الرئيسية / بحوث اسلامية / الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الحسين في الفكر المسيحي – انطوان بارا

الصفحة (85)

بدأها جدّه الرسول ، وكانت مهمّته كبيرة تتصّدى لإعادة مسيرة العقيدة إلى الصراط المستقيم ، ولِمَ لا ؟! أليس (عليه السّلام) هو خامس أهل البيت الذين صرّح القرآن الكريم بطهارتهم ؟ ومَن كان أجدر منه لأن يكون رجل ( الاستمراريّة ) وإعادة التقويم للإسلام الذي قيل فيه: بدؤه محمّدي وبقاؤه حسيني ؟

ورجل نذر حياته للشهادة ، وتقدّم بقوّة نحو افتداء عقيدته مضحّياً بنفسه وأهله ، وشهيد أعطى معنىً كاملاً وتفسيراً واضحاً لمعاني تضحية الأنبياء والرسل بديناميكيّة ثورته وزخمها ، وسيّد للشهداء أتمّ الشهادات العظيمة لكلّ الأديان ، وناقض لكلّ نواميس الظلم والتحريف ، ومعط ما لله لله ، وما ليزيد ليزيد ، تماماً كما أعطى قبله رسول المحبّة وشهيد المسيحيّة ( ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ) .

مثل هذا الشهيد الذي يذكّر كلّ مسيحي برسوله ، ومثل هذا المعلّم للثورة من أجل الحقّ لخليق بأن يحلّ محلّه في ضمير الإنسان المسيحي ، والجدير بالمسيحيين اعتباره شهيداً يخصّهم كما يخصّ المسلمين . وكما يجب أن يخصّ غيرهم من أتباع كلّ الديانات ، فشهادته كانت أقرب الشهادات إلى روح وجوهر العقيدة المسيحيّة ، وثورته ـ بمضامينها ومراميها ـ كانت أقرب الثورات التصاقاً بما جاء المسيح (عليه السّلام) لأجله نبيّاً ومبشّراً للمظلومين . فكان في شهادته من أجل الحق شهيداً في المسيحيّة التي تعصّبت للحقّ القراح دون أيّ تعصّب لقوميّة أو قبليّة أو عنصريّة .

فجدير بقدسيّة رسالة الحسين (عليه السّلام) أن يقدّمها العالم الإسلامي كأنصع ما في تاريخ الإسلام إلى العالم المسيحي ، وكأعظم شهادة لأعظم شهيد في سبيل القِيَم الإنسانيّة الصافية ، الخالية من أي غرض أو إقليميّة ضيّقة ، وكأبرز شاهد على صدق رسالة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، وكلّ رسالات الأنبياء التي سبقتها .

وليس أدلّ على ما لسحر شهادة الحسين (عليه السّلام) من قوّة جذب للشعور الإنساني من حادثة رسول قيصر إلى يزيد حينما أخذ هذا ينكت ثغر الحسين الطاهر بالقضيب

الصفحة (86)

على مرأىً منه ، فما كان منه إلاّ أن قال له ـ مستعظماً فعلته ـ : إنّ عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عيسى ، ونحن نحجّ إليه في كلّ عام من الأقطار ، ونهدي إليه النذور ونعظّمه كما تعظّمون كتبكم ، فأشهد أنّكم على باطل(1) .

فأغضب يزيد هذا القول وأمر بقتله ، فقام إلى الرأس الطاهر وقبّله وتشهّد الشهادتين ، وعند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتاً عالياً فصيحاً يردّد : (( لا حول ولا قوّة إلاّ بالله ))(2) .

وحادثة اُخرى دفعت براهب مسيحي لأن يبذل دراهم مقابل تقبيل رأس الشهيد ، وكان ذلك عند نصب الرأس على رمح إلى جنب صومعته ، وفي أثناء الليل سمع الراهب تسبيحاً وتهليلاً ، ورأى نوراً ساطعاً من الرأس المطهّر وسمع قائلاً يقول : السّلام عليك يا أبا عبد الله . فتعجّب حيث لم يعرف الحال ! وعند الصباح استخبر القوم فقالوا له : إنّه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب واُمّه فاطمة بنت النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، فقال لهم : تبّاً لكم أيّتها الجماعة ، صدقت الأخبار في قولها : إذا قُتل تمطر السماء دماً .

وأراد منهم أن يقبّل الرأس ، فلم يجيبوه إلاّ بعد أن دفع إليهم دراهم ، ولمّا ارتحلوا عن المكان نظروا إلى الدراهم وإذا مكتوب عليها : ( وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ )(3) .

ــــــــــــــــ
(1) الصواعق المحرقة / 119 .

(2) مقتل العوالم / 151 ، ومثير الأحزان لابن نما ، وفي مقتل الخوارزمي 2 / 72 ذكر محاورة رسول قيصر وغفل عن ذكر كلام الرأس الشريف .

(3) تذكرة الخواص / 150 .

الصفحة (87)

فبداهة القول إنّ أيّ فكر إنساني يطّلع على السيرة العطرة لسيّد الشهداء لا بدّ وأن تتحرّك في وجدانه نوازع الحبّ لهذا الشهيد المثالي ، كما تحرّكت شبيهة هذه النوازع في قلبَي كلّ من رسول قيصر والراهب . ففي أعماق كلّ إنسان لواقط خفيّة تلتقط أدنى إشارات العظمة والقداسة خفوتاً ، فكيف بأقواها تلك المتعلّقة بشخص سيّد الشهداء ، والمنبعثة رغم السنين والقرون من كلّ كلمة في سفر حياته وكفاحه ومقتله ، والتي تستهوي أشدّ القلوب ظلامة للتفاعل معها ، وتوقظ أشدّ الضمائر مواتاً لاستلهامها والسير على هدي أنوارها السنيّة ؟

الصفحة (88)

الصفحة (89)

ثورة الوحي الإلهي

دأب بعض المغرضين من مستشرقين وعرب على الوقوع في خطأ جسيم في كلّ مرّة يتصدّون فيها للكتابة عن ملحمة كربلاء ، فيخلص بعضهم إلى القول : إنّ ثورة الحسين كانت عاطفيّة مرتجلة ؛ قام بها الشهيد بغية إحراج الذين خذلوه خاصّة(1) ، وبني اُميّة والمسلمين عامّة(2) ، ويردّ البعض الآخر حركة الحسين إلى رغبته في إثارة المؤيّدين والرافضين على السواء ، وتحميل ضمائرهم وزر قتل آل النبي(3) ، وحلّلها

ـــــــــــــــــ
(1) ورد في صحيح مسلم: أنّ طائفة من الجهلة قد تأوّلوا على الحسين وقتلوه ولم يكن له قتله ، بل إجابته . فليس الأمر كما ذهبوا إليه ، بل أكثر الأئمّة قديماً وحديثاً كاره ما وقع من قتله وقتل أصحابه سوى شرذمة قليلة من أهل الكوفة .  

وذكر الحافظ ابن كثير في استشهاد الحسين / 107 : أنّ ابن زياد لمّا صعد المنبر قال : إنّ الله فتح عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرّق الكلمة عليهم .
(2) في كتابه ( السياسة الإسلاميّة ) يقول الفيلسوف الألماني ماربين : إنّ الحسين مع ما كانت له من المحبوبيّة في قلوب المسلمين كان بإمكانه تجهيز جيش جرّار لمقاتلة يزيد ، لكنه قصد من استشهاده ( الانفراد والمظلوميّة) لإفشاء ظلم بني اُميّة ، وإظهار عداوتهم لآل النبي .

(3) الذين يؤيّدون هذا الرأي يستندون إلى كلام العقيلة زينب (عليها السّلام) في مجلس يزيد حينما قالت له : فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا ، ولا يرحض عنك عارها .

الصفحة (90)

آخرون بأنّها ثورة أخلاقيّة كان الحسين يبتغي من ورائها عزل العقيدة المحمّديّة عن مسالك تهلكتها والنجاة بها إلى طريقها الصحيح(1) ، وحصَرها آخرون في إطار رغبة الاستيلاء على الحكم ، والإيثار بالخلافة(2) . والذين لم يحلّلوها حسب رؤاهم اكتفوا بوصفها بالعاطفيّة وعدم التخطيط وحساب ما للحرب من نتائج وأساليب وما يترتّب عليها من نتائج .

ولو توفّر لكلّ هؤلاء المغرضين والمستبدّين بآرائهم البصيرة النافذة والرؤية المتبصّرة التي تردّ مؤشّرات الأحداث إلى منابعها ، وتربط النهايات بالبدايات ، والمسار بنقطة الانطلاق ، والنتائج بالمسبّبات ، لَما وقعوا فيما وقعوا فيه من مغالطات وتَجَنٍّ على الحقيقة ، تجلّت في رؤية الأحداث والحقائق من وجهة نظر تفصيليّة ماديّة ضيّقة ، وربط النتائج بالأسباب بكيفيّة تقليديّة على نحو ما اصطلح عليه العقل البشري في بعض اجتهاداته المحرّفة سيّئة المقاصد .

ولكن أنّى لهم ذلك إذا كانت السّوءة في هضم الحقائق فكرياً هي هدفهم الأسمى الذي يسعون إليه ، ويُغذّون على نبراسه في دروب رؤاهم الموءودة بسكين وترتهم وضيق أفقهم وسوء نيّاتهم ؟

فالقائلون : بأنّها ثورة مرتجلة ، في قولهم كمَن يجدِّفون على الحكمة الإلهيّة التي هيّأت

ــــــــــــــ
(1) الشيخ عبد الله العلايلي في كتابه ( الإمام الحسين ) / 348 رأي يقول فيه : خروج الحسين (عليه السّلام) ليس فتنة ـ كما اتّهموا ـ بل لمكافحة الفتنة ، فأيّة محاولة وثورة على الفساد في سبيل أن يكون الدين كلّه لله نحن مأمورون بها . فالحسين بخروجه لم يجاوز برهان ربّه : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ) .

(2) للعقّاد في كتابه ( أبو الشهداء ) رأي يقول فيه : الحسين (عليه السّلام) طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها ، ولم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلّفه من ثمن ، ومهما تتطلّب من نتيجة ، وفي هذا القول شبه بما قاله ماربين من أنّ خروج الحسين كان عزمة قلب كبير يبلغ به النصر الآجل بعد موته ، ويحيي به قضيّة مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة . العقّاد / 118 .

الصفحة (91)

الشهادة للحسين ، ويستهينون بنبوءات الرسل والأنبياء عن قتله في فلاة كربلاء ذبيحاً وعطشان ومداساً بحوافر الخيل ، ويسفّهون ما جاء على لسان الوصيّين والأبرار الذين ما جاؤوا إلى البشريّة إلاّ من أجل توطيد عقائدها وحفظ شرائعها .

فها هو شهيد المسيحيّة عيسى (عليه السّلام) يمرّ بأرض كربلاء ، فينبئ عن قتل الحسين ويلعن قاتليه ، ويصف أرض الطّف بـ( البقعة كثيرة الخير )(1) .

وقد أمسك بعض المشكّكين بهذه الواقعة لدعم تغرّضهم ؛ فذكروا أنّ عيسى (عليه السّلام) لم يخرج من فلسطين طيلة حياته ، وأنّه من غير المعقول أن يكون قد وصل إلى كربلاء في العراق ، لكن هؤلاء فاتهم تلك الفترة الغامضة منذ يفاعة عيسى حتّى سنِّه العشرين ، إذ لم تذكر التواريخ ولا حتى الإنجيل المقدّس أين أمضى عيسى طفولته وبعضاً من سنيّ شبابه المبكر ؛ إذ هناك روايات تتحدّث عن سفره إلى التبت لنهل الحكمة والطبّ الروحي ، وثمّة رواية أخرى تحدّثت عن تنقّله في كلّ بقاع الأرض لاختيار المواطن المناسبة لبعث ديانته ونشرها بعد نزولها عليه في فلسطين .

ونبيٌّ كعيسى أيّده الله بمعجزات خارقة هل يستحيل عليه الوصول إلى كربلاء بطرفة عين ؟! وما هو غير المعقول في زيارة شهيد المسيحيّة إلى مسقط رأس شهادة الحسين (عليه السّلام) الذي سيأتي بعد قرون ليتمّم شهادة الحقّ والعدل التي استشهد لأجلها عليه السّلام ؟

فإذا كانت الطبائع البشرية قد جبلت على تقديس الشهداء وحبّهم بوحيٍ من فطرتها الإنسانيّة ، فكيف بالشهداء الذين تسبق شهادتهم شهادة نظائرهم ممَّن سيأتون لإتمام ما بدؤوه ؟

ــــــــــــــــ
(1) إكمال الدين ـ الصدوق / 295 .

الصفحة (92)

ألم يبكِ القتيل الحسين قبل مقتله بمئات السنين آدم والخليل وموسى ، ويلعن عيسى قاتله ويأمر بني إسرائيل بلعنه ، ويقول : مَن أدرك أيّامه فليقاتل معه ؛ فإنّه كالشهيد مع الأنبياء مقبلاً غير مدبر ؟(1)

فالحواجز الزمنية التي تحول بين البشر وبين استشفاف المستقبل ليس لها حساب مع الشهداء والنبيّين ، فعليهم السّلام يرون قائمة الشهادة التي نصبها سبحانه وتعالى ، ويقرؤون بها أسماء مَن سيلي بعدهم مع صحيفة تبيّن كيفيّة المقتل واُسلوب المعاناة ، وإلاّ لِمَ بكَ الحسين كلّ هؤلاء الأنبياء ، ولعنوا قاتليه قبل أن تكون الواقعة بمئات السنين ؟!

والله سبحانه وتعالى أعطى الأنبياء والأخيار مَلَكة نورانيّة تساعدهم على استجلاء الغيب: ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ )(2) ، وكان أبو جعفر (عليه السّلام) يقول : (( كان والله محمد ممّن ارتضاه ، ولم يبعد الله الخلفاء عن هذه المنزلة بعد اشتقاقهم من النور المحمّدي ))(3) .

فلا توافق بين الارتجال الذي نعت البعض به ثورة الحسين ، وبين نبوءات الأطهار ممّن ارتضاهم الله ، ولا يصيبنّ ناعت في نعت استشهاد أبي الشهداء مهما بلغت فصاحته ؛ لأنّه مستمدّ من القدر الإلهي ، وموحى به قبل أن يولد الشهيد .

وكأنّي أسمع أحدهم يقول ـ مشكّكاً ـ : ولكن الحسين كان بإمكانه تجنّب التهلكة التي ألقى بنفسه وآل بيته إليها ، عملاً بقول الآية الكريمة : ( وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ) . إلاّ أنّ منطق الشهادة يبرّر معنى الآية إذا كان في الحفاظ على

ــــــــــــــ
(1) كامل الزيارات / 67 ابن قولويه .

(2) سورة الجن / 26 و 27 .

(3) البحار 15 / 74 ، وابن حجر في فتح الباري 13 / 284 كتاب التوحيد .

الصفحة (93)

النفس مصلحة أهم من إزهاقها ، والاقتصار على ما يقتضيه الوصف يخرج الآية عمّا في الشهادة من نفي للهلكة ، فإنّها أعقبت آية الاعتداء في الأشهر الحرم على المسلمين ، فقال تعالى : ( الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )(1) .

والحسين (عليه السّلام) كان عالماً بمقتله ، وواعياً لكلّ ما سيحيق به ، وإقدامه على الشهادة إنّما كان من باب الطاعة وامتثالاً للتكليف الموجّه إليه من القدرة الإلهيّة .

وقد أعْلَمَ اُمّ سلمة بقتله قائلاً لها : (( إنّي أعلم اليوم الذي اُقتل فيه ، والساعة التي اُقتل فيها ، وأعلم مَن يُقتل من أهل بيتي وأصحابي . أتظنّين أنّك علمت ما لم أعلمه ؟ وهل من الموت بُدّ ؟ فإن لم أذهب اليوم ذهبت غداً )) .

والارتجالية هي عكس معرفة كلّ شيء بالتفصيل كما قال الشهيد لاُمّ سلمة حين أبدت له خوفها من سفره ، ومعرفته بما سيحلّ به لم يؤخّره أو يمنعه عن التقدّم والتسليم للقضاء المحتوم ، وعدم التوسّل إلى الباري تعالى في إزاحة العلّة لينال الشهادة .

ولو شاء سيّد الشهداء أن يدفع الله تعالى عنه هذه التهلكة لكان ذلك على الله أسرع من سلك منظوم انقطع ، ولرفع عنه الطواغيت ، لكن الحكمة المتجلّية في عدم طلب مثل هذا الدفع لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين .

والأنبياء الذين قتلوا في سبيل إعلاء كلمة الله المبشّرة بالحقّ والعدل أنظنّ نحن البشر بأنّ الله تعالى قد تخلّى عنهم لمصائرهم ؟ كلاّ ، بل إنّهم (عليهم السّلام) يتشوّقون للشهادة تقرّباً من قدس الله وتنفيذاً لمشيئته ، ولو دَعَوا الله لِرفعها عنهم ، لَرفعها .

لكنّهم يدورون مدار ما اختاره تعالى لهم من الأقضية والأقدار ، إذا كان في إقدامهم إبقاءٌ على دين ، أو حفظاً لشريعة ، أو إنقاذاً لعقيدة .

ــــــــــــــ
(1) سورة البقرة / 194 و 195 .

الصفحة (94)

وقد تنبّأ عيسى (عليه السّلام) بموته أمام تلاميذه ، وشرح لهم كلّ ما سيحدث له من تسليمه إلى الوثنيين وسخريتهم منه وجَلْدِه وقتله ، وحثّ تلميذه الخائن يهوذا الاسخريوطي على تسليمه ، ولمّا اجتذبه تلميذه بطرس إليه وطفق يحذّره من المضيّ إلى القدس ، التفت (عليه السّلام) إلى تلميذه وقال له : (( اذهب خلفي يا شيطان ، إنّك لي معثرة ؛ لأنّ أفكارك ليست أفكار الله ، بل أفكار الناس )) .

ولمّا هوى أحد أصحابه بسيفه على أذن عبد عظيم الأحبار وقطعها ، قال له المسيح : (( اغمد سيفك ، فمَن يأخذ بالسيف يهلك ، أو تظنّ أنّي لا أستطيع أن أسأل ربّي فيمدّني الساعة بأكثر من اثني عشر فيلقاً من الملائكة ؟! ولكن كيف تتمّ آيات الكتب التي تقول: إنّ هذا ما يجب أن يحدث ؟ ))(1) .

فعيسى بن مريم كان قادراً إذا طلب من ربّه أن يقضي على اليهود الذين جاؤوا لاعتقاله ، لكنّه لم يفعل حتّى تتمّ مشيئة الواحد القهّار التي لا يفهمها النّاس العاديّون كتلميذه بطرس .

وعندما كان تلاميذه يسهرون ليلة قال لهم : (( نفسي حزينة حتّى الموت )) . ثمّ أبعد قليلاً وأكبّ لوجهه يصلّي ويقول : (( يا ربّاه ، لتبتعد عنّي هذه الكأس إن كان يُستطاع ، ولكن لا كما أنا أشاء ، بل كما أنت تشاء ))(2) .

ولم يلح نبيّ المسيحيّة على طلب إبعاد كأس الموت عنه كما يشاء هو ، بل كما يشاء ربّه الأعلى . وكما قال عيسى (عليه السّلام) : (( لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء )) ، قال سيّد الشهداء مخاطباً أخاه محمّد بن الحنفيّة : (( شاء الله أن يراني قتيلاً ، ويرى النساء سبايا )) .

ــــــــــــــ
(1) متّي 26 / 53 ـ 54 ـ 55 .

(2) مرقس 14 / 36 ـ 37 .

شاهد أيضاً

آداب الصلاة 13 سماحة الشيخ حسين كوراني

. أقرأ ايضا: أوضاع المرأة المسلمة ودورها الاجتماعي من منظور إسلامي وإذا أراد الأميركي وقف ...