دون سابق إنذار واستشارة، قدم سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة اللبنانية، في خطوة غير محسوبة كانت أولى هفواتها لا بل سقوطها إعلانها عبر قناة العربية من الرياض. استقالة مشبوهة بالشكل والمضمون لا يمكن التعبير عنها إلا بأنها أتت بشكل يعقّد المشهد في لبنان في ظل ما يعيشه من أمن واستقرار ودورة اقتصادية جديدة وإنجازات عديدة كان يراد منها إراحة المواطن اللبناني، وتشي بتهور سعودي لضرب استقرار لبنان.
منذ أن بدأت زيارة ما تبقى من شخصيات محسوبة على السفارة الأميركية والنهج السعودي إلى الرياض بدت تظهر إرهاصات جديدة في سياسة الحريري وحلفائه، وتأتي تصريحات ثامر السبهان أو ما بات يعرف بالزعطوط كتوجيه سعودي للحريري بالتصعيد، وكان استدعاء الأخير على عجالة إلى السعودية في سياق مواقف التصعيد وتهيئة البيئة اللبنانية والعربية إلى تصعيد سعودي جديد يكون لبنان مطيته.
التوقيت المشبوه في استقالة الحريري يشير إلى أنها لم تأت بمسوغات تسمح له بتقديمها، فهو ليس لديه أي أسباب تدعوه إلى الإقدام على استقالة تعقد المشهد في لبنان وتعطل المؤسسات اللبنانية مجدداً ولعله نفسه لم يعرف أسبابها، وما تحدث عنه في بيانه من أسباب ليس إلا سيمفونية مستخدمة منذ عام 2005، لم يأت بجديد غيرها، ولا تشي إلا بأن هناك مشروعا ينفذه الحريري كأداة في المشروع السعودي، لتحقيق أهداف أمراء ثامر السبهان الذين فشلوا في كل ملفات المنطقة.
ألمح الحريري إلى أن حياته بخطر، لكن هل هذا يسوغ له ترك مسؤولياته في لبنان؟ فهناك الكثير من الشخصيات التي قد تكون حياتها بخطر إلا أنها تتصدى للشأن العام، فكل المسؤولين في العالم عندما يتبوؤون منصباً رسمياً تصبح حياتهم مهددة بالخطر، وهذا معروف عبر التاريخ لكن هؤلاء يتصدون للمسؤولية ويتابعون عملهم، وليس ما تقدم به الحريري بجديد غير أنه يعبر عن التهرب من المسؤولية.
وقد استخدم الحريري منبراً متخفياً لإعلان هذه الاستقالة، علماً أنه كان باستطاعته إعلانها من مكبته في قريطم، لكنه قرر أن يستمر بهفواته المعهودة، فاظهر نفسه أنه تابع للسعودية وليس إلا مجرد أداة لها، يأتمر بأمرها، فاستغنى عن مسؤولياته تجاه الشعب اللبناني، وذهب ليعلن هذه الاستقالة من السعودية في شكل لا يعبر عنه إلا بالهروب. وما يبين مدى تبعية الحريري للرياض، وهو ما عبر عنه تامر السبهان في تغريدة بأن هناك خطوات كثيرة سوف تأخذ في لبنان.
صعد الحريري مواقفه من السعودية إلى أقصى درجة ممكنة دون مسوغ لها لذلك، غرد السبهان عبر “تويتر” “ايدي الغدر والعدوان يجب ان تبتر”، فتبعه بيان الحريري باللهجة نفسها، يهاجم بها إيران، ومن ثم شريكه بالوطن والحكومة حزب الله قائلاً إن “أيدي إيران في المنطقة ستقطع، ولن نقبل أن يكون لبنان منطلقا لتهديد أمن المنطقة”، وكأن السعودية تقول للحريري عليك أن تهدد إيران، لكن لم نفهم من سيقطع يدها هل هي السعودية! وهي ليس لديها القدرة على الانتهاء من حربها في اليمن؟
ومن ثم يضيف: “أينما حلت إيران تحل الفتن والخراب. لإيران رغبة جامحة بتدمير العالم العربي”. ونسأل هنا أين هي الفتنة التي تفعلها ايران في لبنان؟ وأين تدخلت بشأنه؟ وهل أن السعودية هي تلك الحمامة الوديعة التي لا تتدخل في لبنان، لدرجة أن الحريري أعلن استقالته عبر قناة العربية السعودية من الرياض بشكل فاجأ الحريري نفسه على ما يبدو. وهو ما يشكل أكبر اختراق للدستور الذي لم يحترمه الحريري عبر اعلان استقالته من السعودية، ودون تقديمها لرئيس الجمهورية مباشرة وهذا ما ينتهك صلاحيات رئيس الجمهورية عندما لا يلتزم الحريري بواجباته تجاه الدستور والرئيس، وهل يكفي قانونياً فقط الاتصال بالرئيس عون لإبلاغه بالاستقالة؟
ويقول الحريري “استطاع حزب الله فرض أمر واقع في لبنان بقوة السلاح”، لكن اين فرض حزب الله هذا الامر الواقع؟ هل فرضه عندما تقلد الحريري رئاسة الحكومة، وعندما سهلت كل أمور الحكومة التي شارك فيها وزراء حزب الله إلى جانب الحريري على طاولة واحدة؟ هل أن حزب الله حمل السلاح ليشكل الحكومة مثلاً؟ هل حمل وزراء حزب الله السلاح على طاولة مجلس الوزراء؟
ما قام به الحريري هو تعبير واضح عن قرار سعودي يدين به ولا يخرج عنه، حتى يبدو أن بيان الاستقالة كتب من قبل السبهان أو من ينيبه، وهو أضعف الحريري لا بل أسقطه في فخ سعودي جديد يقضي على مستقبله السياسي، ولا ترتد مفاعله السياسية على غيره ولا يتأثر بها أحد في لبنان، فما ستؤول اليه الأمور هو قبول هذه الاستقالة واستشارات نيابية جديدة لتشكيل حكومة جديدة، أو تبقى حكومة تصريف الأعمال حتى إجراء انتخابات جديدة.
الخسارة الأقوى هي للحريرية السياسية، حيث لم يأت سعد الحريري إلى حكومة وثبت فيها، بل دائماً ما كان مستقبله السياسي على المحك، إلى أن كانت هذه الاستقالة السوداء على البيت السياسي الحريري، والتي تعني بشكل أو بآخر سقوط هذه الحريرية في مستنقع الفشل السياسي أكثر فأكثر منذ أن تبوأ سعد الحريري مقاليدها.