توجد ثلاث مسائل في عمل الأنبياء والرسل عليهم السلام لم يعطها الباحثون حقها في تدوين سيرتهم، ودراسة أعمالهم:
المسألة الأولى:
أن أصل مهمتهم عليهم السلام هو تبليغ الناس رسالة ربهم فقط.. فالمحور الذي تدور عليه أعمالهم هو التبليغ والأداء، من أجل إقامة الحجة لربهم عز وجل على عباده..
فالرسول مبلغُ رسالة ومؤديها.. وهو يتقي ربه سبحانه ويخاف من غضبه وعذابه إن هو قصر في الأداء، أو خالف حرفاً مما كلف بأن يؤديه!
ولذا تراه يُشْهِدُ الناس على أنه أدى اليهم، ليشهدوا له عند ربه.
والرسول مبلغٌ، وليس له إجبار الناس على قبول الهدى، ولا على الإلتزام به.. ولا يمكنه ذلك.
فلا إكراه في الدين الإلهي.. وحرية الناس يجب أن تبقى محفوظة، ليؤمنوا إن شاؤوا أو يكفروا.. ويلتزموا بالدين أو ينحرفوا عنه.. لأن ذلك معنى فتح مدرسة الحياة في هذه الدار، وامتحان الناس بالهدى والضلال، وإعطائهم القدرة على فعل الخير أو الشر.. ثم محاسبتهم في مرحلة لاحقةٍ في دارٍ أخرى.
وإجبارهم يتنافى مع أصول الإمتحان، وما يلزمه من حرية اختيار.
***
والمسألة الثانية:
أن هدف الأنبياء والرسل عليهم السلام يتركز على القضايا (الكبرى) في حياة الناس ومسار المجتمعات.. فالرسول عليه السلام مهندسٌ رباني، ولكنه مهندسُ مدنٍ ومجتمع، ومسيرة تاريخ.
وأعماله يجب أن ينظر اليها بهذا المنظار، وأن تقاس بهذا المقياس، وأن يسأل الباحث نفسه: ماذا كان سيحدث في ثقافة الناس ومسار التاريخ، لو لم يبعث هذا الرسول، وماذا حدث بسبب بعثته وأدائه لرسالته؟
أو يسأل نفسه: كيف كانت حالة العالم الوثنية اليوم، لو لم يبعث إبراهيم عليه السلام ويرسي أساس التوحيد، ويزرع كلياته في مسيرة المجتمع الإنساني؟ !
أو كيف كانت حالة الجزيرة العربية، والبلاد العربية، والعالم في عصرنا، لو لم يبعث نبينا صلى الله عليه وآله، ولم يحدث هذا المد الأخير من التوحيد والحضارة؟ !
لقد كان عمله صلى الله عليه وآله تكوين أمة، ودفعها لتأخذ موقعها في مصاف أمم العالم، بل في ريادتها.. بأحسن ما يمكن من مقومات الأمة، مضموناً وشكلاً..
كان عمله إنشاء سفينة، وإطلاقها في بحر شعوب العالم وفي مجرى التاريخ.. وكان حريصاً أن يكون ربانها بعده أهل بيته، الذين اصطفاهم الله وطهرهم، وأورثهم الكتاب.. ولكن إن لم تقبل الأمة بقيادتهم، فليكن الربان من يكون، حتى يبلغ الله أمره في هذه الأمة، ثم يبعث فيها المهدي الموعود عليه السلام.
والمسألة الثالثة:
أن الجانب الذاتي في الرسول عليه السلام موجودٌ ومؤثرٌ دون شك، فهو مفكرٌ، نابغٌ، مخطط ٌ، فاعلٌ مختار.. ولكن الذاتية في عمله ضئيلة جداً!
وما يقابل الذاتية هنا ليس الآلية، فإن إطاعة الرسول عليه السلام لما يوحى اليه إنما هو عن قناعةٍ، وإيمانٍ، وتَعَبُّد.
الرسول يجتهد في أمورٍ، شخصية أو عامة.. ولكن مساحة الأمور التي يسمح لنفسه أن يجتهد فيها ويعمل فيها برأيه، جزءٌ قليلٌ من مساحة عمله الواسع الكبير!
فمثله كمثل مهندسٍ أرسله رئيسه لتنفيذ مشروع كبير، وهو مقتنعٌ أن عليه أن يتصل دائماً برئيسه، ليأخذ منه التعليمات الحكيمة الصحيحة، حتى لا يقع في أخطاء ضارة.. فهو يعمل ويفكر وينفذ، ولكنه على اتصالٍ دائم بمركزه، يأخذ منه مراحل الخارطة، ويستشيره في رفع إشكالات التنفيذ!
وهذا المثل لمهمة هذا المهندس، مصغرٌ آلاف المرات عن مهمة الرسول عليه السلام.
أما مركز هداية الرسول عليه السلام، فلا يقاس أحدٌ بالله سبحانه، ولا فعل أحدٍ بأفعاله.
***
وعلى هذا، يجب علينا في دراسة سيرة نبينا صلى الله عليه وآله أن ندخل في حسابنا هذه الأمور الثلاثة: أنه مبلغٌ ما أمر به. وأن عمله إنشاء أمة وإطلاقها في مسيرة التاريخ. وأن عمله دائماً بتوجيه ربه، وليس من عند نفسه..
والمتأمل في سيرته صلى الله عليه وآله يلمس هذه الحقيقة لمساً، وأن الله تعالى كان يدير أمره من أول يومٍ الى آخر يوم، وكان هو يطيع وينفذ.. مسْلِماً أمره الى ربه، متوكلاً عليه، راضياً بقضائه وقدره..
ولذا جاءت النتائج فوق مايتصور العقل البشري، وفوق ما يمكن لكل مهندسي المجتمعات، ومنشئي الأمم، ومؤسسي الحضارات..
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وآله أن يحدث مداً عقائدياً حضارياً عالمياً في أقل مدة،
وأقل كلفةٍ من الخسائر البشرية والمادية.. فرغم شراسة الأعداء والحروب لم تبلغ قتلى الطرفين ألف قتيل! !
وما ذلك إلا بسبب أن إدارة الرسول صلى الله عليه وآله كانت من ربه عز وجل..
لقد كان القرآن يتنزل عليه باستمرار من أول بعثته الى قرب وفاته، وكان جبرئيل عليه السلام يأتيه دائماً، بآيات قرآنٍ أو وحيٍ غير القرآن، وأوامر وتوجيهات وأجوبة.. الخ.
وما أكثر الأمثلة في سيرته صلى الله عليه وآله على ذلك، فهي مليئةٌ بالتدخل الآلهي والرعاية في كبير أموره وصغيرها.. وهي تدل على أنه صلى الله عليه وآله ما كان يتصرف من عند نفسه إلا في تطبيق الخطوط العامة التي أوحيت اليه، أو تنفيذ الأوامر التفصيلية التي بلغه إياها جبرئيل عليه السلام.. وكثيراً ما كان يتوقف عن العمل، ينتظر الوحي!
وقد ورد أنه صلى الله عليه وآله قال: أوتيت الكتاب ومثله معه، أي ما كان جبريل يأتيه به من السنن ـ الإيضاح|215، وأن جبريل كان ينزل عليه بالسنة كما ينزل بالقرآن ـ الدارمي: 1|145.
وكانت هذه التوجيهات كانت تشمل أموره الشخصية أيضاً صلى الله عليه وآله، من زواجه وطلاقه، ولباسه وطعامه، ونومه ويقظته، ووضوئه وسواكه، فضلاً عن عطائه ومنعه، وحبه وبغضه.. كما كانت شاملة لحالات حله وترحاله، ورضاه وغضبه..
ـ روى في الكافي: 4|39،عن الإمام الصادق عليه السلام قصة شخص كافر جاء يحاج النبي صلى الله عليه وآله ويكذبه ويؤذيه ويتهدده، قال: (فغضب النبي صلى الله عليه وآله حتى التوى عرق الغضب بين عينيه، وتربد وجهه، وأطرق الى الأرض، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: ربك يقرؤك السلام ويقول لك: هذا رجلٌ سخيٌّ يطعم الطعام. فسكن عن النبي صلى الله عليه وآله الغضب ورفع رأسه، وقال له:
لو لا أن جبرئيل أخبرني عن الله عز وجل أنك سخيٌّ تطعم الطعام، لشردت بك، وجعلتك حديثاً لمن خلفك!
فقال له الرجل: وإن ربك ليحب السخاء
فقال: نعم.
فقال: إني أشهد أن لا الَه إلا الله وأنك رسول الله، والذي بعثك بالحق لا رددتُ من مالي أحداً. انتهى.
ـ وروى في الكافي: 1|289، أن شخصاً سأل الإمام الباقر عليه السلام فقال:
حدثْني عن ولاية علي، أمن الله أو من رسوله؟
فغضب! ثم قال: ويحك! كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخوف (لله) من أن يقول ما لم يأمره به الله! بل افترضها الله، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحج. انتهى.
ولا نطيل الكلام بأمثلة ذلك، فهي موضوع مهمٌّ لرسالة دكتوراه، بل لعدة رسائل.
***
والخلافة بعد النبي صلى الله عليه وآله موضوعٌ بسيطٌ وليس معقداً..
فقد قال أهل البيت وشيعتهم إن النبي صلى الله عليه وآله نصب علياً عليه السلام ولياً للمسلمين من بعده، وأن ذلك كان بأمر ربه عز وجل، فلا مجال فيه لاختيار قريشٍ أو غير قريش.
وقالت قريش إنه لم ينصب أحداً، ولم يوص الى أحد، وأن (سلطانه) ترثه كل قبائل قريش الثلاث وعشرين، لأنه ابن قريش.
لذلك اختارت قريش بعده قرشياً من قبيلة تَيْم هو أبو بكر، ثم اختار أبو بكر قرشياً من قبيلة عَدِي هو عمر، ثم اختار عمر بواسطة الشورى قرشياً ثالثاً من بني أمية هو عثمان..
ولم يختاروا خليفة من الأنصار، لأنه ليسوا قرشيين فلا حق لهم في سلطان محمد صلى الله عليه وآله، ولم يختاروا من بني هاشم، لأن حقهم في سلطانه ليس أكثر من غيرهم من قبائل قريش، ولم تخترهم أكثرية قبائل قريش!
إنه موضوع بسيط، يدور حول وجود النص وعدم وجوده.. ولكنه موضوعٌ شائكٌ لا تحب فتحه قريش، لأنه يضع نظام خلافتها تحت الإستفهام.. وإذا فتَحْتَهُ
حذرك القرشيون وقالوا لك: إنه صعبٌ معقد، وأفتوا لك بأن الكلام فيه حرام!
وآيات الغدير، جزءٌ من مجموع الآيات التي نزلت في علي وأهل البيت عليهم السلام، وقد ألَّفَ قدماء المفسرين والمحدثين حتى السنيين منهم، كتباً خاصة في الآيات التي أنزلها الله تعالى في أهل بيت نبيه صلى الله عليه وآله، وفي الأحاديث التي قالها فيهم النبي صلى الله عليه وآله الذي لاينطق عن الهوى! نذكر منها كتاب الحافظ أبي نعيم الأصفهاني باسم (ما نزل في علي من القرآن)، وكتاب النسائي صاحب الصحيح باسم (خصائص أمير المؤمنين علي)، وهما كتابان معروفان مطبوعان..
وأثناء بحثنا لآيات الغدير الثلاث: (بلغ ما أنزل اليك من ربك) و (اليوم أكملت لكم دينكم) و (سأل سائل بعذاب واقع) وجدناها مرتبطةً بخطب النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع ارتباطاً وثيقاً، فكان لا بد أن يشمل موضوعنا بحوثاً في هذه الخطب الست! وما فيها من تبليغه صلى الله عليه وآله الأمة وجوب اتباع الثقلين من بعده: القرآن والعترة، وبشارته الأمة في خطبة عرفات بأن الله تعالى حل مشكلة الحكم فيها، واختار لها من بعده اثني عشر إماماً ربانياً..
كذلك كان من اللازم أن نبحث العلاقة التي كانت قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وزعماء قريش في قضية حكم أهل بيته من بعده صلى الله عليه وآله.
وقد اخترنا للكتاب اسم (آيات الغدير) رغم اشتماله على هذه الموضوعات، لأنه الإسم الأنسب لها، وإن زادت عن تفسير آيات الغدير بالمعنى الإصطلاحي.
نرجو أن تكون بحوثاً مفيدة، وأن ينفعنا الله تعالى بها في آخرتنا، ويشملنا بسببها في شفاعة النبي وآله الطاهرين صلى الله عليه وآله.
مركز المصطفى للدراسات الإسلامية
علي الكوراني العاملي
في الثالث عشر من رجب المكرم 1419