الرئيسية / القرآن الكريم / آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 14

آيات الأحكام للعلامة السيد الأسترآبادي 14

والظاهر أنّه حقيقة في الأوّل دون البواقي وإفراده هنا لأنه جنس ، أو لأنه خبر للخمر ، وخبر البواقي محذوف من جنسه ، لدلالته عليه ، أو خبر للمضاف المحذوف أي تعاطى الخمر إلخ ، واحتمل كونه خبرا عن كلّ واحد من عمل الشيطان لأنه نشأ من تسويله وتزيينه ، وهو صفة أو خبر آخر .
« فَاجْتَنِبُوهُ » أي ما ذكر ، أو تعاطيها ، أو الرجس ، أو عمل الشيطان ، أو كلّ واحد « لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » سبب الاجتناب .
وفي الآية في تحريم الخمر والميسر وجوه من المبالغة من مخاطبتهم أولا ب « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا » والإتيان بانّما الدالّ على حصر الأوصاف بل الحقيقة أيضا ، والمقارنة للأنصاب المشعر بالكفر المحض ، والأزلام الَّتي هي من شعار الكفّار ، والتقديم عليهما وتسميتها رجسا ، وجعلها من عمل الشيطان المؤذن بأنّها شرّ محض .
ثمّ الأمر بالاجتناب عن عينها ظاهرا وجعله سببا يرجى منه الفلاح ، مشعرا بأنّ مباشرها لا يفلح مع إمكان أن يقال إنّ في لعلّ أيضا نحو تأكيد وإيماء بأنهم لما تقدّم منهم من ذلك ، صاروا بعيدين عن الفلاح فافهم .
ثم أكَّد ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيويّة والدينيّة ثمّ قرّر كلّ ذلك فقال : « فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » بصيغة الاستفهام مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف ، إيذانا بأنّ الأمر في المنع والتحذير بلغ الغاية ، وأنّ الأعذار قد انقطعت .
ثمّ أمر بإطاعة اللَّه ورسوله وحذّر عن المخالفة وهدّد على التولَّي عن ذلك وغير ذلك .
وفي اللباب ( 1 )
فروى أبو ميسرة أنّ عمر بن الخطَّاب قال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء ، فأنزل اللَّه الآية الَّتي في سورة البقرة « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ » الآية فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت الَّتي في النساء « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى » فدعي عمر فقرئت عليه فقال : اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء فنزلت الَّتي في المائدة « إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ والْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ والْمَيْسِرِ – إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » فدعي عمر فقرئ عليه ، فقال : انتهينا انتهينا . أخرجه الترمذي من طريقين ، وقال هذا أصحّ ، وأخرجه أبو داود والنسائي انتهى والعاقل يكفيه إشارة .
ثمّ في الآية أحكام لكن إيرادها هنا باعتبار الاستدلال لها على نجاسة الخمر وهو من وجهين :
الف – أنّه وصفه بالرجس ، وهو وصف بالنجاسة لترادفهما ، ولذلك يؤكَّد
بالنجس فيقال « رجس نجس » .
ب – أنه أمر باجتنابه ، وهو موجب للتباعد المستلزم للمنع من الاقتراب بسائر أنواعه ، وكون كلّ منهما في جانب ، وهو يستلزم الهجران من كلّ وجه .
والجواب أنّ الرجس وإن كان حقيقة في القذر ، لكن القذر أعمّ من النجس فان الظاهر منه كلّ ما تنفّر منه النفس ، ولم سلَّم فلا يراد به هنا ذلك حقيقة بالنسبة إلى أعيان هذه الأشياء ، وإلَّا لزم أن يكون الأنصاب والأزلام أقذارا نتنجّس بملاقاتها برطوبة ، كما هو شأن كلّ نجس قذر ، ولا يعرف به قائل لا منّا ولا من غيرنا ، وظاهر الكلّ الإجماع على خلاف ذلك ، فلا بدّ من حمله على معنى غير ذلك يصحّ في الجميع ، فلا يستلزم قذارة العين نجاستها .
ولهذا قال جماعة من الفحول رجس خبر للمضاف المحذوف وهو تعاطي هذه الأشياء فإنّ الذي تستخبثه العقول ويعاف منه يقينا من هذه الأشياء ، تعاطيها على الوجوه المقتضية للمفاسد الظاهرة المشهورة المتعلَّقة بها ، كشرب الخمر ، وما يتعلَّق به من حفظها وبيعها وشرائها وغير ذلك للشرب ولو من الغير ، كما روي عنه صلَّى اللَّه عليه وآله « لعن اللَّه الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه » ( 1 ) .
ولعب الميسر وما يتعلَّق به ، وعبادة الأنصاب وتعظيمها ، وما يتعلَّق بذلك ، والاستقسام بالأزلام ، وما يتعلَّق به ، حتّى لا يبعد أن يقال إنّ قبح تعاطي هذه الأشياء واصل إلى حدّ إذا نسب إليها جميعا النجاسة والقذارة يتبادر هو لا غير ، خصوصا مع قرينة عدم قائل بنجاستها جميعا فتأمّل .
لا يقال : القائل بنجاسة الخمر كثير بل أكثر ، ولا ريب أنّ مراعاة الحقيقة مع الإمكان أولى والمجاز معها أقرب ، فينبغي أن يحمل الرجس بالنسبة إلى الخمر على حقيقته ، وفي البواقي على غيرها .
لأنّ هذا وإن كان مجازا لكنّه استعمال في الحقيقة والمجاز جميعا ، ويحتاج فيه إلى وضع ثالث ، واعتبار عين كلّ من المعنيين في الوضع والاستعمال ، ومؤنة ذلك كثيرة غير لائق بأوضاع الألفاظ ، واستعمالاتها ، بل كاد أن لا يحتمله الوضع ولا
الاستعمال ، ولذلك صار أبعد المجازات ، حتّى منع منه بعض بالكلَّية ، خصوصا بالنسبة إلى أمور مع تخصيص كلّ ببعض ، ولا ريب فيه مع عدم قرينة مفهمة لشيء من ذلك كما هنا ، ومع جميع ذلك فلا ريب أنّه يحتاج في نوع المجاز إلى النقل ولا يجوز بدونه ، ولم ينقل مثله ، فهو غير جائز البتّة .
وأما جعل رجس خبرا عن الخمر على حقيقته وكون خبر البواقي من جنس لفظه في ما يناسبها من المجاز أو يكون قوله : « مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ » خبرا عن البواقي فهذا كلَّه خلاف الظاهر ، وخروج عن مقتضى اللفظ ، وقوانين الاستعمال من غير دليل وهو ظاهر .
لكن بقي في المقام شيء وهو أن يراد بالرجس حقيقته ويكون التجوّز في الاسناد ، ولا ريب أنّه بالنسبة إلى البعض فقط أقرب إلى الأصل والحقيقة منه بالنسبة إلى الكلّ ، فمع المقتضي للتجوّز في البعض من الإجماع أو غيره لا ينبغي أن يصار إليه بالنسبة إلى الجميع ، اللهمّ إلَّا أن يقال : مقتضى اللفظ والتركيب أنّ المعنى والإسناد بالنسبة إلى الجميع واحد ، ولا يفهم للخمر مزيّة في ذلك فليتأمّل فيه .
وأما الاجتناب في الوجه الثاني فعمّا أخبر عنه بأنّه رجس ، فان كان التعاطي فلا يدلّ على اجتناب الغير من جميع الوجوه ، على أنّ الظاهر كونه في الجميع على نسق واحد ، فلو كان المراد عمّا ذكر أو نحوه ، لم يلزم نجاسة عين الخمر أيضا فتأمّل .
واعلم أنّ الأخبار في نجاسة الخمر مع ضعفها مختلفة وأكثر العامّة على النجاسة فلا يمكن حمل أحاديث الطهارة على التقيّة ، فالجمع بالحمل على استحباب غسل الثوب منها إذا لم يفهم من الآية تنجيس متوجّه ، وطريق الاحتياط غير خفيّ .

شاهد أيضاً

الدموع الناطقة في رثاء النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وآله (عليهم السلام) الشاعر جابر الكاظمي

ضلعين هشّمها الدهر واشتد المصاب صدرين واحد بالحرب والثاني بالباب زماني شچم طفل يَتَّم وتدري ...