الدرس الأول
السيّدة فاطمة عليها السلام القدوة
أهداف الدرس
على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:
1- يتعرّف إلى موقع القدوة وأهمّيتها ودورها في حياة الإنسان.
2- يبيّن أنّ السيدة فاطمة عليها السلام هي المصداق الواقعيّ الأتمّ للقدوة في حياة المرأة.
3- يبيّن طريق الاقتداء بالسيدة الزهراء عليها السلام بشكلٍ عامّ.
ومن الواضح أنّ ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ليس من باب العاطفة، والعلاقة الرحميّة الخاصّة، بقدر ما هو توجيه للأمة وتعريفها بالمقام الخاصّ للسيدة الزهراء عليها السلام عند الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والدور المُلقَى على عاتقها خلال حياة أبيها، والوظيفة التي ينبغي أن تقوم بها بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.
وتكبر فاطمة وتشبّ، ويشبّ معها حبّ أبيها لها، ويزداد حنانه عليها، وتبادله فاطمة هذا الحبّ، وتملأ قلبه بالعطف والرعاية فيسمّيها “أمّ أبيها”1.
(أمّ أبيها) صلوات الله عليها، إنّها كنية ما أجلّها وأعظمها! فهي تعبّر عن عمق الارتباط الروحيّ بين المانح العظيم المقدّس، والممنوحة الطاهرة المطهّرة بحكم التنزيه عن كلّ رجس ودنس، هذه الكنية هتاف ملأ الكون بصداه، ونداء لكلِّ جيل يتدبّر معناه، وتنبيه للأمّة بما ينبغي لها من توقير البتول وحفظ مقامها الشامخ في قلب الرسول.
وكانت الزهراء عليها السلام، أحبَّ الناس الى رسول الله2 صلى الله عليه وآله وسلم، وهي بهجة قلبه وبضعة منه، يغضب لغضبها، ويرضى لرضاها، ويغضبه ما يغضبها، ويبسطه ما يبسطها، ويُؤذيه ما يُؤذيها، ويسرّه ما يسرّها3.
هذا الكتاب، السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قدوة وأسوة، يتضمّن إطلالة على بعض الجوانب التربويّة والأجتماعيّة والجهاديّة من السيرة العطرة للسيدة الزهراء عليها السلام، وقد اعتمدنا فيه أسلوب النصّ التعليميّ الذي لا يغفل البعد الوجدانيّ، ما تطلّب زيادة جرعة الجانب الإنشائيّ في بعض الموارد التي حرصنا على عدم طغيانه على النصّ، ليبقى الجانب التعليميّ والثقافيّ هو الأصل بحسب سياستنا المعتمدة في المتون التعليميّة.
والحمد لله رب العالمين
مركز المعارف للتأليف والتحقيق
1- ابن الأثير، أسد الغابة، دار الكتاب العربي، لبنان – بيروت، لا.ت، لا.ط، ج 5، ص 520.
2- الطبراني، المعجم الكبير، تحقيق وتخريج حمدي عبد المجيد السلفي، دار إحياء التراث العربي، لا.م، لا.ت، ط2، ج 22، ص 397.
3- راجع: مسلم النيسابوري، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيريّ، الجامع الصحيح (صحيح مسلم)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان – بيروت، 1903، لا.ت، لا.ط، ج4، ص94.
تمهيد
تحتلّ مسألة القدوة والاقتداء مكانةً هامّة في حياة الإنسان، حتى إنّك تلاحظ أنّ أغلب الناس يسعون دائماً لاتّخاذ قدوة في أمور حياتهم المتنوّعة، يمشون على دربها ويتمثّلون بها. وهي مسألة لا تختصّ بعمر محدّد، بل نجد أنّ للصغير قدوته وأسوته، وكذلك الكبير أيضاً. وفي ذلك إشارة إلى أهمّية هذا المبدأ في حياة البشر، وإن اختلفت مصاديق القدوة بينهم وتنوّعت طرائق الاقتداء ومعايير اختيار القدوة، فإنّه تبقى مسألة القدوة على درجة كبيرة من الأهمّيّة في حياة الفرد والمجتمعات. وفي الدرس الأول من هذا الكتاب، ونظراً لأهمّية الموضوع، سوف نتعرّض لأصل قضية القدوة، وسوف نحاول الإجابة عن الأسئلة الأساسيّة الآتية: لماذا يحتاج الإنسان إلى قدوة في حياته؟ وهل يُمكنه أن يسير في حياته دون قدوة؟ وإن أراد الاقتداء، فبمن يقتدي؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟ وغيرها من الأسئلة.
معنى القدوة
“القُدْوَةُ اسم من اقتدى به، إذا فُعِل مثل فعله تأسّيا، وفلان قُدْوَةٌ، أي يُقتدى به”1. أمّا في معنى الْأُسْوَةُ، فقالوا هي “كالقدوة، وهي الحالة الّتى يكون الإنسان عليها في اتّباع غيره”2.
وعليه، فالاقتداء والتأسّي هو التبعيّة للمُقتدى به والتسنّن بسنّته من قول أو فعل
1- المصطفوي، الشيخ حسن، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، مؤسّسة الطباعة والنشر وزارة الثقافة والإرشاد الإسلاميّ، إيران، 1417ه، ط1، ج 9، ص 238.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص 99.
عمومًا، وهو المعنى الاصطلاحيّ أيضًا. فالاقتداء هو طلب موافقة الآخر في فعله، واتّباع شخصيّة تنتمي إلى القيم نفسها التي يؤمن بها المقتدي، وعادة ما يمثّل شخص المقتدَى به قدراً من المثاليّة والرقيّ والسموّ عند أتباعه ومحبّيه. والقدوة تنطوي في داخلها على نوع من الحبّ والإعجاب اللذين يجعلان المقتدِي يحاول أن يطبّق كلّ ما يستطيع من أقوال المقتدى به وأفعاله1.
لماذا أحتاج إلى القدوة؟
يندفع كلّ منّا في مراحل عمره الأولى لبناء شخصيّته بحسب موازين الكمال لديه ومصاديقه. ومثل هذا الاندفاع أمرٌ طبيعيّ بحكم الفطرة التي تعبّر عن الخلقة الأصيلة التي أودعها الله عزّ وجلّ فينا، وهي فطرة حبّ الكمال، حيث لا يخرج إنسان في هذا العالم عن هذه الفطرة ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾2, كما يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: “وهاتان الفطرتان الإلهيّتان، إحداهما التنفّر عن النقص والناقص، والثانية هي العشق للكمال والكامل. والأوّل أصليّ ذاتيّ، والثاني تبعيّ ظلّي… ففي جميع سلسلة البشر، مع اختلافهم في العقائد والأخلاق والطبائع والأمزجة والأمكنة والعادات، في البدويّ منهم والحضريّ، والبدائيّ والمُتمدّن، والعالم والجاهل، والإلهي والطبيعيّ، هاتان الفطرتان مُخمّرتان، وإن كانوا محجوبينَ عنهما، ويختلفون في تشخيص الكمال والنقص والكامل والناقص”3.
فمتى وجد الإنسان كمالًا معيّنًا توجّه نحوه وانجذب إليه وطلبه، إلّا أنّ هذه التوجّهات تخضع عند كلّ إنسان لقناعاته ورؤيته الخاصّة للكمال، فمنهم من يرى مثلاً الكمال في المال والشهرة، ومنهم من يراه في السلطة، ومنهم من يراه في العلم والمعنويّات… وهكذا يختلف الناس في تحديد مصداق الكمال الذي يصبون إليه. والإنسان، متى ما وجد ذلك الكمال متجسّدًا في شخص معيّن، مال نحوه مباشرة حتى يصير قدوته التي
1- راجع: مقال حول القدوة أهمّيتها ودورها، شبكة المعارف الإلكترونية.
2- سورة الروم، الاية 30.
3- الإمام الخمينيّ، السيد روح الله الموسوي، الآداب المعنوية للصلاة، لا.ن، لا.م، لا.ت، لا.ط، ص 70.
يتأسّى ويقتدي بها. وإنّه من الصعوبة بمكان أن يتوجّه الإنسان في بناء شخصيّته نحو الكمال المنشود دون وجود النموذج الحقيقي، بل هو أمر مستحيل، لأنّ طبيعة الإنسان تتوجّه عادة نحو ما هو ملموس وواقعيّ. فالشخصيّة التي يطمح الإنسان أن يتأسّى بها سوف تبقى حلمًا ما لم يكن لها مصداق خارجيّ وحقيقي. لذا، ما لم يتجسّد الكمال ومصداقه في أمر خارجيّ، فسوف يُصاب الإنسان باليأس والخنوع.
فالقدوة هي ذلك الميزان الذي يقيس عليه الإنسان تصرّفاته، موضحاً له معالم الطريق الذي ينبغي عليه سلوكه، وما يتوجّب عليه فعله وتركه. والأهمّ من ذلك كلّه، إنّ وجود القدوة الحقّة في حياة الإنسان يتيح له إمكانيّة الوصول إلى الأهداف العالية، ويبعث في نفسه أملًا بأنّ هناك من استطاع الوصول قبله، فيشعل في قلبه حماسة تدفعه للاستمرار دومًا وعدم التوقّف، لأنّ حياة القدوة تمثّل له النموذج الأصحّ والأسلم ليجعل حياته وفقها، وتشكل ميزانًا لكلّ أموره وشؤونه. وهو ما سوف يسهّل عليه تجاوز الكثير من العوائق التي سوف تعترض طريق تكامله في قادم الأيام.
كيف أتّخذ قدوتي؟
إنّ اتّخاذ القدوة لا يكون بالجبر والإكراه، فلا يمكن لأحد أن يفرض على أيّ شخص آخر قدوة معيّنة، لأّن مسألة الاقتداء تابعة دوماً لقناعات كلّ فرد وميوله. فالمقتدي إنّما يتّخذ قدوته بما ينجسم مع مبادئه وتطلّعاته، بحيث يحرّكه شوقه ليصبح نموذجاً له. من هنا، ينبغي العناية والاهتمام البالغ في كيفيّة انتخاب القدوة، حتى لا تكون النتائج مخيّبة للأهداف والتطلّعات المنشودة.
يقول الإمام الخامنئي دام ظله في تبيان كيفيّة اتّخاذ القدوة: “أولاً، إنّ القدوة يجب أن لا يُعرّف ويُقدّم لنا كقدوة، ويقال لنا: هذا قدوتكم، فمثل هذا الاقتداء تعاقديّ ومفروض وخالٍ من الجذابيّة. فنحن الذين يجب أن نختار قدوتنا بأنفسنا، أيّ أن ننظر في أُفق رُؤانا ومعتقداتنا الحقّة ونلاحظ الصورة التي نرتضيها لأنفسنا من بين تلك الصور. هكذا تصبح تلك الصورة وتلك الشخصيّة قدوة لنا. ولا أعتقد بوجود صعوبة في
حصول الشابّ المسلم، ولا سيّما الشابّ المطلّع على حياة الأئمة وأهل البيت عليهم السلام في صدر الإسلام، على قدوة له. الأشخاص القدوة ليسوا قليلين”1.
إذاً، فقناعاتي وعقائدي وما أؤمن به وما أطمح إليه هو ما سوف يحدّد لاحقاً هوية القدوة التي سأقتدي بها وشكلها. فالمؤمن على سبيل المثال الذي يستمدّ معتقداته وقيمه من دينه، وتكون طموحاته مبنيّة على أسس دينيّة، فإنّ قدوته وأسوته بطبيعة الحال هي من يجسّد التعاليم والقيم الدينيّة ومن يحمل مشروع ذلك الدين.
كيف أقتدي؟
الاقتداء لا يستلزم أن يعيش المقتدي والقدوة في الزمن نفسه، كما إنّه لا يستلزم أن يمرّا بالأحداث نفسها، بل إنّ التعرّف إلى الخطوط العريضة والقيم التي حكمت تصرّفات القدوة كفيل بأن يحقّق الاقتداء. فمتى عرف المقتدي الأسس التي سارت عليها قدوته، أمكنه أن يسير عليها ويطبّقها في حياته، كما يبيّن ذلك الإمام الخامنئي دام ظله هذه المسألة حيث يقول: “أنتِ سيدة تعيشين في عصر طغى عليه التطوّر العلميّ والصناعيّ والتقنيّ وعالمٍ رحبٍ وحضارة ماديّة زاخرة بمختلف المظاهر الجديدة، فما هي الخصائص التي يتحقّق فيها معنى الاقتداء بشخصيّة سبقك عهدها بألف وأربعمئة سنة مثلاً؟ هل تتوقّعين في القدوة التي تتأسّين بها أنْ يكون لها وضع كوضعك، تقتفين أثره في حياتك الحاليّة وتفترضين، على سبيل المثال، كيف كانت تذهب إلى الجامعة؟ أو كيف كانت تفكّر في القضايا العالميّة، أو ما شابه ذلك؟ لا، ليس الأمر كذلك، والأمور المطلوبة التي يُقتدَى بها ليست هذه، بل هناك في شخصيّة كلّ إنسان خصائص أصيلة يجب تحديدها أولاً، ثمّ ينظر إلى القدوة في ضوء تلك الخصائص والميّزات. لنفرض، على سبيل المثال، كيفيّة التعامل مع وقائع الحياة اليوميّة المحيطة بالإنسان، فقد تكون هذه الوقائع متعلّقة تارةً بعصر انتشار المترو والقطار والطائرة النفّاثة والحاسوب، وقد تكون تارةً أُخرى متعلّقة بعهد لا وجود لمثل هذه الأشياء فيه. إلّا أنّ الإنسان يجب أن يواجه وقائع الحياة اليوميّة
6- من كلمة لسماحته قدس سره في لقاء جمع الشباب من مختلف الشرائح الاجتماعيّة، بمناسبة أسبوع الشباب في الجمهورية الإسلاميّة، بتاريخ 11 محرم 1419 هـ ق، في طهران، في إجابة عن سؤال إحدى الطالبات الجامعيّات، وهو: كيف يمكننا الاقتداء بحياة السيدة الزهراء عليها السلام؟