الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (75)

عيسى اقتُسمت ثيابه بعد موته إلى أربعة أنصباء لكلّ جندي نصيب ، وأخذوا القميص أيضاً وكان غير مخيط منسوجاً كلّه من أعلاه إلى أسفله ، فقال بعضهم لبعض : لا ينبغي أن نشقّه ، بل نقترع عليه فنرى لمَن يكون(1) . والحسين لحقته هذه الإهانة وهو صريع متضرّج بدمائه في فلاة كربلاء ، فسلبه قاتلوه ، ولم يوفّروا حتّى تكّة سرواله ، وامتدّت لها يد أحدهم بلا أدنى استعظام أو تأثّم(2) .

ابن مريم مات عطشان ، ففي لحظات نزاعه الأخير هتف : ( أنا عطشان )(3) فلم يؤتَ له بماء ، بل كان هناك إناء مليء خلاًّ ، فوضعوا اسفنجة مبتلّة بالخلّ على قضيب من الزّوفي وأدنوها من فيه فلمّا ذاق الخلّ لفظ روحه . وابن فاطمة وهو مجندل مطعون في ترقوته ونحره وجنبه وحلقه ورأسه وجبهته وقفاه والدم ينبع ويخضّب جسده الطاهر ويلوّن شيبته المقدّسه ، وكان في نزاعه الأخير حينما استقى ماء فأبوا أن يسقوه ، وقال له رجل : لا تذوق الماء حتى ترد الحامية فتشرب من حميمها (4) .

والأنبياء والشهداء والمصطفون يدركون أنّ وجودهم المادّي زائل ، لكن حججهم ونفثات ضمائرهم هي التي ستبقى لتسري في النفوس مسرى النار في الهشيم ، وليتردّد صداها في المهج ، فلا يهدأ لها صدى إلاّ ليرجع من مكان

ــــــــــــــــ
(1) يوحنا 19 / 24 .

(2) راجع اللهوف / 73 ، ومقتل الخوارزمي 2 / 38 ، وكامل ابن الأثير 4 / 32 ، ومناقب ابن شهر آشوب 2 / 224 ، ومقتل الخوارزمي 2 / 102 .

(3) يوحنا 19 / 29 ـ 30 .

(4) ابن نما / 39 .

الصفحة (76)

آخر ، وهكذا فبينما يحيط جند يزيد بالحسين (عليه السّلام) إذ به يعتلي راحلته ويخاطبهم : (( أيّها الناس ، انسبوني مَن أنا ، ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا : هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟ ألست ابن بنت نبيّكم ، وابن وصيّه ، وابن عمّه ، وأوّل المؤمنين بالله ، والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربه ؟ أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي ؟ أو ليس جعفر الطيّار عمّي ؟ أو لم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي : هذان سيّدا شباب أهل الجنة ؟ )) .

فقال الشمر : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول . ثمّ قال الحسين (عليه السّلام) : (( فإن كنتم في شكّ من هذا القول ، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم ؟ فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبيّ غيري فيكم ولا في غيركم . ويحكم ! أتطلبوني بقتيل منكم قتلته أو مالٍ لكم استهلكته أو بقصاص جراحة ؟ ))(1) . فأخذوا لا يكلّمونه ، وأصمّوا آذانهم عن سماع حديثه ، فقد تفاعل الحقد في عروقهم فأعماهم عن صوت الحقّ الذي ينطق به لسان سيّد الشهداء .

فسبحان الذي رسم لشهدائه وأبراره مثل هذه المواقف ! الشهيد والنبي والمصلح يقفون أمام الفاسدين يستعطفون قلوباً تحجّرت وأبت إلاّ أن تقف إزاءهم بنفوس ملؤها الشرّ والحقد ، وهذا ما فعله أعداء الحسين (عليه السّلام) الذين التفّوا حوله هازئين مستعدّين للانقضاض عليه بعد وقت قصير باسم دين جدّه المصطفى ، فكان حالهم كحال مَن يحارب البياض باسم السّوسن ، وكحال مَن عنتهم تلك الآية الكريمة التي جرت على لسان المسيح : (( سماعاً تسمعون ولا

ـــــــــــــ
(1) رواه ابن نما في مثير الأحزان / 26 ، وجاء في تاريخ الطبري 6 / 243 .

الصفحة (77)

تفهمون ، ونظراً تنظرون ولا تبصرون . فإنّ قلب هذا الشعب قد غلظ ، لقد ثقّلوا آذانهم ، وأغمضوا عيونهم لكي لا يبصروا بعيونهم ، ولا يسمعوا بآذانهم ، ولا يفهموا بقلوبهم ))(1) .

وكما سيّد الشهداء كذلك عيسى رسول السّلام والمحبّة وقف في مثل وقفته بين اليهود الذين جاؤوا لاعتقاله ، فقال مخاطباً الأحبار وقادة الحرس والشيوخ : (( أعلى لصٍّ خرجتم تحملون السيوف والعصي ؟ كنت كلّ يوم بينكم في الهيكل فلم تبسطوا أيديكم إليَّ ، ولكن تلك ساعتكم ، وهذا سلطان الظلام ))(2) .

وقال أيضاً : (( ألم يعطكم موسى الشريعة وما من أحد منكم يعمل بأحكام الشريعة ؟ لماذا تريدون قتلي ؟ ))(3) . فأجابه الجمع كما أجاب الشمر الحسين : بك مس من الشيطان)(4) . قال عيسى : (( لماذا لا تفهمون أقوالي ؛ لأنّكم لا تطيقون الاستماع إلى كلامي . إنّكم أولاد أبيكم إبليس , لم يثبت على الحقّ ؛ لأنّه ليس فيه شيء من الحقّ ؛ لأنّه كذّاب وأبو الكذّاب . أمّا أنا فلا تصدّقوني ؛ لأنّني أقول الحقّ ، أنا أعلم أنّكم ذرّيّة إبراهيم ، ولكنكم تريدون قتلي ))(5) .

صيحتان متشابهتان أطلقهما وسط غلاظ القلوب ، رسول المحبّة ، وسيّد الشهداء (عليه السّلام) ،

ـــــــــــــــ
(1) متّي 13 / 15 ، رسل 28 / 26 .

(2) لوقا 22 / 52 ـ 53 ـ 54 .

(3) يوحنا 7 / 19 .

(4) راجع الفقرة 20 من إنجيل يوحنا 7 ، يجيب المسيح : ( ما عملت إلاّ عملاً واحداً فتعجّبتم كلكم ) .
(5) يوحنا 8 / 43 ـ 44 ـ 46 .

الصفحة (78)

وأمام الموت المحيق بهما ، إنّها ضريبة الحق قبل أن تُؤدّى .

كان بإمكان الشهيدَين تجنّب هذا الموقف وهذا الكلام ، لكنّهما أدّيا واجب الكلمة الحقّة قبل أن يؤدّيا واجب الشهادة ، بثّا في الضمائر بذرة الخير تعمل بها وتتفاعل لتنشر عبقها في الهواء ، فتعمّ الجميع وتفيء بظلّ حقّها على القلوب ، وتكون الجرثومة التي تقتل ما فسد من أخلاق ونفوس والترياق المحيي للصدور المسمّمة ، والمهج المشرفة على الاختناق بضلالها .

وحكمة الله تنفح الرؤى في رؤوس الأخيار البررة ، فتجري على ألسنتهم كلاماً يحمل معنى النبوءة ، ففي موقع الخطر وفوق أرض النهاية حيث تُتعتع أشدّ العقول رباطة ، وتتزعزع أقوى القلوب جأشاً ، تظلّ قلوب الشهداء حيّة ، وعقولهم صافية منيرة .

ففي حومة الخطر خاطب الحسين (عليه السّلام) قاتليه بما سيحلّ بهم وما أثبتته الأيّام بالصدق ، وصوّر لأعينهم وبصائرهم أي منقلبٍ سينقلبون إذا ما أقدموا على قتله ؛ وذلك كي يكون في كلامه عظةٌ وإنذارٌ قبل الوقوع في الخطأ ، علّهم يرعوون ويتوبون إلى ربّهم وضمائرهم . ولكن هيهات للضمائر التي نامت ، وللنفوس التي هرمت أن تعي عظة مقدّسة حيّة ، فلو وعت لقدّمت المُثل الحيّة على مفاسد الأخلاق وموت الضمائر ، ولارعوت بما قاله سبط النبي (عليه السّلام) : (( أما والله لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس ، حتّى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهدٌ عهده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله . فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ، ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط

الصفحة (79)

مستقيم ))(1) . ثمّ رفع يدَيه نحو السماء وقال : (( اللّهمّ احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف ، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبّرة ؛ فإنّهم كذّبونا وخذلونا وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير . والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي ))(2) .

ويقابل هذا القول ذلك الذي جرى قبل قرون على لسان شهيد المسيحيّة حينما حكم عليه علماء الشريعة اليهوديّة بالموت ، إذ قال مخاطباً إيّاهم : (( الويل لكم أنتم يا علماء الشريعة ! تُحمّلون الناس أحمالاً باهظة وأنتم لا تمسّون هذه الأحمال بإحدى أصابعكم ! الويل لكم ! تبنون قبور الأنبياء وآباؤكم هم الذين قتلوهم ! فأنتم الشهود ، وأنتم على أعمال آبائكم توافقون ، هم قتلوهم وأنتم تبنون ؛ ولذلك قالت حكمة الله : أرسل إليهم الأنبياء والرسل وسيقتلون منهم ويضطهدون حتّى يطلب من هذا الجيل دم جميع الأنبياء الذي سفك منذ إنشاء العالم ، من دم هابيل إلى دم زكريّا الذي قتل بين المذبح والهيكل ))(3) .

فإيراد مثل هذا التشابه في الأقوال والمواقف والمصير بين الشهيدَين عيسى والحسين (عليه السّلام) من شأنه إبراز نواحي عنصر الشهادة بينهما رغم أنّهما جاءا في عصرين مختلفَين ، وأدّيا رسالتَين مختلفتَين في الشكل ، متجانستَين في المرمى .

فعيسى بن مريم (عليه السّلام) جاء إلى اليهود يحمل رسالة جديدة يبشّر بها هي اتمام

ــــــــــــــ
(1) تاريخ ابن عساكر 4 / 334 ، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 7 ، واللهوف / 54 .
(2) اللهوف / 56 طبعة صيدا ، ومقتل الحسين (عليه السّلام) للخوارزمي 2 / 7 ، ومقتل العوالم / 84 .
(3) لوقا 11 / 46 ـ 51 .

الصفحة (80)

لرسالة العهد القديم التي حرّفها اليهود ووضعوا لها شريعة أسمَوها شريعة الآباء ، فاضطهدوه واتّهموه بما لا يتّهم به نبي . ثمّ قدّموه للموت ، فتقدّم إليه كهدف أنفذ لأجله ، وقد فدى نفسه وحدها لتظلّ رمزاً للمسيحيين من بعده تذكّرهم بمعنى افتداء نفس قرباناً للعقيدة ، فيحسّون بضعفهم إذا ما ضعفت عقيدتهم ، وتكون مناسبة الفصح مناسبة للحزن والذكرى ، وإعادة التبصّر ، وتقويم الضعف في النفوس ، والانحراف في أخذ العقيدة .

وبمقياس الجود بالنفس الواحدة مقابل سلامة العقيدة أو بعثها من البدء ، فإنّ الأنبياء موسى وعيسى ومحمّد (عليهم السّلام) والشهداء زكريّا ويحيى وعلي والحسن والحسين والعبّاس وغيرهم .. أدّوا رسالتهم الكاملة بما يرضي الله سبحانه تعالى كما رسمها لهم ، وكانت أنفسهم الطاهرة هي القربان الذي قدّموه على مذبح الشهادة .

فإذا كانت الأديان السماويّة تنزل ويفدى لها بنفس رسولها ، وتنشر فيفدى لها بنفس ناشرها ، وتحمى فيفدى لها بنفس حاميها ، فبأي وصف أو مقياس يمكن لنا ولأجيال المؤمنين من بعدنا أن نقيس ثورة الحسين (عليه السّلام) التي قدّم فيها عترة آل البيت وصحبه الأخيار ، وكان ثمن دفاعه عن انحراف العقيدة ثلاثاً وسبعين نفساً طاهرة هي اُسرة النبي الذي أنزلت الرسالة به ، والتي حارب أعداء الرسالة سبطه باسم رسالته .. سبطه الذي قال عنه (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا من حسين ))(1) ؟ هل يمكن قياسها بمقياس ما قدّمت ، أم بمقياس ما زالت تقدّمه ؟

ـــــــــــــــــ
(1) تعبير رواه من الإماميّة ابن قولويه في كامل الزيارات / 53 ، ومن أهل السّنة الترمذي في جامعه في مناقب الحسين ، والحاكم في المستدرك 3 / 177 ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق 4 / 314 ، وابن حجر في مجمع الزوائد 9 / 181 ، والهيتمي في الصواعق المحرقة / 115 حديث 23 ، والبخاري في الأدب المفرد ، والمتقي الهندي في كنز العمال 7 / 107 ، والصفوري في نزهة المجالس / 478 ، وأمالي السيّد المرتضى 1 / 157 المجلس الخامس عشر ( نقلاً عن المقرم ) .

   

      الصفحة (81)

إذا قسناها بالمقياسين ـ ولا مندوحة لنا إلاّ بهما ـ فنجد أنّ ثورة ريحانة النّبي هي أعظم الثورات قاطبة ، وشهادته متممّة لكلّ الشهادات التي سبقتها ، إذ إنّ هذه الثورة قَبِلت قرباناً لها الشيخ والمرأة والطفل والرضيع . وكانوا كلّهم في ميدان واحد مشاهدي مجزرة ومتحمّلي نتائجها . فهي ثورة جعلت من مشعل أوارها وارث آدم صفوة الله ، ووارث نوح نبي الله ، ووارث إبراهيم خليل الله ، ووارث عيسى روح الله ، ووارث محمّد حبيب الله .

واستشهاد الحسين بهذا الشكل الدراماتيكي المؤلم رفعه مرتبة فوق الشهداء فصار سيّدهم ومعلّمهم ، سيّما إذا نظرنا إلى الوسائل والكيفيّة التي تمّت بها شهادته مختتماً بها ثورته المنتصرة رغم خذلانها .

ففي الهدف ثبت أنّ ثورة الإمام كانت دفاعاً عن كلّ الرسالات السماويّة التي سبقتها ما دام هدف الرسالات تقديم المثال الحي على خلودها بالاستشهاد المعمَّد بالدم ، و هو (عليه السّلام) تمّم بها ما بدأه جميع الأنبياء الذين ذاقوا الاستشهاد حرقاً وقتلاً وذبحاً وصلباً .

وفي الكيفيّة والوسيلة نرى أن ليس ثمّة ثورة تشبه ثورة الحسين بكيفيّتها ووسائلها ، فقد كان سبط النبي (عليه السّلام) مصلحاً كبيراً انبثق من جموع الاُمّة ، وله صفة بشريّة واحدة لا صفة رسوليّة كما للرسل ، فكان عليه أن يسلك في كفاحه مسلك البشر المعذّبين والمحاصرين ، ويلجأ إلى الوسائل البشريّة المحدودة في صراعه المستميت ضدّ حاكم غاشم وسلطة فاسدة منكّلة تبغي الانحراف بالعقيدة تحت لوائها .

 وكانت المهمّة الملقاة على عاتق سيّد الشهداء غاية في الصعوبة ؛ فقد كان الإسلام وليداً لمّا يزل يحبو ، وقد اجتاز فترة مولده وفتوحاته الاُولى ، واسترخت الاُمّة الإسلاميّة بعدها ، ودبّ الخلاف في أوساطها ، وصارت الأطماع الدنيويّة هي المحكّ لنفسيّة المسلم آنذاك ، بعد أن نجحت سياسة الاُمويّين في تدجين الاُمّة

الصفحة (82)

وتركيعها ، وإقامة خلافة كسرويّة مدعومة بارستقراطيّة وثنيّة محرّفة ناصبت القائمين على الإسلام العداء ، التي نجح الرسول (صلّى الله عليه وآله) في القضاء عليها في حياته ؛ لأنّها انضوت تحت لواء الإسلام واعتنقت العقيدة سعياً وراء مصالحها الشخصيّة ، وما كان أكثرها .

من هنا كانت صعوبة المهمّة التي أخذها الحسين على عاتقه ، وهي النهوض باُمّة الإسلام من خدرها وإعادتها إلى الصراط المستقيم الذي بشّر به جدّه الكريم ، صعوبة لا يحسّها إلاّ مَن كان في وضع مثل وضع الحسين يعتمد على مناصرين تفتّتوا بدداً ، كما لو أنّهم لم يكونوا ، وكأنّهم لم يرسلوا كتبهم في طلبه من المدينة ليقودهم في حركته ، في مقابل حكم طاغ له من عدده وعدّته الشيء الكثير ، مدعوماً بقوى غاشمة ، بينما لا تلفت مفاسده انتباه قوى استطاع شراء سكوتها بالمال ، بينما البقيّة التي كانت تحسّ الظلم والضنك آثرت السكوت والخنوع ؛ إمّا حفاظاً على مكاسب رخيصة ، أو خوفاً من بطش اُميّة .

وإذا حاولنا النظر مجدّداً إلى حراجة موقف الحسين في إعلانه عدم البيعة ليزيد وخروجه إلى الكوفة ـ مع علمه بإمكانيّة خذلانه ـ لتبيّن لنا بوضوح اُسلوب الحركة عند الحسين (عليه السّلام) ، فهو لا يقف ليزن الأمر بميزان القدرة والاقتدار استناداً إلى الإمكانات التي بين يدَيه ، وعلى ضوء ما لدى يزيد . كان المبدأ يعتمل في صدره يلحّ عليه بهواتف مجهولة لأن يتقدّم ويجابه دونما خوف من مآلٍ أو نتيجة ، فالإقدام والتصدّي لقوى الظلم هما الثمرة التي ستكبر وتكبر إلى أن يحين موعد قطافها .

وإذا كان الأنبياء والرسل قد خصّهم تعالى بقوى وخوارق علويّة أكبر من قدرة البشر فإنّ الحسين (عليه السّلام) حتّى لحظة استشهاده كانت وسائله بشريّة صرفة لا تزيد ولا تنقص ، عدا جوهر المبدأ فوق البشري الذي خطّط له حركته .

الصفحة (83)

ولقد أيّد الله تعالى كلّ نبي بمعجزة ممّا هو منتشر في عصره . ففي زمن موسى (عليه السّلام) كان السحر منتشراً كلّ الانتشار ، فأيّد الله نبيّه موسى بمعجزة من نفس الشيء المنتشر ، فألقى عصاه فإذا هي حيّة تسعى .

وفي زمن عيسى (عليه السّلام) كان الطبّ منتشراً انتشاراً هائلاً ، فأيّد الله رسوله عيسى بمعجزة من نفس الشيء المنتشر آنذاك ، فأعطاه معجزات إحياء الميّت وإبراء الأكمه والأبرص وطرد الأرواح الشريرة ، وهذا إعجاز لم يتوصّل إليه الطبّ في ذلك الوقت ولا في الوقت الحاضر .

وفي زمن محمّد (صلّى الله عليه وآله) كانت الفصاحة والبلاغة هما المرجع الأوّل ، وكلّ إنسان يُقدَّر على قَدر فصاحته وبلاغته ، فكانت تنظّم القصائد وتعلّق المعلّقات في الكعبة ، وتقام الأسواق للمباريات في إلقاء القصائد ، فأيّد الله نبيّه محمّداً بلاغة .

وإذا كان حال الأنبياء الذين أيّدهم الله بمعجزات فوق إعجاز البشر قد آلت إلى الاضطهاد والقتل رغم معجزاتهم ، فما هو حال الشهيد الحسين الذي لم يؤتَ إعجاز الأنبياء بل كان عليه أن يجاهد كالبشر ؟

وليس معنى هذا أنّ الشهيد العظيم لم يكن لدَيه إلاّ الضعف البشري فحسب ، بل كانت في صدره جوهرة الشهادة ، وكانت له قماشة الشهيد حتّى قبل أن يولد ، إذ كان معدّاً لهذه الشهادة وهذا السمو ، لكن بوسائل بشريّة ؛ كي تتمّ شهادته وتكون لكلّ البشر الذين يقنعون بضعفهم البشري عن القيام بالجهاد ، فتكون ثورة سيّد الشهداء هي المثل الحي على إمكانيّة تحويل البشر إلى شبيهي الرسل ، بعد أن يحوّلهم المبدأ القوي والعقيدة الثابتة الكامنة في صدورهم إلى ثائرين ، يبحثون عن الموت ليلجوا في غمراته غير هيّابين ، مبتغين مرضاة الله .

الصفحة (84)

دافعت ثورة الحسين عن السّنة المحمّديّة بقوّة الحجّة ، وقوّة الحقّ وبلاغته ، ولم تنتصر بقوّة العضلات والأبدان ؛ إذ كانت ثورة موجّهة إلى العقول والضمائر والأنفس التي تقدّر للحقّ قدره ، وتكره ما للباطل من مساوئ ، لقد قال الحسين (عليه السّلام) : (( أيّها الناس ، إنّ رسول الله قال : مَن رأى سلطاناً جائراً ؛ مستحلاًّ لحرم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول ، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله ))(1) .

وقال في خطاب آخر : (( ألا ترون إلى الحقّ لا يُعمل به ، وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟! ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً ، فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة ، والحياة مع الظالمين إلاّ برما ))(2) .

مثل هذا القول لا يصدر إلاّ عن إنسان معدّ للشهادة ، ينطق لسانه بما يستقرّ في وحيه من إيحاءات علويّة ، إنسان هو بضعة من الرسول الكريم وريحانته ، ونفحة من نفحات إلهامه . فعندما ولدت فاطمة حسيناً أخذه النبيّ بين يدَيه وأذّن في اُذنه كما يؤذّن للصلاة ، وأفرغ في سريرته الطفوليّة بعضاً من استشرافات النبوّة الهادية للبشر(3) .

إذاً كان الحسين (عليه السّلام) هو رجل المرحلة الثانية للإسلام بعد المرحلة الاُولى التي

ــــــــــــــ
(1) تاريخ الطبري 6 / 229 ، وكامل ابن الأثير 4 / 21 .

(2) اللهوف ، والطبري الجزء السادس ، والعقد الفريد 2 / 312 ، وابن عساكر 4 / 333 .
(3) أخرج أبو داود والترمذي في ( السنن ) عن أبي رافع مولى النبي (صلّى الله عليه وآله) قال : رأيت النبي أذّن الحسين حين ولدته فاطمة كما يؤذّن للصلاة . وذكر ابن الصّبان في إسعاف الراغبين : أنّه حنّكه بريقه وأذّن ، ودعا له وسمّاه حسيناً يوم السابع ، وعقّ عنه . وذكر المفيد في الإرشاد أنّ النبي عقّ عنه كبشاً .

شاهد أيضاً

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠

ألف سؤال وإشكال (المجلد الأول) / الصفحات: ٢٢١ – ٢٤٠ *  *  * ٢٢١ الأسئلة ...