليس من عند الله ظلم لأحد.
وأما قولك ” لا يعلمه الله “: فإن الله لا يعلم له شريكا في الملك.
فقام الراهب، وقطع زناره، وأخذ رأسه وقبل ما بين عينيه، وقال: ” أشهدأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وأشهد أنك أنت الخليفة وأمين هذه الأمة،ومعدن الدين والحكمة، ومنبع عين الحجة، لقد قرأت اسمك في التوراة إليا، وفيالإنجيل إيليا، وفي القرآن عليا، وفي الكتب السابقة حيدرة، ووجدتك بعد النبيوصيا، وللإمارة وليا، وأنت أحق بهذا المجلس من غيرك، فخبرني ما شأنكوشأن القوم؟ ” فأجابه بشئ فقام الراهب وسلم المال إليه بأجمعه، فما برح علي عليه السلاممكانه حتى فرقه في مساكين أهل المدينة، ومحاويجهم، وانصرف الراهب إلىقومه مسلما.
وروي أنه اتصل بأمير المؤمنين عليه السلام أن قوما من أصحابه خاضوا في التعديلوالتجريح فخرج حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال،أيها الناس إن الله تبارك وتعالى لما خلق خلقه، أراد أن يكونوا على آدابرفيعة، وأخلاق شريفة، فعلم أنهم لم يكونوا كذلك إلا بأن يعرفهم: ما لهم،وما عليهم، والتعريف لا يكون إلا بالأمر والنهي، والأمر والنهي لا يجتمعان إلابالوعد والوعيد، والوعد لا يكون إلا بالترغيب والوعيد لا يكون إلا بالترهيبوالترغيب لا يكون إلا بما تشتهيه أنفسهم، وتلذ أعينهم، والترهيب لا يكون إلابضد ذلك، ثم خلقهم في داره وأراهم طرفا من اللذات، ليستدلوا به على ما ورائهممن اللذات الخالصة التي لا يشوبها ألم، ألا وهي الجنة، وأراهم طرفا من الآلامليستدلوا به على ما ورائهم من الآلام الخالصة التي لا يشوبها لذة، ألا وهي النارفمن أجل ذلك ترون نعيم الدنيا مخلوطا بمحنها، وسرورها ممزوجا بكدرها وهمومهاقيل: فحدث الجاحظ (١) بهذا الحديث، فقال: هو جماع الكلام الذي دونهالناس في كتبهم، وتحاوره بينهم.
قيل: ثم سمع أبو علي الجبائي (٢) بذلك، فقال صدق الجاحظ هذا ما لايحتمله الزيادة والنقصان.
(١) الجاحظ: أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الليثي البصري اللغوي النحويكان من غلمان النظام، وكان مائلا إلى النصب والعثمانية، وله كتب منها: ” العثمانية “التي نقض عليها أبو جعفر الإسكافي، والشيخ المفيد، والسيد أحمد بن طاووس، وطالعمره وأصابه الفالج في آخر عمره ومات في البصرة سنة ٢٥٥.
الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٢١
(٢) الجبائي: أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبانمولى عثمان بن عفان ” ويطلق ” على ابنه أبي هاشم عبد السلام بن محمد ويقال لهما: الجبائيانوكلاهما من رؤساء المعتزلة، ولهما مقالات على مذهب الاعتزال، والكتب الكلاميةمشحونة بمذاهبهما واعتقاد هما، توفي أبو علي الجبائي سنة ٣٠٣.
الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٢٦
وروي عن علي بن محمد العسكري عليهما السلام – في رسالته إلى أهل الأهوازفي نفي الجبر والتفويض (١) -: أنه قال:
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنه سأله رجل بعد انصرافه من الشام فقال:
يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام أبقضاء وقدر؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: نعم يا شيخ ما علوتم تلعة (٢) ولا هبطتم بطنواد إلا بقضاء من عند الله وقدر.
فقال الرجل: عند الله أحتسب عنائي، والله ما أرى لي من الأجر شيئا.
فقال علي عليه السلام: بلى فقد عظم الله لكم الأجر في مسيركم وأنتم ذاهبون،وعلى منصرفكم وأنتم منقلبون، ولم يكونوا في شئ من حالاتكم مكرهين، ولاإليه مضطرين.
فقال الرجل: وكيف لا نكون مضطرين والقضاء والقدر ساقانا، وعنهماكان مسيرنا؟!
فقال أمير المؤمنين عليه السلام لعلك أردت قضاءا لازما، وقدرا حتما ولو كان كذلك لبطلالثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، والأمر من الله والنهي، وما كانت تأتي منالله لائمة لمذنب، ولا محمدة لمحسن، ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب،
(١) تتلخص عقيدتنا نحن الشيعة الإمامية الاثنى عشرية في ” القضاء والقدر “بما يلي: لما كان الله سبحانه وتعالى مفيض الوجود ومعطية، فالأفعال الصادرة مناتكون داخلة تحت سلطانه، ومن جملة مقدوراته، ومن ناحية كونها صادرة منا ونحنأسبابها الطبيعية فهي داخلة تحت قدرتنا واختيارنا، وهو لم يجبرنا عليها، بل أعطاناللقدرة والاختيار في أفعالنا ولذا فهو حين يعاقبنا على المعاصي لا يكون ظالما لنا. ولافوض خلقها إلينا حتى تخرج عن سلطانه وخلاصة الكلام إننا نقول بالطريق الوسط فيالقول بين القولين كما علمنا أئمتنا عليهم السلام وكما قال إمامنا الصادق عليه السلام:
” لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين “.
(٢) التلعة: ما علا من الأرض.
ولا المذنب أولى بعقوبة الذنب من المحسن، تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان، وجنودالشيطان، وخصماء الرحمن، وشهداء الزور والبهتان، وأهل العمى والطغيان (١) هم قدريةهذه الأمة ومجوسها، إن الله تعالى أمر تخييرا، وكلف يسيرا، ولم يعص مغلوبا، ولم يطعمكرها، ولم يرسل الرسل هزلا، ولم ينزل القرآن عبثا، ولم يخلق السماواتوالأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا، فويل للذين كفروا من النارثم تلى عليهم: ” وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه ” (٢) قال: فنهض الرجلمسرورا وهو يقول:
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا * جزاك ربك عنا فيه إحسانا
وليس معذرة في فعل فاحشة * قد كنت راكبها فسقا وعصيانا
كلا ولا قائلا ناهيه أوقعه * فيه عبدت إذا يا قوم شيطانا
ولا أحب ولا شاء الفسوق ولا * قتل الولي له ظلما وعدوانا
أنى يحب وقد صحت عزيمته * على الذي قال أعلن ذاك إعلانا
وروي أن رجلا قال: فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال:
الأمر بالطاعة، والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونةعلى القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، كلذلك قضاء الله في أفعالنا، وقدره لأعمالنا، وأما غير ذلك فلا تظنه فإن الظن لهمحبط للأعمال.
فقال الرجل: فرجت عني يا أمير المؤمنين فرج الله عنك.
وروي أنه سئل عن القضاء والقدر فقال:
لا تقولوا: وكلهم الله عليه أنفسهم فتوهنوه، ولا تقولوا أجبرهم على المعاصيفتظلموه، ولكن قولوا: الخير بتوفيق الله، والشر بخذلان الله، وكل سابقفي علم الله.
(١) في بعض النسخ ” أهل الغي والطغيان “.
(٢) الإسراء – ٢٣.
وروى أهل السير: أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال:
يا أمير المؤمنين خبرني عن الله أرأيته حين عبدته؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: لم أك بالذي أعبد من لم أره.
فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين؟
فقال له: يا ويلك لم تره العيون بمشاهدة العيان، لكن رأته العقول بحقايقالإيمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات، لا يقاس بالناس، ولا يدرك بالحواسفانصرف الرجل وهو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
وروي أن بعض الأحبار جاء إلى أبي بكر فقال له:
أنت خليفة نبي هذه الأمة؟
فقال: نعم.
قال: فإنا نجد في التوارة أن خلفاء الأنبياء أعلم أممهم، فخبرني عن اللهأين هو أفي السماء أم في الأرض؟
فقال له أبو بكر: في السماء على العرش.
قال اليهودي: فأرى الأرض خالية منه، وأراه – على هذا القول – فيمكان دون مكان.
فقال أبو بكر: هذا كلام الزنادقة أعزب عني (١) وإلا قتلتك.
فولى الرجل متعجبا يستهزئ بالإسلام، فاستقبله أمير المؤمنين عليه السلام فقالله: يا يهودي قد عرفت ما سألت عنه، وما أجبت به، وإنا نقول:
إن الله عز وجل أين الأين فلا أين له، وجل عن أن يحويه مكان، وهو فيكل مكان، بغير مماسة ولا مجاورة، يحيط علما بها، (٢) ولا يخلق شئ من تدبيرهتعالى، وإني مخبرك بما جاء في كتاب من كتبكم يصدق ما ذكرته لك، فإنعرفته أتؤمن به؟ قال اليهودي: نعم. قال:
(١) عزب: غاب وخفي فهو ” عازب “.
(٢) وفي بعض النسخ: ” بما فيها “.
ألستم تجدون في بعض كتبكم: أن موسى بن عمران كان ذات يوم جالساإذ جاءه ملك من المشرق، فقال له: من أين جئت؟ فقال: من عند الله. وجاءهملك آخر من المغرب فقال له: من أين جئت؟ فقال: من عند الله. ثم جاءه ملكفقال: من أين جئت؟ فقال: قد جئتك من السماء السابعة من عند الله عز وجل.
وجاء ملك آخر قال: قد جئتك من الأرض السابعة السفلى من عند الله عز وجلفقال موسى عليه السلام: سبحان من لا يخلو منه مكان، ولا يكون إلى مكان أقرب منمكان، فقال اليهودي: أشهد أن هذا هو الحق المبين، وأنك أحق بمقام نبيكممن استولى عليه.
وروى الشعبي: أنه سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلا يقول: ” والذي احتجببسبع طباق ” فعلاه بالدرة ثم قال له:
يا ويلك إن الله أجل من أن يحتجب عن شئ، أو يحتجب عنه شئ، سبحانالذي لا يحويه مكان، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ولا في السماء، فقال الرجل:
فأكفر عن يميني يا أمير المؤمنين؟.
قال: لم تحلف بالله فيلزمك كفارة، فإنما حلفت بغيره.
وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:
جاء حبر من الأحبار إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين متىكان ربك؟
فقال له: ثكلتك أمك ومتى لم يكن حتى يقال: متى كان؟! كان ربيقبل القبل بلا قبل، وبعد البعد بلا بعد، ولا غاية ولا منتهى لغايته انقطعت الغاياتعنه فهو منتهى كل غاية.
فقال: يا أمير المؤمنين أفنبي أنت؟ فقال: ويلك إنما أنا عبد من عبيد محمد.
إحتجاجه (ع) على اليهود من أحبارهم ممن قرأ الصحف والكتب فيمعجزات النبي صلى الله عليه وآله وكثير من فضائله.
روي عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن الحسين بن علي عليهما السلامقال: إن يهوديا من يهود الشام وأحبارهم كان قد قرأ التوراة والإنجيل والزبوروصحف الأنبياء عليهم السلام وعرف دلائلهم، جاء إلى مجلس فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآلهوفيهم علي بن أبي طالب، وابن عباس، وابن مسعود، وأبو سعيد الجهني.
فقال: يا أمة محمد ما تركتم لنبي درجة، ولا لمرسل فضيلة، إلا أنحلتموهانبيكم، فهل تجيبوني عما أسألكم عنه؟ فكاع القوم عنه (١).
فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: نعم ما أعطى الله نبيا درجة، ولا مرسلافضيلة إلا وقد جمعها لمحمد صلى الله عليه وآله وزاد محمدا على الأنبياء أضعافا مضاعفة.
فقال له اليهودي: فهل أنت مجيبي؟
قال له: نعم سأذكر لك اليوم من فضائل رسول الله صلى الله عليه وآله ما يقر الله بهعين المؤمنين، ويكون فيه إزالة لشك الشاكين في فضائله صلى الله عليه وآله، إنه كان إذا ذكرلنفسه فضيلة قال: ” ولا فخر ” وأنا أذكر لك فضائله غير مزر بالأنبياء، ولا منتقصلهم، ولكن شكرا لله على ما أعطى محمدا صلى الله عليه وآله مثل ما أعطاهم، وما زاده الله ومافضله عليهم.
قال له اليهودي: إني أسألك فأعد له جوابا.
قال له علي عليه السلام: هات.
قال اليهودي: هذا آدم عليه السلام أسجد الله له ملائكته، فهل فعل لمحمد شيئا من هذا؟
فقال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، أسجد الله لآدم ملائكته فإن سجودهمله لم يكن سجود طاعة، وإنهم عبدوا آدم من دون الله عز وجل، ولكن اعترافابالفضيلة، ورحمة من الله له، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذا، إن الله
(١) كاع القوم عنه: هابوه وجبنوا.
عز وجل صلى عليه في جبروته والملائكة بأجمعها، وتعبد المؤمنين بالصلاة عليهفهذه زيادة له يا يهودي.
قال له اليهودي: فإن آدم عليه السلام تاب الله عليه بعد خطيئته؟
قاله له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد نزل فيه ما هو أكبر من هذا منغير ذنب أتى، قال الله عز وجل: ” ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ” (١)إن محمدا غير مواف يوم القيامة بوزر، ولا مطلوب فيها بذنب.
قال اليهودي: فإن هذا إدريس رفعه الله عز وجل مكانا عليا، وأطعمه منتحف الجنة بعد وفاته؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذاإن الله جل ثناؤه قال فيه: ” ورفعنا لك ذكرك ” (٢) فكفى بهذا من الله رفعة،ولئن أطعم إدريس من تحف الجنة بعد وفاته، فإن محمدا أطعم في الدنيا في حياته: بينمايتضور جوعا فأتاه جبرئيل عليه السلام بجام من الجنة فيه تحفة، فهلل الجام وهللت التحفةفي يده، وسبحا، وكبرا، وحمدا، فناولها أهل بيته، ففعلت الجام مثل ذلك،فهم أن يناولها بعض أصحابه فتناولها جبرئيل عليه السلام وقال له: كلها فإنها تحفة منالجنة أتحفك الله بها، وأنها لا تصلح إلا لنبي أو وصي نبي، فأكل منها صلى الله عليه وآلهوأكلنا معه، وإني لأجد حلاوتها ساعتي هذه.
قال اليهودي: فهذا نوح عليه السلام صبر في ذات الله تعالى، وأعذر قومه إذ كذب؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله صبر في ذات الله عز وجلفأعذر قومه إذ كذب، وشرد، وحصب بالحصا، وعلاه أبو لهب بسلا ناقة وشاة،فأوحي الله تبارك وتعالى إلى جابيل ملك الجبال، أن شق الجبال وانته إلى أمرمحمد فأتاه فقال: إني أمرت لك بالطاعة فإن أمرت أن أطبق عليهم الجبال فأهلكتهمبها، قال صلى الله عليه وآله: ” إنما بعثت رحمة رب أهد أمتي فإنهم لا يعلمون ” ويحكيا يهودي إن نوحا لما شاهد غرق قومه رق عليهم رقة القرابة، وأظهر عليهم شفقة
(١) الفتح – ٢.
(٢) الشرح – ٤.
فقال: ” رب إن إبني من أهلي (١) ” فقال الله تعالى: ” إنه ليس من أهلك إنهعمل غير صالح (٢) ” أراد جل ذكره أن يسليه بذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما غلبت عليهمن قومه المعاندة شهر عليهم سيف النقمة، ولم تدركه فيهم رقة القرابة، ولم ينظرإليهم بعين رحمة.
فقال اليهودي: فإن نوحا دعا ربه، فهطلت السماء بماء منهمر؟
قال له عليه السلام: لقد كان كذلك، وكانت دعوته دعوة غضب، ومحمد صلى الله عليه وآلههطلت له السماء بماء منهمر رحمة، وذلك أنه صلى الله عليه وآله لما هاجر إلى المدينة أتاهأهلها في يوم جمعة فقالوا له: يا رسول الله صلى الله عليه وآله احتبس القطر، واصفر العود،وتهافت الورق، فرفع يده المباركة حتى رأي بياض إبطه، وما ترى في السماءسحابة، فما برح حتى سقاهم الله حتى أن الشاب المعجب بشبابه لهمته نفسه فيالرجوع إلى منزله فما يقدر على ذلك من شدة السيل، فدام أسبوعا، فأتوه في الجمعةالثانية فقالوا: يا رسول الله تهدمت الجدر، واحتبس الركب والسفر، فضحك صلى الله عليه وآلهوقال: هذه سرعة ملالة ابن آدم، ثم قال: ” اللهم حوالينا ولا علينا اللهم في أصولالشيح ومراتع البقع ” (٣) فرأي حوالي المدينة المطر يقطر قطرا، وما يقعبالمدينة قطرة، لكرامته صلى الله عليه وآله عز وجل.
قال له اليهودي: فإن هذا هود قد انتصر الله من أعدائه بالريح، فهلفعل لمحمد صلى الله عليه وآله شيئا من هذا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من هذاإن الله عز وجل قد انتصر له من أعدائه بالريح يوم الخندق، إذ أرسل عليهم ريحاتذروا الحصى، وجنودا لم يروها، فزاد الله تعالى محمدا صلى الله عليه وآله بثمانية ألف ملك،وفضله على هود، بأن ريح عاد ريح سخط، وريح محمد ريح رحمة، قال الله تعالى:
(١) هود – ٤٥.
(٢) هود – ٤٦.
(٣) الشيح نبات أنواعه كثيرة، كله طيب الرائحة. والمراتع جمع مرتع وهوموضع الرتع أي: الخصب والبقع جمع بقعة: القطعة من الأرض.
” يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جائكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاوجنودا لم تروها (١) “قال له اليهودي: فهذا صالح أخرج الله له ناقة جعلها لقومه عبرة؟
قال علي عليه السلام لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعطي ما هو أفضل من ذلك،إن ناقة صالح لم تكلم صالحا، ولم تناطقه ولم تشهد له بالنبوة، ومحمد صلى الله عليه وآله بينمانحن معه في بعض غزواته إذا هو ببعير قد دنا، ثم رغا فأنطقه الله عز وجل فقال:
” يا رسول الله فلانا استعملني حتى كبرت، ويريد نحري، فأنا أستعيذ بك منه “فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله إلى صاحبه فاستوهبه منه، فوهبه له وخلاه، ولقد كنا معهفإذا نحن بأعرابي معه ناقة له يسوقها، وقد استسلم للقطع لما زور عليه من الشهودفنطقت الناقة فقالت: ” يا رسول الله إن فلأنا مني برئ، وإن الشهود يشهدونعليه بالزور، وإن سارقي فلان اليهودي “.
قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد تيقظ بالاعتبار على معرفة الله تعالىوأحاطت دلالته بعلم الإيمان؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك وأعطي محمدا أفضل منه، وتيقظ إبراهيموهو ابن خمسة عشر سنة ومحمد ابن سبع سنين، قدم تجار من النصارى فنزلوابتجارتهم بين الصفا والمروة، فنظر إليه بعضهم فعرفه بصفته ورفعته، وخبر مبعثهوآياته، فقالوا: يا غلام ما اسمك؟ قال: محمد قالوا: ما اسم أبيك؟ قال: عبد اللهقالوا: ما اسم هذه؟ وأشاروا بأيديهم إلى الأرض قال: الأرض قالوا، وما اسمهذه؟ وأشاروا بأيديهم إلى السماء قال: السماء قالوا: فمن ربهما؟ قال: الله. ثمانتهرهم وقال: أتشككوني في الله عز وجل؟! ويحك يا يهودي لقد تيقظ بالاعتبارعلى معرفة الله عز وجل مع كفر قومه إذ هو بينهم: يستقسمون بالأزلام، ويعبدونالأوثان، وهو يقول: لا إله إلا الله.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم عليه السلام حجب عن نمرود بحجب ثلاث؟
(١) التوبة – ٢٦.
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله حجب عمن أراد قتله بحجبخمس، فثلاثة بثلاثة واثنان فضل، قال الله عز وجل – وهو يصف أمر محمد صلى الله عليه وآله -:
” وجعلنا من بين أيديهم سدا ” فهذا الحجاب الأول ” ومن خلفهم سدا ” فهذا الحجابالثاني ” فأغشيناهم فهم لا يبصرون (١) ” فهذا الحجاب الثالث ثم قال: ” إذا قرأتالقرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (٢) ” فهذاالحجاب الرابع ثم قال: ” فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ” فهذه حجب خمس.
قال له اليهودي: فإن هذا إبراهيم قد بهت الذي كفر ببرهان نبوته؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أتاه مكذب بالبعث بعد الموتوهو: أبي بن خلف الجمعي معه عظم نخر ففركه ثم قال: يا محمد ” من يحيي العظاموهي رميم (٣) “؟ فأنطق الله محمدا بمحكم آياته، وبهته ببرهان نبوته، فقال:
” يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (٤) ” فانصرف مبهوتا.
قال له اليهودي: فهذا إبراهيم جذ أصنام (٥) قومه غضبا لله عز وجل؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قد نكس عن الكعبة ثلثمائةوستين صنما، ونفاها عن جزيرة العرب، وأذل من عبدها بالسيف.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم قد أضجع ولده وتله للجبين (٦)؟
فقال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ولقد أعطي إبراهيم بعد الاضطجاعالفداء، ومحمد أصيب بأفجع منه فجيعة إنه وقف على عمه حمزة أسد الله، وأسد رسولهوناصر دينه، وقد فرق بين روحه وجسده، فلم يبن عليه حرقة، ولم يفض عليهعبرة، ولم ينظر إلى موضعه من قلبه وقلوب أهل بيته ليرضي الله عز وجل بصبرهويستسلم لأمره في جميع الفعال، وقال صلى الله عليه وآله: لولا أن تحزن صفية لتركته حتى
(١) يس – ٩.
(٢) الإسراء – ٤٥.
(٣) يس – ٧٨.
(٤) يس – ٧٩.
(٥) جذ أصنامهم: استأصلها إشارة إلى قوله تعالى ” فجعلهم جذاذا ” أي فتانا مستأصلين
(٦) تله: إشارة إلى قوله تعالى: وتله للجبين أي: صرعه وهو كقولهم كبه لوجهه.
يحشر من بطون السباع، وحواصل الطير، ولولا أن يكون سنة بعدي لفعلت ذلك.
قال له اليهودي: فإن إبراهيم عليه السلام قد أسلمه قومه إلى الحريق فصبر فجعلالله عز وجل عليه النار بردا وسلاما (١) فهل فعل بمحمد شيئا من ذلك؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله لما نزل بخيبر سمته الخيبريةفصير الله السم في جوفه بردا وسلاما إلى منتهى أجله، فالسم يحرق إذا استقر فيالجوف كما أن النار تحرق، فهذا من قدرته لا تنكره.
قال له اليهودي: فإن هذا يعقوب عليه السلام أعظم في الخير نصيبه إذ جعل الأسباطمن سلالة صلبه، ومريم بنت عمران من بناته؟
قال علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أعظم في الخير نصيبا إذ جعلفاطمة سيدة نساء العالمين من بناته، والحسن والحسين من حفدته.
قال له اليهودي: فإن يعقوب عليه السلام قد صبر عليه فراق ولده حتى كاديحرض (٢) من الحزن.
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، حزن يعقوب حزنا بعده تلاق، ومحمد صلى الله عليه وآلهقبض ولده إبراهيم عليه السلام قرة عينه في حياته منه، فخصه بالاختيار، ليعظم له الادخارفقال صلى الله عليه وآله: يحزن النفس، ويجزع القلب، وأنا عليك يا إبراهيم لمحزونون،ولا نقول ما يسخط الرب، في كل ذلك يؤثر الرضا عن الله عز وجل، والاستسلامله في جميع الفعال.
قال له اليهودي: فإن هذا يوسف قاسى مرارة الفرقة، وحبس في السجنتوقيا للمعصية، والقي في الجب وحيدا؟
قال له علي عليه السلام: لقد كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله قاسى مرارة الغربة، وفراقالأهل والأولاد والمال، مهاجرا من حرم الله تعالى وأمنه، فلما رأى الله عز وجلكآبته واستشعاره والحزن، أراه تبارك اسمه رؤيا توازي رؤيا يوسف في تأويلها
(١) إشارة إلى قوله تعالى: ” وقلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم وآل إبراهيم “
(٢) يحرض: يهلك.