الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر4

المسيح في ليلة القدر4

الستارة الثّالثة

يوم الجمعة التاسع عشر من شهر كانون الثاني من العام 1979م.

 


1- تاريخ نبي الإسلام، آية الله عباس صفائي الحائري، المجلد الأول.
2- كانت هذه أول حلقة في سلسلة صداقات المسلمين والمسيحييّن في صدر الإسلام، والّتي استمرّت إلى ما بعد الهجرة وإرساء دعائم قوة الإسلام في الحجاز، حتّى إنّه ورد في القرآن الكريم إشارات إلى هذه العلاقة الميمونة بين النصارى والمسلمين حيث يقول: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ سورة المائدة، الآية82-.

 

 

 

16


8

إشارة (مؤسسة صهبا)

 مضى أربعون يومًا على عاشوراء الحسين عليه السلام، وحانت الأربعينيّة، لكنّ أربعينيّة تلك السنة كانت تختلف عن غيرها من السنوات. لقد مضى عامٌ وعشرة أيام كاملة، والناس يُحيون تباعاً أربعينيّاتٍ للشهداء، ويُقدّمون المزيد في سبيل انتصار الثورة، ليحيوا بعد أربعين يومًا أربعينيّة جديدة في مكانٍ مختلف. في تبريز من أجل قم، وفي يزد والأهواز وجهرم من أجل تبريز، وفي عشرين مدينة لأجل يزد والأهواز وجهرم. واستمرّت هذه الأربعينيّات حتّى الثامن من أيلول يوم مذبحة أهالي طهران، وأُقيمت أربعينيّة شهداء طهران في كرمان وهكذا.

في النهاية أثمرت هذه الدماء. في بداية الأمر فرّ الشاه، قبل أربعينيّة الإمام الحسين عليه السلام تلك بثلاثة أيام. لقد كانت الأجواء في ذلك اليوم مختلفة في كلّ الأماكن، حتّى أجواء كنيسة القديس سركيس في شارع كريم خان في طهران. كان أشخاصٌ عدّة مشغولين بكتابة اللّافتات باللّغتَيْن الأرمنيّة والفارسيّة. كانوا كلّما أنجزوا لافتة يأتون بها إلى الأسقف ليطّلع عليها ويُبدي موافقته. وكان نصّ اللّافتة الأولى: “نُطالب بالاستقلال والحرّية لكلّ أرض وشعب إيران”، ونصّ التي تليها: “ليبقَ تضامن شعب إيران صامداً في وجه إمبرياليّة الغرب والشرق”. 
لقد تولّدت هذه الحماسة من تجرُّع غُصَص السّنوات جرّاء ذلّة النظام الملكي وتبعيّته لطغاة العالم وظلمه وعنصريّته مقابل أفراد شعبه من دون تمييز بين مسلم ومسيحيّ. وها قد وقف عالم دين متواضع ومخلص في وجه هذا النظام وكلّ من يحميه من القوى الكبرى، وصار قائدًا للثورة. قبل ثلاثة أو أربعة أيام من ذكرى الأربعين، كان الإمام قدس سره قد أصدر بيانًا من محلّ نفيه في فرنسا، جعل الجميع ينزلون إلى الميدان:
بسم الله الرحمن الرحيم
“هاهي ذكرى أربعين سيّد المظلومين والشهداء – صلوات الله وسلامه عليه – قد حلّت. لقد مرّت على شعبنا الواعي أربعينيّاتٌ مليئة بالعِبَر، فنحن كُنّا نواجه في هذه السنين أكثر من خمسين سنة من الحكم الملكي الغاصب للأسرة البهلويّة، مع ما رافقه من مصائب وتخلّف ثقافيّ مدمّر للبيوت والعائلات. إنّها خمسون سنة مُرّة ومؤلمة للغاية، وهاتان السنتان الأخيرتان اللّتان حرّكتا شعبنا الشجاع لمواجهة الاستبداد والاستعمار هما الأمرّ والأكثر إيلاماً.
 
 
 
 
17

9

إشارة (مؤسسة صهبا)

 لقد صادفت في هذه السنة أربعينيّة إمام الأمّة مع أربعينيّات أتباعه وشيعته، وكأنّ دماء شهدائنا امتدادٌ لدماء شهداء كربلاء الطاهرة، والأربعينيّة الأخيرة لإخوتنا صدى لأربعينيّة أولئك الأبطال. فلقد قضت دماؤهم الطاهرة على حكومة يزيد الطاغوتيّة، وأطاحت الدّماء الطاهرة لهؤلاء بالملكية الطاغوتية. إنّ أربعينيّة هذه السنة استثنائية ونموذجية، وإقامة المسيرات والتظاهرات الحاشدة في هذه الأربعينية واجبٌ شرعيٌّ ووطنيّ.

إنّ شعبنا العظيم بمسيراته وتظاهراته في أرجاء إيران كافة يدفن هذا النظام، ويعلن اعتراضه على مجلس الشورى الملكي غير القانوني، ويُعلن دعمه الوثيق مراراً وتكراراً لـ “الجمهوريّة الإسلاميّة””1.
لقد استحال كلّ زقاق سيلاً من الناس الغاضبين والعازمين الّذين يلتحمون في الشارع ويهتفون، ويُشكّلون صفعة في وجه هذا النظام الّذي أمر الإمام بتدميره ودفنه.
في يوم الأربعين، كانت مجموعة من المحتجّين الذين ترتفع أصوات هتافاتهم أينما وصلوا فتأتي بقية الناس لاستقبالهم، وكان الشبّان المسيحيّون المتعاطفون يهتفون بالشعارات بحماسة وهم يحملون اللّافتات المناهضة للحكومة. كانوا يرفعون بالإضافة إلى شعار “الموت للشاه” شعارًا آخر ألهب الاحتجاجات:
“مذهبنا أرمني             قائدنا الخميني”
 

1- صحيفة الإمام، المجلد 5.
 
 
 
18

 


10

إشارة (مؤسسة صهبا)

 خلال فترة وجود الإمام في فرنسا، كان الصحافيّون وعامّة الناس والإيرانيّون القاطنون في أوروبا يأتون كلّ يوم لرؤية الإمام والاستماع إلى تصريحاته. وفي أحد الأيام، جاء أربعة طلّاب جامعيّين إيرانيّّين أرمن إلى محلّ الإقامة المؤقّتة للإمام في قرية “نوفل لو شاتو”. 

كان الصحافيّون قد اجتمعوا وبدؤوا بطرح أسئلتهم، ومن بين تلك الأسئلة طرح أحد الطلّاب الأرمن الأربعة سؤالاً حول مصير الأرمن المسيحيّين في إيران فيما لو انتصرت الثورة وتَشكَّل النظام الإسلاميّ. لقد كانت نظرة الإمام الرحيمة خيرَ جواب، وأوضح الإمام: “الأرمن في إيران لهم تاريخ، ولطالما كان وضعهم كبقيّة الناس الذين استقرّوا في إيران، وهم يشتغلون بالزراعة والتكسّب والعمل. وهم سيتمتّعون بجميع الحرّيات ويتمّ التعامل معهم بعدالة تامّة”1.
وفي قرية “نوفل لو شاتو” نفسها، تلقّى المسيحيّون في يوم الميلاد ورودًا من الإمام. كان الإمام قد سأل عمّا يهديه الناس عادة في تلك المنطقة، وقد أجابوه “الورد”.
في نهاية الأمر، وبعد خمسة عشر عامًا، عاد الإمام الخميني إلى إيران في الثاني عشر من شهر بهمن سنة 1357 هجريّة شمسيّة، الموافق للأوّل من شباط عام 1979 م، ليتمّ إنجاز الخطوة النهائية في إزالة نظام الطاغوت بحضور قائد الثورة. 
كانت تحضيرات أعظم استقبال جماهيري في التاريخ على قدمٍ وساق. فإضافة إلى الملايين من عامّة الناس الّذين غصّت بهم شوارع طهران وهم ينتظرون استقبال الإمام ولقاءه، كان قد اجتمع في مبنى مطار مهرآباد جمع من رؤساء وممثّلي التيّارات والجماعات المختلفة لاستقبال الإمام والترحيب به. وكان السيّد “الخامنئي” ضمن فريق منسقّية استقبال الإمام مسؤولًا عن اللّجنة الإعلامية، وقد طلب منه الشهيد “مطهّري” أن يُلقيَ خطابًا في مراسم الاستقبال2
وما إنْ حطّت الطائرة حتّى شخصت العيون نحو باب الدخول، وراحت تنتظر. وكان من بين
 

1- صحيفة الإمام، المجلد 5، ص243، نشر وتحقيق وطبع مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني قدس سره، ط1، 1430هـ.
2- كان من المقرّر بدايةً أن يصل الإمام إلى إيران يوم الجمعة في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول. وكان في انتظاره مئات الآلاف في روضة جنّة الزهراء. وكانت جميع التحضيرات معدّة لوصول الإمام وإلقائه خطاباً، لكنّ جيش الشاه وبأمر من بختيار حاصر مطار مهرآباد. في بادئ الأمر، خاطب الشهيد بهشتي الجماهير الغاضبة ثمّ كتب السيّد الخامنئي بياناً وألقاه بنفسه على مسامع الناس. وقد طلب في هذا البيان من الناس أن يستمرّوا بالتظاهر والاحتجاج حتى اليوم التّالي، وهذه التظاهرات نفسها هي الّتي فتحت طريق عودة الإمام. مختارات من الكتاب الشريف “شرح الاسم” لهداية الله بهبودي-.
 
 
 
 
19

11

إشارة (مؤسسة صهبا)

 المستقبلين، غير بعيد عن السيّد الخامنئي بأكثر من فاصلة متر واحد، عدّة رجال دين مسيحيّين. كان حضورهم وبلباسهم الكنسي يختصر كلّ مشاعر مسيحيّي إيران تجاه الإمام الخميني.

مضى على انتصار الثورة خمسة عشر يومًا والإمام لا يزال في المدرسة العلويّة في طهران. كان الناس من مختلف الفئات والتيّارات يأتون لرؤية الإمام، ويعلنون ولاءهم للثورة. في ذلك اليوم، كان السيّد “آرداك مانوكيان”، أسقف الأرمن، يرافقه مجلس البطاركة الأرمن، في ضيافة الإمام لدقائق عدّة.
 
 
 
 
20

12

إشارة (مؤسسة صهبا)

 تحدّث الإمام إلى هؤلاء الضيوف قائلاً: “آمل أن تكون هذه النهضة فاتحة خير لجميع الأديان والأقليّات الدينيّة الّتي تعيش في إيران. إنّنا نعلم أنّ جميع الفئات في إيران، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، قد عاشت في عناء وظلم في عهد حكومة هذا الشاه وأبيه. ونحن نعلم أنّ الاسلام يتعامل دومًا باحترام مع الأقليّات‏ الدينيّة. إنّنا نؤمن باحترام الأقليّات الدينيّة، فهؤلاء من أبناء شعبنا ومن مواطنينا، وإنّني آمل أن تكون حكومة العدل‏ الإسلاميّ مفيدة جدّاً لهم، وأن يعيشوا هنا في كنف الإسلام مرفّهين أحراراً، وبشكل صحيح”1.

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...