الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– تفضّلي أيّتها السيّدة، واجلسي هنا. كيف حالك؟ هل أنتِ بخير؟
– سلّمك الله، شكرًا جزيلًا.
– حسنًا، أروني هذه الصورة. كم كان عمره؟
– عشرين عامًا، وُلد عام 46 (1967م)، واستشهد في العام 66 (1987م).
– هل هو ابنكم الأكبر؟
– ابنتي هي الكبرى، وهو يصغرها بعام، كان لدينا صبيان اثنان وبنت واحدة.
– وهل هذا ابنكم أيضًا؟
– نعم، وهذه ابنتي وزوجها.
– آجركم الله. لقد جاهد ابنكم في طريق الخير، واستشهد في سبيل استقلال الوطن والدفاع عن البلاد، وفي الحقيقة، في سبيل الدفاع عن الثورة وعن حقوق الشعب كلّه. هذا الأمر صعب عليكم، ومحزن كثيرًا. فقْد الابن الشاب صعب جدًّا ويُحرق الفؤاد، لكنّ صبركم إن شاء الله ستؤجرون عليه عند الله تعالى.
جلست الأم وصهر العائلة إلى يمين السيّد الخامنئي وأخو الشهيد وأخته إلى يساره. أما “برانكو” ابن أخت الشهيد ذو السنوات الخمس فقد كان مشغولًا باللّعب. كانت أمّ الشهيد مسرورة جدًّا، فيما استولت الدهشة على الأخ والأخت والصهر.
315
267
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
وكأنّ الأمّ كانت تعرف أنّ قائد الثورة سيزورها! منذ أن اتصلوا صباحًا وقالوا إنّ ضيوفًا سيأتون مساءً وقلبها مستبشر. فقد شعرت أنّ ضيفًا خاصًّا سيُنير منزلها. ولهذا، عندما قال لها المرافقون، قبل دقائق، إنّ ضيف المساء هو السيّد القائد وسيدخل خلال دقائق لم تتعجّب! بل أغمضت عينيها لترتسم على ثغرها ابتسامة عذبة! كانت تعرف أنّ قلبها الخبير بآلام الحياة وآمالها، لم يستبشر ويفرح منذ الصباح عبثًا!
لم يكن الأخ والأخت على علم بشيء أساسًا. اتصلت الأمّ بابنها صباحًا، في محلّ عمله في مؤسّسة الكهرباء، وطلبت منه أن يُبكّر اليوم في الرجوع إلى المنزل. ظنّ الابن أنّ والدته تُريده للتبضّع أو لأمرٍ ما فلم يسأل واكتفى بالقول: حاضر، على عيني!
كما إنّ أخت الشهيد، وقبل أن تعرف أنّ لديهم ضيوفًا، كانت قد اتصلت بأمّها وقالت: قبل الغروب وحين يعود “آلفرد” من العمل سنأتي لزيارتك.
حتّى عندما جاء الأبناء والصهر، لم تُخبرهم شيئًا! كانت أجواء عيد الميلاد، وأنواع الضيافة معدّة، إذ علمت في سرّها أنّ أمرًا جميلًا سيحصل. لم تُخبرهم بشيء، إلى أن قُرع جرس الباب!.
جلس الابن هادئًا ساكنًا، إلى جانب قائد الثورة، محدّقًا إلى نقطة في الأرض ومجيبًا عن أسئلته بهزّ رأسه إيجابًا وتأمّلاً.
– حسنًا. ماذا تعمل يا عزيزي؟!
– في المؤسّسة، مؤسّسة الكهرباء.
– لماذا لم تُكمل تعليمك الجامعي؟
– لم أدرس سوى لصف الأول المتوسّط. لم تسمح لي الظروف بالمتابعة!
ثمّ يسأل أيضًا عن مهنة الصهر، والّذي يعمل كذلك في مؤسّسة الغاز. يلتفت إلى أمّ الشهيد. كان وجه الأم يلفّه الحزن والانكسار وتبدو أكبر سنًّا ممّا هي عليه في الواقع.
– وهل كُنتِ تمارسين مهنة ما؟
– كلا، أنا ربّة منزل.
– وأين هو والد الشهيد؟
– أخوه مريض وقد ذهب لعيادته في قزوين. كما إنّ والد الشهيد قد تعرّض لحادث
316
268
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
سيارة منذ ستّ سنوات وأضحى جليس المنزل لا يعمل.
– عجيب، وماذا كان يعمل!
– كان سائقًا يعمل على سيارته.
– وهل لديه مشاكل خاصّة معيّنة في جسده؟
– عيناه لا تُبصران بشكل طبيعي؟
– هل أصبح نظره ضعيفًا؟
– نعم، بعد تعرّضه لارتجاج في المخّ إثر الحادث، بقي أربعة أشهر في مستشفى الإمام الخميني.
حين وصل الكلام إلى ذكريات حادث والد الشهيد، بدت الغصّة واضحة في كلام الأمّ وارتجف صوتها.
كان الشهيد “بيار مارون آده” تلميذًا في المدرسة. عندما تعرّض والده للحادث وأُصيب بارتجاج المخّ، وبما أنّه الابن البكر، اضطرّ لترك الدراسة والذهاب إلى العمل ليُعيل الأسرة.
عمل سنوات عدّة في محلّ لفّ المحوّلات الكهربائيّة، وبعد سنّ الثامنة عشرة ومع أنّه كان يستطيع الحصول على إعفاء من الخدمة العسكرية كونه معيلًا للأسرة بدلًا عن أبيه، إلا أنّه رفض هذا وكان يقول لأهله: سأذهب كبقية الشباب إلى الجبهة وأُحارب دفاعًا عن الأرض والعرض.
يسود الصمت للحظات. لا أحد يتكلّم، لعلّ غصّة الأم تهدأ قليلًا ويستكين ألمها مجدّدًا.
يُجيل السيّد الخامنئي نظره، ويتأمّل جدران المنزل، فتُلفته صورة طفل صغير.
– هل صورة الطفل هذه للشهيد أيضًا؟
تُشير والدة الشهيد إلى “برانكو” وتقول بهدوء: هذه صورة حفيدي.
يستأذن الصهر ليُحضر الشاي من المطبخ.
– لا تُتعب نفسك سيّدي العزيز، المهم هذا الجمع، ولا بأس إن لم يوجد الشاي، استرح!
– كلا سيّدي الحاج، الشاي موجود وقد أصبح جاهزًا.
بعد أن يسأل السيّد الخامنئي عن مسقط رأس الأمّ، وهي من “كرمانشاه”، وبعد تناول
317
269
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
أطراف الحديث حول انتشار “الآشوريين” في مناطق البلاد المختلفة، يعود للكلام عن الشهيد:
– حسنًا، سيّدتي ما هو اسم الشهيد؟
– بيار.
– ليتك تُحدّثينا عنه قليلًا.
تتذكّره الوالدة وتقول بصوت محشرج وأنفاس متقطّعة: “مهما قلتُ.. ومهما أقول.. فهو قليل.. حسنًا، حسنًا!”.
يهزّ السيّد رأسه إيجابًا: “نعم لقد كان طيّبًا”.
لقد حشرج صوت الوالدة، لدرجة عجزت معها عن لفظ كلمة “كثيرًا”!.
يصمت السيّد الخامنئي لتسكين الوالدة. لكنّها حين سكت السيّد انفجرت بالبكاء وانهمرت دموعها، وسرى ذلك إلى أخت الشهيد وأخيه.
كأنّ هؤلاء الثلاثة لديهم ألم مشترك دفين يريدون تسكينه بالدموع.
يندهش الصهر لسيادة البكاء والدموع على الجميع، ويُحاول إيقافهم عن البكاء، لكن السيّد الخامنئي يمنعه قائلًا:
– دعهم يبكون. الدموع ليست أمرًا سيّئًا. الدموع تُدخل الهدوء للقلب وتغسل همومه. بالطبع، إنّ البكاء الشديد الّذي يُفقد الإنسان وعيه ليس جيّدًا، لكن لا بأس إن بكى الإنسان من حين
لآخر.
يدور الحوار الآخر بين السيّد والصهر، ولكن الواضح أنّ الصهر لا يزال منشغلًا بمشهد البكاء الجماعي.
– أين هي كنيستكم؟ هل لديكم كنيسة في طهران؟
– نعم هنا في هذه المنطقة.
– قريبة من منزلكم؟.
– نعم هنا.
حين لاحظ السيّد أنّ الصهر لا يزال مشتّت التفكير. سأل المرافقين: “أيّها السادة ما هو اسم هذا الشارع؟” فيأتي الجواب: “شارع غفّار”.
318
270
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
فيلتفت للصهر ويقول:
– كنيستكم في شارع “غفار” صحيح؟
– نعم سيّدي.
– من هو كاهنكم؟ عالمكم؟ مرشدكم الديني؟ هل هو في طهران؟
تُجيب الوالدة بعد أن هدأ بالبكاء حزن قلبها.
– الكاهن “آتور”.
– وهل هو أيضًا من أهل منطقة “باختران” و”كرمانشاه”.
– كلا سيّد، إنّه من منطقة “أرومية”.
حين ذكرت منطقة “أرومية” يذكر السيّد الخامنئي لقاءه منذ خمس سنوات بعائلة شهيد آشوري آخر، فيُغيّر بذلك أجواء اللّقاء ويتكلّم عن عادات وتقاليد الآشوريّين.
– زرت في إحدى المرّات أسرة شهيد آشوري في ليالي الميلاد ورأس السنة وكانوا من أهل “أرومية”. لقد حدّثونا في ذلك اللقاء عن عاداتهم في الصيام، وكيف أنّهم نذروا ليرزقهم اللّه
هذا الابن.
تقول والدة الشهيد: “كان درويشًا!”.
– نعم كان درويشًا. ولقد أرونا صور الخراف التي نحروها أضحية من أجله. هو نفسه الابن الذي استشهد.
* * *
إشارة السيّد الخامنئي كانت لزيارة عائلة الشهيد “بدل داوود”. إنّه الشهيد “أوديشو بدل داوود” وقد كانت الزيارة في أجواء عيد الميلاد قبل خمس سنوات. عيد الميلاد سنة 1986.
كان اللّقاء مع أسرة الشهيد “بدل داوود” حميمًا ودافئًا. على الرغم من وفاة الوالد بعد استشهاد ابنه ببضعة أيام، إلا أنّ معنويات أفراد العائلة وروحيّاتهم كانت عجيبة جدًّا، من حيث الصمود والثبات والمقاومة! دار الحوار في تلك الزيارة بين السيّد الخامنئي ووالدة الشهيد وأخته وأخيه الأصغر.
319
271
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– حسنًا، سيّدتي هل هؤلاء أولادك؟
– أجل هذه أخت الشهيد، وهذا أخوه.
– جيّد جدًّا، جيّد جدًّا، هل لديك أولاد غيرهما؟
– نعم، ابنتان متزوّجتان وهما حاليًّا في “أرومية”.
320
272
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– هل تسكنان هناك؟
– نعم، لديّ خمسة أبناء، وكان “اوديشو” ابني الأكبر يا سيّدي الحاج.
– حسنًا، ليحفظهم الله لك.
ثمّ يلتفت السيّد إلى أخي الشهيد.
– حسنًا، وماذا تعمل يا عزيزي؟
– أنا أُتابع دراستي.
– في الثانويّة أو في الجامعة؟
– في الثانويّة.
– في أيّ سنة من المرحلة الثانوية؟
– السنة الأولى.
– الأول ثانوي. حسنًا، جيّد جدًّا.
ثمّ يلتفت السيّد إلى المرافقين مشيرًا إلى أخت الشهيد الّتي جلست على الأرض، قائلًا لهم: أحضروا كرسيًّا لتجلس الآنسة عليه.
لكنّ أخت الشهيد تُصرّ على البقاء وتقول إنّها مرتاحة هكذا ولا حاجة للكرسي.
– حسنًا. ماذا عنك يا سيّدة؟
– أنا أُتابع دراستي.
– في أيّ صف؟
– في الصفّ الثاني المتوسّط.
دعا السيّد لأمّ الشهيد:
– جيّد جدًّا، ليحفظ الله لك هؤلاء الأبناء ويُفرّح قلبك دومًا. قُلتِ إنه كان ابنكم الأكبر؟
– نعم.
– لم يكن قد تزوّج؟
– كلا، لقد كان ابني درويشًا.
– أين كان؟
– كان درويشًا!
321
273
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
التفت أخو الشهيد إلى أنّ السيّد لم يعرف معنى الدرويش في المذهب الآشوري. فبدأ يشرح:
– قبل أن يولد، ينذر الأهل أنّه إن وُلد لهم صبيّ فإنّه سيكون درويشًا!
– وهل هذا من العادات والمناسك الآشوريّة؟
– نعم.
– وماذا يعني؟ قل لي لأعرف، ما معنى درويش بالضبط؟
بدأ كلّ منهم يوضح بمقدار ما أسعفته اللغة.
– أي إنّكم طلبتم من الله أن يُعطيكم هذا الابن ونذرتم أن يكون درويشًا لمدّة سبع سنوات؟
– نعم نعم.
– وعندما يُصبح درويشًا ماذا يفعل؟ ممنوع أن يتزوج مثلًا؟
– كلا، فقط يبقى حتى سنّ السابعة من دون حلق شعره، وبعدها يحلقونه ويتبرّعون بوزنه مالًا للكنيسة.
ثمّ قامت أم الشهيد وأحضرت صور ابنها للسيّد الخامنئي الّذي نظر بدقّة إليها، صورة بعد صورة.
صارت الوالدة تشرح وتتحدّث عن ابنها “أوديشو”.
– سيّدي الحاج، لقد كان “أوديشو” كالأنبياء، كان مؤمنًا بالله محبًّا لوطنه كثيرًا، ويصوم دائمًا.
– إنّه لمدهش!
– والله هكذا كان! نحن لم نكن نصوم دائمًا، ولكنه لم يكن يترك الصيام ولو ليوم واحد!
سأل السيّد الخامنئي أخوة الشهيد حول صيام الآشوريين:
– أنتم متى تصومون؟ في أيّ شهر؟
ذكر أخو الشهيد بعض أيام الصيام عندهم، لكنّ أخت الشهيد التي تواظب على الصيام مثل الشهيد، ذكرت كلّ أيام الصيام.
– لدينا ثلاثة أيام: هي صيام النبي يونس عليه السلام، خمسة عشر يومًا، صيام عيد السيّدة
322
274
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
مريم المقدّسة، خمسة وعشرون يومًا، ميلاد السيّد المسيح، وخمسون يومًا قيام السيّد المسيح.
إضافة إلى كل أيام الأربعاء والجمعة طوال السنة، وصيامنا عبارة عن الامتناع عن تناول أي منتج حيواني، كاللّحم وبيض الدجاج والألبان وما شابه.
كان “أوديشو بدل” شهيدًا مفقود الأثر، وتوفّي الوالد بعد أربعين يومًا من شهادة ابنه. قرّرت أسرة الشهيد بعد أن تأكّدت من شهادته، وعملًا بوصيّة الكاهن، أن تدفن بدل جثمانه المفقود شيئًا تذكاريًّا من أثره، وهذا التذكار لم يكن سوى شَعر “أوديشو” الذي حلقوه عندما بلغ السابعة من عمره، وكانت أمّه قد احتفظت به بعد أن تبرّعوا بوزنه مالًا للكنيسة.
ضريح والد الشهيد “بدل داوود” والذي اعتبر مزار الشهيد “أوديشو” أيضًا
بعد تذكّر زيارة أسرة الشهيد “بدل داوود”، جرى الحديث بين السيّد الخامنئي ووالد الشهيد “بيار مارون آده” حول الآشوريين في طهران.
323
275
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– كم هو عدد الآشوريين في طهران؟ كم عائلة؟ هل تعرفون؟
– هم كثر، لا أعرف بالضبط. أربعمائة عائلة وربما أكثر.
– حسنًا، هل تتزوّجون من الطوائف الأخرى؟ أم من الآشوريّين فقط؟
– حسب القسمة والنصيب!
– أي إنّكم غير ممنوعين من الزواج من المذاهب الأخرى.
– كلا، مهما كان النصيب فليكن.
– طيّب، وهل لديكم علاقات جيّدة مع المسيحيّين الآخرين في طهران كالأرمن وغيرهم؟ هل لديكم صداقات معهم؟
– طبعًا بالتأكيد.
– وهم يختلفون في نوع تديّنهم مع الآشوريّين.
– نعم.
– نعم، كلّ إنسان ومن أيّ مذهب كان، إن كان سلوكه جيّدًا وأخلاقه حسنة وتعامله طيّبًا مع عباد الله، خاضعًا وخاشعًا، لا يكذب ولا يُخادع ولا يغتاب الآخرين، لا يرتكب الأعمال السيّئة والقبيحة، فهو عبد صالح. يجب السعي دومًا ليكون السلوك والأخلاق والعمل جيّدين. وبالطبع، فإنّ أهل كلّ مذهب يرون أنّ مذهبهم هو الحقّ وليس مذهب الآخرين، ولكن على الجميع أن يُحسّن من سلوكه وعمله وخلقه بأحسن ما يكون.
اختفى أثر الحزن والغصّة من ملامح والدة الشهيد. وقد جعل الكلام وسرد الذكريات للسيّد الخامنئي وجه الأمّ مشرقًا باسمًا.
كما إنّ “برانكو” قد غيّر الأجواء بلعبه وحيويّته وحركاته. هذا الصبي الّذي لم يعد الآن يشعر بالخجل، قام يلعب بعصا السيّد الخامنئي! حاولت أمّه أن تأخذ العصا منه ولكنّ السيّد منعها وقال: اتركوا الصبي يلعب كما يشاء!
يتناول القائد كوب الشاي وبابتسامته العذبة يُعيد إدارة الحوار حول الشهيد متوجّهًا بالكلام إلى والدة الشهيد:
– حسنًا، قُلتِ إنّ ولدك كان ابنًا بارًا طيّبًا.
324
276
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– كان طيبًا جدًا سيّدي الحاج، طيّب القلب. حين استشهد، احتشد أهالي منطقتنا كلّهم، المسلمون وغير المسلمين وشاركوا بمراسم تشييع لا نظير لها، وكأنّه ابنهم. إمام المسجد كذلك شارك في التشييع، الجميع جاؤوا للعزاء. سيّدي الحاج، كان ابني ولدًا صالحًا، مهما أقول عنه فهو قليل!
لم تتحمّل الأم أن تقول كيف استشهد ولدها. فلو أرادت أن تقول إنّه استشهد في قصف الأسلحة الكيميائيّة في “سومار” لعادت لها الذكريات الأليمة، ولتخيّلت مجدّدًا جسد ابنها المحترق
بالغازات الكيميائيّة أمامها. حينها حاول الشباب أن يمنعوا الأم من رؤية جثمان شهيدها لكنّهم لم يستطيعوا! لقد رأت واحترقت ألمًا وحسرة ولا تزال تتألّم حتى الآن.
غيّر قائد الثورة الموضوع مرّة أخرى لتهدأ أمّ الشهيد. تحدّث إلى إخوة الشهيد:
– بالنسبة إلى لغتكم، كيف هي؟ صعبة أم سهلة؟ تعلّمها ميسّر؟
– هي شبيهة باللّغة العربية.
– ماذا تقولون مثلًا للماء؟ للخبز والسكّر؟
– الماء نقول له “مييه”.
325
277
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– والخبز؟
– “لَه”.
أشار السيّد لمكعّب السكّر في يده وسأل:
– وماذا تُسمّون السكر؟
احتار أخو الشهيد وأخته وهما يُجيبان وتعجّبا من اهتمام السيّد باللّغة الآشورية بهذه الدرجة.
– نقول له مكعّب سكّر (أي “قند” باللّغة الفارسيّة).
– حسنًا، لأنّ هذا جديد ومن الألفاظ الجديدة الّتي لم يكن لها معادل في ذلك الزمان. ماذا تقولون للإنسان بالآشوريّة؟
– “لَعليش”.
– إذا أردتم أن تقولوا: “هناك أحد في هذه الغرفة”؟
– نقول “جودا أتاق خانه اش!”.
– ماذا تعني جودا؟
وهكذا تابع السيّد الخامنئي السؤال بدقّة واهتمام عن مفردات وألفاظ اللغة الآشوريّة، فيما إخوة الشهيد وأخته يجيبون بشوق وحماسة شديدة.
– وكيف خطّكم وكتابتكم؟
– شبيه بالخط العربي القديم.
– لديكم نماذج كي أراها؟
اسم الكتاب :المسيح في ليلة القدر،
بالخط الآشوري ويبدو التشابه واضحًا مع الخط العربي
326
278
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
– أجل.
ذهب أخو الشهيد وأحضر كتابًا للسيّد القائد.
تصفّح السيّد الكتاب بدقّة وتأمّله صفحةً صفحة، مستوضحًا من أخي الشهيد حول الخطّ الآشوري.
ثم سأل أخت الشهيد عن نائب الآشوريين في مجلس الشورى:
– من هو نائبكم في المجلس؟
– “آتور”.
هل هو نائب عن الآشوريّين في إيران؟
– نعم، السيّد “آتور خنانشو”.
وماذا يعني “خنانشو؟”.
نظر جميع أفراد العائلة بعضهم إلى بعض. لا أحد يملك جوابًا!
تحدّث السيّد الخامنئي، وتناول أطراف الأحاديث من كلّ حدب وصوب مع أسرة الشهيد “بيار مارون آده”، مع الصهر حول انتخابات مجلس الشورى المقبلة، مع الابن حول الخطّ الآشوري، ومع أخت الشهيد حول المفردات والألفباء، ومع أمّ الشهيد حول العرق الآشوريّ
327
279
الرواية السّابعة عشرة: شهيد السّلاح الكيميائيّ
وتاريخ الآشوريّين. جالسهم السيّد الخامنئي وتحاور معهم بدقّة ومثابرة وتنوّع، حدّثهم فردًا فردًا لدرجة لم يلتفت أحد منهم لمرور الوقت! لم يشعر أحد كم طال اللّقاء وكيف أنّ البسمة قد عادت وارتسمت على ثغر الأمّ والفرحة في قلبها. قدّم السيّد الخامنئي هدية لوالدة الشهيد وتهيّأ للمغادرة.
– حسنًا يا سيّدتي! كان هدفنا أن نُسلّم عليكم ونحيي ذكر شهيدكم العزيز. أردنا أن نُكرّمكم لأجل كلّ الصعاب التي تحمّلتموها في سبيل الوطن، وكيف أنّكم قدّمتم ولدكم الغالي في سبيل الله. أفرح الله قلوبكم دومًا وأسعدكم، وأسأله أن يُكرمكم بفضله ورحمته. ولتبقَ قلوبكم منيرة مشرقة بإذنه تعالى.
شكر الأربعة سماحة القائد: “أدام الله ظلّكم فوق رؤوسنا”، “شكرًا جزيلًا على تشريفكم وعناء زيارتكم”، “نحن فداءً لقدومكم المبارك” و”أهلًا وسهلًا بكم شرّفتمونا”.
ينظر السيّد الخامنئي إلى وجوههم فردًا فردًا، ويستودعهم الله بنظرة أبويّة حنونة وبسمة لا تُفارقه، يودّع الأمّ والأخ والأخت وزوج أخت الشهيد “بيار مارون آده”:
– في أمان الله وحفظه، يحفظكم الله، في أمان الله.