الرئيسية / القرآن الكريم / قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

الدرس الحادي عشر: الإعجاز القرآني

 

 

أهداف الدرس

على المتعلّم مع نهاية هذا الدرس أن:

1- يعرف معنى الإعجاز.

2- يفهم فلسفة تنوّع المعجزات وأقسامها.

3- يتبيّن أسلوب القرآن في تحدّي الأمم.

 

معنى الإعجاز

أ- المعنى اللغوي: العين والجيم والزاء أصلان صحيحان يدلّ أحدهما على الضعف، والآخر على مؤخّر الشيء، فالأول: عجز عن الشيء يعجز عجزاً، فهو عاجز، أي ضعيف… ويقال: أعجزني فلان: إذا عجزت عن طلبه وإدراكه[1]. والعَجْزُ: أصلُه التَّأَخُّرُ عن الشيء، وحصوله عند عَجُزِ الأمرِ، أي: مؤخّره… وصار في التّعارف اسماً للقصور عن فعل الشيء، وهو ضدّ القدرة[2].

 

ب- المعنى الاصطلاحي: المُعْجِز هو: الأمر الخارق للعادة، المطابق للدعوى، المقرون بالتحدّي[3]. والإعجاز هو: أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه، مع إمكان صدق هذه الدعوى بحكم العقل، أو النقل الثابت عن نبي أو إمام معصوم[4].

 

فلسفة تنوّع المعجزات

روي أنّه سأل ابن السكّيت[5] الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام، فقال: لماذا بعث الله موسى بن عمران عليه السلام بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث

 

محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بالكلام والخطب؟ فقال عليه السلام: “إنّ الله لمّا بعث موسى عليه السلام كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث عيسى عليه السلام في وقت قد ظهرت فيه الزمانات[6]، واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى، وأبرء الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وآله وسلم في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه، ما أبطل به قولهم، وأثبت به الحجّة عليهم”[7].

 

ويُفهَم من هذه الرواية أنّ فلسفة تنوّع المعجزات تدور مدار الخاصّيّة الغالبة على أهل عصر مَن يُجري الله تعالى على يديه المعجزة، لتكون أبلغ في التأثير، وأظهر في التحدّي، وآكد في تصديق الدعوة.

 

ولهذا ذكروا أنّ المعجزة تتنوّع حسب تنوّع الأمم المرسل إليهم في المواهب والمعطيات، فتتناسب مع مستوى رقيّهم في مدارج الكمال، فمن غليظ شديد إلى رقيق مرهف، ومن قريب مشهود إلى دقيق بعيد الآفاق. وهكذا كلّما تقادمت الأمم في الثقافة والحضارة، فإنّ المعاجز المعروضة عليهم من قِبَل الأنبياء عليهم السلام ترِّق وتلطف، وكانت آخر المعاجز رقّة ولطفاً هي أرقاها نمطاً وأعلاها أسلوباً، ألا وهي معجزة الإسلام الخالدة، عرضت على البشرية جمعاء مع الأبد، مهما ارتقت وتصاعدت في آفاق الكمال، الأمر الذي يتناسب مع خلود شريعة الإسلام.

 

ولقد صعب على العرب ـ يومذاك وهم على البداوة الأولى ـ تحمّل عبء القرآن الثقيل، فلم يُطيقوه. ومن ثمّ تمنّوا لو يُبدّل إلى قرآن غير هذا، ومعجزة أخرى لا تكون من قبيل الكلام: ﴿قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى﴾[8].

 

إنّها لم تكن معجزة للعرب فقط، وإنّما هي معجزة للبشريّة عبر الخلود، لكن أنّى لأمّة جهلاء أن تلمس تلك الحقيقة وأن تدرك تلك الواقعيّة سوى أنّها ﴿وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ …﴾[9] وقد عجب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مقترحهم ذلك التافه الساقط، ممّا يتناسب ومستواهم الجاهلي ومن ثمّ رفض اقتراحهم ذلك وقال: ﴿قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً﴾[10] أي ليس هذا من شأنكم وإنّما هي حكمة بالغة يعلمها الحكيم الخبير.

 

المعجزات حسّية وعقلية

قال الراغب الإصفهاني: المعجزات التي أتى بها الأنبياء عليهم السلام ضربان: حسّي وعقلي.

 

فالحسّي: ما يُدرَك بالبصر، كناقة صالح، وطوفان نوح، ونار إبراهيم، وعصا موسى عليهم السلام.

 

والعقلي: ما يُدرك بالبصيرة كالإخبار عن الغيب تعريضاً وتصريحاً، والإتيان بحقائق العلوم التي حصلت عن غير تعلّم.

 

فأمّا الحسّي: فيشترك في إدراكه العامّة والخاصّة، وهو واقع عند طبقات العامّة، وآخذ بمجامع قلوبهم، وأسرع لإدراكهم، إلّا أنّه لا يكاد يفرق – بين ما يكون معجزة في الحقيقة وبين ما يكون كهانة أو شعبذة أو سحراً، أو سبباً اتّفاقياً أو مواطأة، أو احتيالاً هندسيّاً أو تمويهاً وافتعالاً – إلّا ذو سعة في العلوم التي يعرف بها الأنبياء.

 

وأمّا العقلي: فيختصّ بإدراكه كلمة الخواصّ من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، الذين يُغنيهم إدراك الحق.

 

وما أتى به النبي صلى الله عليه وآله وسلممن معجزاته الحسيّة، كتسبيح الحصا في يده، ومكالمة الذئب له، ومجيء الشجرة إليه، فقد حواها وأحصاه أصحاب الحديث.

 

وأمّا العقليّات: فمن تفكّر فيما أورده عليه السلام من الحكم التي قصرت عن بعضها أفهام حكماء الأمم بأوجز عبارة اطلع على أشياء عجيبة.

 

وممّا خصّه الله تعالى به من المعجزات القرآن، وهو آية حسيّة عقليّة صامتة ناطقة باقية مدى الدهر مبثوثة في الأرض، ولذلك قال تعالى: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾[11]. ودعاهم ليلاً ونهاراً – مع كونهم أولي بسطة في البيان – إلى معارضته، بنحو قوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ…﴾[12] وفي موضع آخر: ﴿وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾[13]. وقال: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[14].

 

فجعل عجزهم علماً للرسالة، فلو قدروا ما قصّروا، إذ قد بذلوا أرواحهم في إطفاء نوره وتوهين أمره، فلمّا رأيناهم تارة يقولون: ﴿لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ﴾[15]. وتارة يقولون: ﴿لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾[16] وتارة يصفونه بأنّه: ﴿أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾[17]. وتارة يقولون: ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾[18]. وتارة يقولون: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾[19]، كل ذلك عجزاً عن الإيتان بمثله، علمنا قصورهم عنه، ومحال أن يُقال: إنّه عورض فلم ينقل، فالنفوس مهتزّة لنقل ما دقّ وجلّ. وقد رأينا كتباً كثيرة صنّفت في الطعن على الإسلام قد نقلت وتُدوولت.

 

ويمتاز القرآن على سائر المعاجز بأنّه يضمّ إلى جانب كونه معجزاً جانب كونه كتاب تشريع، فقد قُرن التشريع بإعجاز ووحّد بينهما، فكانت دعوة يُرافقها شهادة من ذاتها، دلّ على ذاته

بذاته.

 

التحدّي في خطوات

لقد تحدّى القرآن عامّة العرب، فحاولوا معارضته ولكن لا بالكلام، لعجزهم عنه، بل بمقارعة السيوف وبذل الأموال والنفوس، دليلاً على فشلهم على مقابلته بالبيان.

 

وربّما كانوا – في بدء الأمر – استقلّوا من شأنه، حيث قالوا: ﴿لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ﴾[20]. وقالوا: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ﴾[21] وقالوا: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾[22] وقالوا: ﴿مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ﴾[23]، إلى أمثالها من تعابير تنمّ عن سخف أوهامهم. لكن سرعان ما تراجعت العرب على أعقابها فانقلبوا صاغرين، وقد ملكتهم روعة هذا الكلام وطغت عليهم سطوته، متهكّماً بموقفهم هذا الفاشل ومتحدّياً في مواضع.

 

﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لَّا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُوا صَادِقِينَ﴾[24].

 

وحدّد لهم لو يأتوا بعشر سور مثله مفتريات فيما كانوا يزعمون: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ﴾[25].

 

وتصاغراً من شأنهم تنازل أن لو استطاعوا أن يأتوا بسورة واحدة من مثله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾[26].

 

وأخيراً حكم عليهم حكمه الباتّ: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ﴾[27] أن ليس باستطاعتهم ذلك مهما حاولوه وأعدّوا له من حول وقوّة، لأنّه كلام يفوق كلام البشر كافّة.

 

والآن وقد حان إعلان التحدّي بصورته العامّة متوجّهاً إلى البشريّة جمعاء، تحدّياً مستمرّاً عبر الأجيال: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾[28].

 

وهل وقع التحدّي بجميع وجوه الإعجاز أم كان يخصّ جانب فصاحته وبلاغته وبديع نظمه وعجيب أسلوبه فحسب؟

 

ولعلّه يختلف حسب اختلاف الخطاب… فحيث كان التحدّي متوجّهاً إلى العرب خاصّة ولا سيّما ذلك العهد، الذي كانت مهنة العرب فيه خاصة بجانب البيان وطلاقة اللسان… فلا جرم كان التحدّي حينذاك أيضاً خاصّاً بهذا الجانب في ظاهرة الخطاب…

 

أمّا وبعد أن توجّه النداء العامّ إلى كافّة البشرية على الإطلاق فإنّه لا بدّ أن يقع التحدّي بمجموعة وجوه الإعجاز من حيث المجموع… حيث اختلاف الاستعدادات والقابليات… والقرآن معجزة الإسلام لجميع الأدوار وعامّة الأجيال ولمختلف طبقات الناس، في الفنون والمعارف والعلوم والثقافات…

 

التحدّي في شموله

وهذا التحدّي في عمومه يشمل كلّ الأمم كلّ أدوار التاريخ، سواء العرب وغيرهم، وسواء من كان في عهد الرسالة أم في عهود متأخّرة حتى الأبد. اللفظ عامّ والخطاب شامل[29] ولأنّ التحدّي لم يكن في تعبيره اللفظي فقط ليخصّ لغة العرب، وإنّما هو بمجموعته من كيفيّة الأداء والبيان والمحتوى جميعاً. كما أنّه لم يخصّ جانب فصاحته فحسب، ليكون مقصوراً على العهد الأوّل، حيث العرب في ازدهار الفصاحة والأدب. على أنّ الفصاحة والبلاغة لم

 

تختصّ بلغة دون أخرى ولا بأمّة دون غيرها.

 

لكن هناك من حاول اختصاص التحدّي بالعهد الأوّل وإن كان الإعجاز باقياً مع الخلود زعماً بأنّ عجز ذلك الدور يكفي دليلاً على كونه معجزاً أبداً. هكذا زعمت الكاتبة بنت الشاطىء، قالت: مناط التحدّي هو عجز بلغاء العرب في عصر المبعث، وأمّا حجّة إعجازه فلا تخصّ عصراً دون عصر وتعمّ العرب والعجم، وكان عجز البلغاء من العصر الأوّل وهم أهل الفصاحة برهاناً فاصلاً في قضيّة التحدّي…[30].

 

قلت: ولعلها في ذهابها هذا المذهب، خشيت أن لو قلنا بأنّ التحدّي قائم ولا يزال، أن سوف ينبري نائرة الكفر والإلحاد، ممّن لا يقلّ عددهم في الناطقين بالضّاد، فيأتي بحديث مثله، وبذلك ينقض أكبر دعامة من دعائم الإسلام.

 

لكنّها فلتطمئن أنّ هذا لم يقع ولن يكون، لأنّ القرآن وضع على أسلوب لا يُدانيه كلام بشر البتّة ولن يتمكّن أحد أن يُجاريه لا تعبيراً وأداءً ولا سبكاً وأسلوباً. ما دام الإعجاز قائماً بمجموعة اللفظ والمعنى، رفعة وشموخ في المحتوى، وجمال وبهاء في اللفظ والتعبير، فأيّ متكلّم أو ناطق يُمكنه الإتيان بهكذا مطالب رفيعة، لم تسبق لها سابقة في البشريّة وفي هكذا قالب جميل! اللّهم إلّا أن يفضح نفسه.

 

وفي التاريخ عِبَرٌ عن أُناس حاولوا معارضة القرآن، لكنّهم أتوا بكلام لا يُشبه القرآن ولا يُشبه كلام أنفسهم، بل نزلوا إلى ضرب من السخف والتفاهة، بادٍ عواره، باقٍ عاره وشناره، فمن حدّثته نفسه أن يُعيد هذه التجربة، فلينظر في تلك العبر، ومن لم يستحِ فليصنع ما شاء.

 

وتلك شهادات من أهل صناعة الأدب، اعترفوا – عبر العصور – بأنّ القرآن فذّ في أُسلوبه لا يُمكن لأحد من الناس أن يُقاربه فضلاً عن أن يُماثله.

 

قال الدكتور عبد الله درّاز: من كانت عنده شبهة، زاعماً أنّ في الناس من يقدر على الإتيان بمثله، فلنرجع إلى أدباء عصره، وليسألهم: هل يقدر أحد منهم على أن يأتي بمثله؟ فإن قالوا: نعم، لو نشاء لقلنا مثل هذا، فليقل لهم: هاتوا برهانكم. وإن قالوا: لا طاقة لنا

 

به. فليقل لهم: أيّ شيء أكبر شهادة على الإعجاز من الشهادة على العجز. ثم ليرجع إلى التاريخ فليسأله ما بال القرون الأولى؟ يُنبئك التاريخ أنّ أحداً لم يرفع رأسه أمام القرآن الكريم، وأنّ بضعة النفر الذين انغضوا رؤوسهم إليه، باؤوا بالخزي والهوان، وسحب الدهر على آثارهم ذيل النسيان[31].

 

سرّ الإعجاز

وجوه الإعجاز في مختلف الآراء والنظرات:

اختلف أنظار العلماء في وجه إعجاز القرآن، بين من أنهاه إلى عدّة وجوه ومن اقتصر على وجه واحد:

1- ذهب أرباب الأدب والبيان إلى أنّها الفصاحة البالغة والبلاغة الفائقة، إنْ في بديع نظمه أو في عجيب رصفه، الذي لم يسبق له نظير ولن يخلفه بديل…

 

قالوا في دقّة هذا الرصف والنضد: لو انتزعت منه لفظة ثم أُدير بها لغة العرب كلّها على أن يوجد لها نظير في موضعها الخاصّ، لم توجد البتّة…

 

2- وتوسّع المحدثون في البحث وراء نظامه الصوتي العجيب:

أنغام وألحان تبهر العقول وتذهل النفوس، نظّمت كلماته على أنظمة صوتيّة دقيقة، ورصفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقيّة رقيقة، متناسبات الأجراس، متناسبات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة شعرية واستهواء سحري غريب!

 

3- وأضاف المحقّقون جانب اشتماله على معارف سامية وتعاليم راقية تُنبئك عن لطيف سرّ الخليقة، وبديع فلسفة الوجود، في جلال وعظمة وكبرياء، بما يترفّع كثيراً عمّا راجت في تعاليم مصطنعة ذلك العهد، سواءٌ في أوساط أهل الكتاب أم الوثنييّن.

 

4- وهكذا تشريعاته جاءت حكيمة ومتينة، متوافقة مع الفطرة ومتوائمة مع العقل السليم… في طهارة وقداسة وسعة وشمول، كانت جامعة كاملة كافلة لإسعاد الحياة في النشأتين.

 

5- وكانت براهينه ساطعة ودلائله ناصعة، واضحة ولائحة، قامت على صدق الدعوة وإثبات الرسالة… في بيان رصين ومنطق رزين وفصل خطاب.

 

6- واشتماله على أنباء غيبيّة، إمّا سالفة كانت محرّفة سقيمة، فجاءت محرّرة سليمة في القرآن الكريم، أو إخبار عمّا يأتي، تحقّق صدقها بعد فترة قصيرة أو طويلة، كانت شاهدة صدق على صدق الرسالة.

 

7- إلى جنب إشارات علميّة، عابرة، إلى أسرار من هذا الكون الفسيح، وإلماعات خاطفة إلى حقائق من خفايا الوجود، ممّا لا تكاد تبلغه معرفة الإنسان الكائن يومذاك.

 

8- وأخيراً استقامته في البيان، وسلامته من أيّ تناقض أو اختلاف، في طول نزوله، وكثرة تكراره لسرد حوادث الماضين، كلّ مشتمل على مزيّة ذات حكمة لا توجد في أُختها. وكذا خلوّه عن الأباطيل وعمّا لا طائل تحتها.

 

تلك روائع آراء نتجتها أنظار الأدباء، وبدائع أسرار وصلت إليها أفكار العلماء، كانت من وجوه إعجاز القرآن ومزاياه الوسيمة.

 

المفاهيم الرئيسة

– المُعْجِز هو: الأمر الخارق للعادة، المطابق للدعوى، المقرون بالتحدّي. والإعجاز هو: أن يأتي المدّعي لمنصب من المناصب الإلهية بما يخرق نواميس الطبيعة ويعجز عنه غيره شاهداً على صدق دعواه.

 

– أنّ فلسفة تنوّع المعجزات تدور مدار الخاصّيّة الغالبة على أهل عصر مَن يُجري الله تعالى على يديه المعجزة، لتكون أبلغ في التأثير، وأظهر في التحدّي، وآكد في تصديق الدعوة.

 

– المعجزات التي أتى بها الأنبياء عليهم السلام ضربان: حسّي وعقلي.

فالحسّي: ما يُدرَك بالبصر ويشترك في إدراكه العامّة والخاصّة.

وأمّا العقلي: فيختصّ بإدراكه كلمة الخواصّ من ذوي العقول الراجحة، والأفهام الثاقبة، الذين يُغنيهم إدراك الحق.

 

– لقد تحدّى القرآن عامّة العرب، فحاولوا معارضته ولكن لا بالكلام، لعجزهم عنه، بل بمقارعة السيوف وبذل الأموال والنفوس، دليلاً على فشلهم على مقابلته بالبيان.

 

– وهذا التحدّي في عمومه يشمل وكلّ الأمم كلّ أدوار التاريخ، سواء العرب وغيرهم، وسواء من كان في عهد الرسالة أم في عهود متأخّرة حتى الأبد.

 

للمطالعة

 

الإعجاز العلميّ في القرآن‏

 

كلّ الكواكب متحرّكة

لقد أصبح أمراً ثابتاً ومؤكّداً في علم الفلك الحديث بأنّه لا وجود لكوكب ساكن في الكون وأنّه لا صحّة لفكرة تقسيم السيّارات والكواكب إلى ثابتة ومتحرّكة كما كان يقول القدماء، بل إنّه لا وجود حتّى لكوكب واحد ساكن في هذا العالم اللّامتناهي. وحتّى سنين خلت كانت السيّارات تُعدّ بحدود الـ300 مليون بينما صاروا يعجزون اليوم عن عدّها وإحصائها.

 

وقد ورد في القرآن الكريم بصراحة قول الله تعالى: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾[32] أي أنّه لا وجود للكوكب الثابت بل إنّ كلّ واحد منها يسبح ويتحرّك في المدار الّذي حُدِّد له من قِبَل الله تعالى، في حين أنّ بطليموس كان يقول بأنّ الفلك الثامن ما هو إلّا عبارة عن فلك ثابت وأنّ الكواكب الموجودة فيه كواكب ساكنة، لكنّ القرآن الكريم يؤكّد أنّ الجميع في حالة حركة مستمرّة.

 

الجبال هي المسامير المُثبتة للأرض‏لقد أصبح من الأمور الثابتة اليوم كون الجبال الواقعة فوق الأرض والممتدّة جذورها في عمق الكرة الأرضيّة هي السبب في استقرار الأرض. فلولا وجود هذه الجبال فإنّ هذه الكرة الأرضيّة الّتي تقطع أربعة فراسخ في حركتها الانتقاليّة في كلّ دقيقة وأربعة فراسخ أخرى في حركتها الموضعيّة في كلّ ثانية و240 فرسخاً في حركتها الدورانيّة حول نفسها كانت في طريقها إلى الزوال والتلاشي، لكنّ هذه الجبال هي الّتي تمنع تلاشيها. وهذا الأمر سبق أن أشار إليه القرآن المجيد وأكّده قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة مضت حيث قال تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾[33] كما جاء في سورة النبأ، الآية: 7.

 

وكما يقول أمير المؤمنين عليّ عليه السلام في إحدى خطبه الغرّاء: “فطر الخلائق بقدرته ووتّد بالصخور ميدان أرضه”[34].

[1] انظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج4، ص 232، مادّة “عجز”.

[2] انظر: الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، ص 547، مادّة “عجز”.

[3] انظر: الطريحي، فخر الدين: مجمع البحرين، ج4، ص25، ط2، طهران، نشر مرتضوي، مطبعة چاپخانهء طراوت، 1362هـ.ش، مادّة “عجز”.

[4] انظر: الخوئي، البيان في تفسير القرآن، ص33-34.

[5] هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي الشيعي، أحد أئمّة اللغة والأدب، ذكره كثير من المؤرّخين وأثنوا عليه، وكان ثقةً جليلاً من عظماء الشيعة، ويُعدّ من خواصّ الإمامين التقيّين (عليهما)، وكان حامل لواء علم العربية والأدب والشعر واللغة والنحو، له تصانيف كثيرة مفيدة، منها: كتاب تهذيب الألفاظ، وكتاب إصلاح المنطق.

[6] الآفات الواردة على بعض الأعضاء، فيمنعها عن الحركة، كالفالج، واللقوة. ويطلق المزمن على مرض طال زمانه.

[7] الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص24.

[8] سورة يونس، الآية 15.

[9] سورة الإسراء، الآيات 90 ـ 93.

[10] سورة الإسراء، الآية 93.

[11] سورة العنكبوت، الآيتان 50 و 51.

[12] سورة البقرة، الآية 23.

[13] سورة يونس، الآية 38.

[14] سورة الإسراء، الآية 88.

[15] سورة فصّلت، الآية 26.

[16] سورة الأنفال، الآية 31.

[17] سورة النحل، الآية 24.

[18] سورة الفرقان، الآية 32.

[19] سورة يونس، الآية 15.

[20] سورة الأنفال، الآية 31.

[21] سورة المدثر، الآية 25.

[22] سورة النحل، الآية 103.

[23] سورة الأنعام، الآية 91.

[24] سورة الطور، الآيتان 33 و 34.

[25] سورة هود، الآيتان 13 و 14.

[26] سورة يونس، الآيتان 38 و 39.

[27] سورة البقرة، الآية 24.

[28] سورة الإسراء، الآية 88.

[29] وبالتعبير الاصطلاحي الأصولي: إنّ هذا الخطاب يضمّ إلى جانب عمومه الأفرادي إطلاقاً أحوالياً وإطلاقاً زمانياً معاً ،إذن فللخطاب شمول من النواحي الثلاث: الأفراد الموجودون، والأقوام الذين يأتون من بعد. وأيّا ًكانت حالتهم وعلى أيّ صفةٍ كانوا…

[30] الدكتورة عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ)، الإعجاز البياني، ص 65 – 68.

[31] النبأ العظيم، ص 75.

[32] سورة يس، الآية 40.

[33] سورة النبأ، الآية 7.

[34] نهج البلاغة، ص39.

شاهد أيضاً

نهج البلاغة – خطب الإمام علي (عليه السلام)

(باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام)  (ومواعظه ويدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله) ...