أن واقعة عاشوراء هي بحد ذاتها وطبيعتها بحر متلاطم من العواطف الصادقة، حيث نهض إنسان عظيم طاهر لا تطرق قلبه الملكوتي شائبة أو تردد لتحقيق هدف أجمع كل منصفي العالم على سموّه وصحته وهو إنقاذ الأمة من الجور والظلم والعدوان، “أيها الناس، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ) قال: من رأى منكم سلطاناً جائراً، (وهذا بيت القصيد، فقد كانت فلسفة حركة الإمام الحسين (عليه السلام ) محاربة الظلم) يعمل في عبادة الله بالجور والطغيان أو بالإثم والعدوان”، فقوموه..
إنه من أقدس الأهداف التي لا يمكن لذي إنصاف إنكارها، مثل ذاك الإنسان العظيم يتحمل من أجل تحقيق مثل هذا الهدف النبيل أصعب أنواع الجهاد هو الجهاد في الغربة؛
إذ ليس من الصعب الموت وسط ضجيج وأهازيج الأصدقاء وإشادة عامة الناس، فعندما يصطف فريقان ويقف الرسول الأكرم
صلى الله عليه وآله وسلم
أو أمير المؤمنين عليه السلام في مقدمة جبهة الحق ليدعوا إلى مبارزة الأعداء ويخرج غلام ملبياً الدعوة فيودعانه بالدعاء ويمسحان على رأسه ويرفع المسلمون أيديهم له بالدعاء، ويتوجه الغلام بعد ذلك إلى ساحة القتال ليجاهد ويستشهد، فهذا نوع من الجهاد والاستشهاد، ولكن ثمة نوعاً آخر من الجهاد، ويتجلى بخروج الإنسان إلى ساحة المعركة والمجتمع من حوله ما بين منكر عليه وغافل عنه ومعاد له، وحتى تلك الفئة القليلة التي ترتاح له قلبياً تراها لا تتجرأ على إبداء ارتياحها له ولمسيرته؛
ففي عاشوراء الإمام الحسين (ع) لم يتجرأ أمثال عبد الله بن عباس وعبد الله بن جعفر اللذين ينتميان إلى بني هاشم وإلى تلك الشجرة الطيبة، لم يتجرآ على الوقوف في مكة أو المدينة وإطلاق شعارات موالية للإمام الحسين (عليه السلام )، لهذا وصف جهاده (عليه السلام ) بالجهاد في الغربة وهو من أصعب أنواع الجهاد، الجميع أعداء له، والجميع معرض بوجهه عنه حتى المقربين إليه، الإمام الحسين (عليه السلام ) يطلب من أحدهم مساعدته، فيرد عليه: هاك جوادي استفد منه، هل من غربة أكبر من هذه؟
إنه الجهاد في الغربة، وفي هذا النوع من الجهاد يفقد الإمام أعز أعزته أمام ناظريه، أبناءه وأبناء اخوته واخوته وأبناء أعمامه، زهور بني هاشم تتساقط الواحدة تلو الأخرى أمام ناظريه، حتى طفله الرضيع لم يسلم من القتل، أضف إلى كل ذلك أن الإمام كان يعلم أنه بمجرد استشهاده ستسبى عياله البريئة الطاهرة، حيث ستتكالب الذئاب المتعطشة على الفتيات اليانعات لبث الخوف والهلع في نفوسهن، وسلب أموالهن وأسرهن وإهانتهن، حتى بنت أمير المؤمنين زينب الكبرى التي كانت من أبرز الشخصيات الإسلامية، حتى هي تعرضت للإهانة والتعذيب.
الإمام الحسين (عليه السلام ) كان يعلم بكل ما سيحصل، إذن تصوروا ما أصعب هذا الجهاد، وإلى جانب كل ذلك لا ننسى عطشه وعطش عياله، الصبية عطاشى، الصبايا عطاشى، العجائز عطاشى، الطفل الرضيع عطشان، هل أدركتم الآن مدى صعوبة هذه النوع من الجهاد؟
مثل هذا الإنسان العظيم الطاهر الذي تتسابق ملائكة السماء لمشاهدة نور وجهه والتبرك به، ويأمل الأنبياء والأولياء أن يكون لهم مثل مقامه، مثل هذا الإنسان بكل تلك المكانة والمنزلة يستشهد في هكذا جهاد وهكذا شدة ومحنة، إنها واقعة لا يمكن لأي إنسان أن يمر عليها دون أن تتحرك عواطفه وأحاسيسه، هل يمكن لإنسان أن يعاين تلك الواقعة ويدرك وقائعها ولا تهتز مشاعره لها؟
هذا كله من فضائل عاشوراء منذ قيامها، منذ أن صعدت زينب الكبرى، كما يروى، تلة الزينبية وخاطبت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
“يا رسول الله صلّت عليك ملائكة السماء، هذا حسينك مرمّل بالدماء، مقطع الأعضاء، مسلوب العمامة والرداء”، وأخذت تتلو مصيبة أبي عبد الله، وتروي الواقعة بصوت عال، تلك الواقعة التي أرادوا إخفاءها، روتها في كربلاء والشام والمدينة، ومن يومها تفجرت الينابيع الحسينية وما زالت إلى يومنا هذا، هذه هي واقعة عاشوراء.
لا يوم كيومك يا أبا عبد الله الحسين عليه السلام