الأذان بين الأصالة والتحريف / الصفحات: ١٤١ – ١٦٠
فقلت لجبرئيل: مَن وزيري؟
قال: عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
فلما انتهيت إلى سدرة المنتهى وجدتُ مكتوباً عليها: “إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي، محمّد صفوتي من خلقي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره”، فقلت لجبرئيل: مَن وزيري؟ فقال: عليّ بن أبي طالب.
فلمّا جاوزتُ سِدرةَ المنتهى انتهيت إلى عرش ربّ العالمين جلّ جلاله، فوجدت مكتوباً على قوائمه: “إنّي أنا الله لا إله إلاّ أنا وحدي، محمّد حبيبي، أيّدته بوزيره ونصرته بوزيره”(٢).
وفي كتاب كمال الدين وتمام النعمة للصدوق بإسناده إلى وهب بن منبّه، رفعه عن ابن عبّاس، قال: قال رسول الله لعليّ: لمّا عرج بي ربيّ جلّ جلاله أتاني النداء: يا محمّد.
فقال: يا محمّد، هلاّ اتَّخذت من الآدميّين وزيراً وأخاً ووصيّاً من بعدك؟
قلت: إلهي، ومَن أتّخذ؟ تخيَّرْ أنت يا إلهي. فأوحى الله إليّ: يا محمّد، قد اخترتُ لك من الآدميّين عليّ بن أبي طالب.
فقلت: إلهي، ابن عمّي؟
فأوحى الله إليّ: يا محمّد، إنّ عليّاً وارثك ووارث العلم من بعدك، وصاحب لوائك لواء الحمد يوم القيامة، وصاحب حوضك يسقي مَن ورد عليه من مؤمني أمّتك.
ثمّ أوحى الله إليّ: يا محمّد، إنّي قد أقسمت على نفسي قسماً حقاً، لا يشرب من ذلك الحوض مُبغض لك ولأهل بيتك وذريّتك الطيّبين الطاهرين، حقّاً أقول يا محمّد: لأُدخِلنّ جميع أمّتك الجنَّة إلاّ مَن أبى من خلقي، فقلت: إلهي، هل واحد يأبى من دخول الجنَّة؟
فأوحى الله إلي: بلى.
فقلت: وكيف يأبى؟
فأوحى الله إلي: يا محمّد، اخترتُك من خلقي، واخترتُ لك وصيّاً من بعدك، وجعلته منك بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدك، وألقيت محبّته في قلبك، فجعلته أباً لولدك، فحقّه بعدك على أمّتك كحقّك عليهم في حياتك، فمن جحد حقّه فقد جحد حقّك، ومن أبى أن يواليه فقد أبى أن يواليك، ومن أبى أن يواليك فقد أبى أن يدخل الجنّة، فخَرَرتُ لله ساجداً شكراً لما أنعم عليّ… والخبر
فقلت: خلّفته ورائي.
قال: ادعُ الله فليأتك به، فدعوتُ الله وإذا مِثالُك معي وإذا الملائكة وقوف صفوف، فقلت: يا جبرئيل، من هؤلاء؟ قال: هم الذين يباهيهم الله بك يوم القيامة، فدنوت فنطقت بما كان وما يكون إلى يوم القيامة.
والثاني حين أُسري بي من المرّة الثانية، فقال لي جبرئيل: أين أخوك؟ فقلت: خلّفته ورائي، فقال: ادعُ الله فليأتك به، فدعوتُ الله فإذا مثالك معي، فكُشِط لي عن سبع سماوات حتّى رأيت سُكّانها وعُمّارها وموضع كلّ ملك منها… إلى أن قال:
وأمّا السادس: لمّا أُسري بي إلى السماء جمع الله لي النبيّين فصلّيت بهم ومثالك خلفي(٢).
وفي عيون أخبار الرضا، بسنده عن أمير المؤمنين، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لمّا أسري بي إلى السماء أوحى إليّ ربّي جلّ جلاله فقال: يا محمّد، إنّي اطّلعتُ إلى الأرض اطّلاعةً فاخترتك منها فجعلتك نبيّاً، وشَقَقتُ لك من اسمي اسماً، فأنا المحمود وأنت محمّد.
ثمّ اطّلعت الثانية فاخترت منها عليّاً وجعلته وصيّك وخليفتك وزوج ابنتك وأبا ذريّتك، وشَقَقْتُ له أسماً من أسمائي ; فأنا العليّ الأعلى وهو عليّ.
فقلت: يا ربّ، أهولاء أوصيائي مِن بَعدي؟ فنُوديتُ: يا محمّد، هؤلاء أوليائي وأحبّائي وأصفيائي وحجّتي بعدك على بريّتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك. وعزّتي وجلالي لأظهرنّ بهم دِيني، ولأُعلينّ بهم كلمتي، ولأطهرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملّكنّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرنّ له الرياح، ولأذللنّ له الرقاب الصِّعاب، ولأرقينّه في الأسباب، ولأنصرنّه بجندي، ولأمدنّه بملائكتي حتّى يُعلن دعوتي ويجمع الخلق على توحيدي، ثمّ لأديمنّ ملكه، ولأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة(٢).
وفي أصول الكافي، بإسناده عن الإمام عليّ (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنّه قال:… فإنه لمّا أسري بي إلى السماء الدنيا فنسبني جبرئيل لأهل السماء استودع الله حبّي وحبّ أهل بيتي وشيعتهم في قلوب الملائكة، فهو عندهم وديعة إلى يوم القيامة(٣)…
وقد مر عليك خبر سدير الصيرفي وعمر بن أُذينة في الإسراء والمعراج، وقول
٣- الكافي ٢: ٤٦ كتاب الإيمان والكفر، باب نسبة الإسلام ح ٣.
وخير مثال على التحريف المعنوي هو ما أشاعه معاوية في واقعة صفّين عند
وأمّا في الآخرة… فإن رسول الله قال: اللهم انما أنا بشر فإيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة… وهذا الحديث فضيلة لمعاوية.
فللأمويين تحريفات لفظية وتحريفات معنوية كثيرة، وإنّ هذه الدراسة تريد أن توضح أمثال هذه الأمور في الشريعة والتاريخ وانعكاساً على الأذان هنا.
فلا يجوز حمل بعض التحقيقات حول الأمويين وعقيدتهم في الاسراء والمعراج و… على الإسهاب والخروج عن البحث، بل ما كتبناه هو المقصود، ولولاه لما فهمنا ملابسات التشريع الذي نحن بصدد بيانه.
بلى، إنّهم لم يكونوا يحبّون آل الرسول، بل لم يحبّوا كلّ من أحبّه الرسول، بل كانوا يتعاملون مع آل الرسول بالشدة والبغض، فقد ذكر المناوي في فيض القدير، وكذا القرطبي في تفسيره واقعة دارت بين مروان بن الحكم وأسامة بن زيد.
وأسامة كان ممن يحبهم رسول الله ـ حسب نص القرطبي وغيره ـ وكان الخليفة عمر بن الخطاب أعطاه خمسة آلاف درهم ولابنه عبدالله ألفي درهم، فسأل عبدالله عن سر ذلك فأجابه عمر أنّه فعل ذلك لمحبة رسول الله له.
قال القرطبي: وقد قابل مروان هذا الواجب (أي محبّة مُحِبِّ رسول الله) بنقيضه، وذلك أنّه مرّ بأسامة وهو يصلّي بباب بنت رسول الله.
|
فقال مروان: إنّما أردت أن تُري الناس مكانك، فقد رأينا مكانك! فَعَل الله بك وفعل، وقال قولاً قبيحاً.
وقال له أسامة: آذيتني وإنّك فاحش متفحّش، وقد سمعتُ رسول الله يقول: إنّ الله يُبغض الفاحش المتفحش. فانظر ما بين الفعلين وقِس ما بين الرجلين، فلقد آذى بنو أميّة رسول الله في أحبابه وناقضوه في مَحابّه(١).
|
وعليه فالذي يجب القول به هنا، هو أنّ خبر الإسراء ثابت بالكتاب، والمعراج ثابت بالسنة ـ وإن لم يفرّق البعض بينهما فأطلق الإسراء على كليهما تساهلاً ـ وهذا ما جعل المجال مفتوحاً للإجمال والتفصيل والتلاعب والتشكيك في خبر المعراج أكثر من أخبار الإسراء.
فهل يرجع إجمالهم في نقل أخبار المعراج إلى عدم وقوفهم على نقول أهل بيت الوحي والنبوة؟ أم يرجع إلى أنّهم أجملوا ذلك عن قصد وعمد؟ لعلّك عرفت جواب هذا السؤال ممّا مرّ، فأغنى ذلك عن الإطالة.
وبهذا يكون ما كتبناه هو أشارة إلى دواعي الأمويين ومن لفّ لفهم في تحريف خبر الأذان، وكيف ربطوا خبر الإسراء والمعراج بالشجرة الملعونة، مدّعين أنّها شجرة الزقوم، بل كيف ربطوها بمسائل أخرى وقضايا مصيرية في الشريعة والتاريخ، كلّ ذلك للتشكيك في مقام الرسول (صلى الله عليه وآله) والقول بأنّ منامه المعراجي هذا يشابه الأذان ويحتاج إلى شاهد لتثبيت صحته.
مطلبان
لنا هنا مطلبان يتضحان بعد طرحنا هذين السؤالين:
الأوّل: هل أنّ الأذان عبارة عن الإعلام للصلاة فقط، أم هو بيان لأصول العقيدة وأركان الإسلام؟
الثاني: هل أنّ أمر الأذان توقيفيّ؟ وإذا كان توقيفيّاً، فهل هناك فرق بين توقيفية الواجبات وتوقيفية المستحبّات أم لا؟
وقبل الجواب عن السؤال الأوّل لابدّ من الإشارة إلى حقيقة هامّة في العبادات وغيرها، وهي: أنَّ الأُمور العباديّة في الشرع لها ظاهر ومغزى، فقد يمكن للإنسان أن يقف على ظاهر شيء ويؤدّيه دون أن يعرف كنهه ومغزاه والغاية القصوى منه، فالمطالع مثلاً في ما جاء عن أهل بيت النبوة يقف على أسرار في الصلاة والصيام والزكاة والحجّ وغيرها، ويتعرّف على أُمور كان لا يعرفها من ذي قبل، ولم يتنبه لها في نظرته الأُولى، من ذلك ما ذكره الصدوق في علل الشرائع، حيث قال فيه:
إنّ نفراً من اليهود جاءوا إلى رسول الله فسألوه عن مسائل وكان فيما سألوه: أخبرنا يا محمّد لأيّ علَّة تُوَضَّأُ هذه الجوارح الأربع وهي أنظف المواضع في الجسد؟
فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): “لمّا أن وسوس الشيطان إلى آدم دنا من الشجرة ونظر إليها ذهب ماء وجهه، ثمّ قام ومشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ممّا عليها فأكل فطار الحلي والحلل عن جسده، فوضع آدم يده على [أُمِّ] رأسه وبكى، فلمّا تاب الله عليه فرض عليه وعلى ذرّيّته غسل هذه الجوارح الأربع، وأمره بغسل الوجه لما نظر إلى الشجرة، وأمره بغسل اليدين إلى المرفقين لما تناول منها، وأمره بمسح الرأس لما وضع يده على أُمِّ رأسه، وأمره بمسح
أمّا الرأس والقدمان فهما عنصران آليّان يتقوّى بهما المكلّف على المعصية أو الطاعة وهما ليسا من الحواسّ الخمس، ففي الرأس القوّة المفكِّرة والخياليّة التي تبعث الفرد إلى ارتكاب المعاصي أو فعل الواجب، وبالرِّجل يسعى إليهما ـ الطاعة أو المعصيّة ـ فأمر سبحانه المسح عليهما كي ينجو من الوساوس الشيطانيّة والأغلال النفسيّة ويدخل حضيرة القدس طاهراً نقيّاً من الأدناس، ولأجل هذه الحقيقة فقد أكّدنا في كتابنا “وضوء النبيّ” على: أنَّ طهارة الوضوء هي طهارة حكميّة وليست بحقيقيّة، لأنَّ المؤمن لا يُنَجِّسُـه شيء، وبالوضوء يُعرف مَن يطيع الله ومن يعصـيه(٢).
وبعد هذه المقدِّمة لابدّ من الإجابة عن السؤال الأوّل.
١ ـ الأذان إعلام للصلاة أم بيان لأصول العقيدة؟
القاضي عياض: “اعلم أنّ الأذان كلام جامع لعقيدة الإيمان، مشتملة على نوعيه من العقليّات والسمعيّات، فأوّله إثبات الذات وما يستحقّه من الكمال [أي الصفات الوجودية]، والتنزيه عن أضدادها [أي الصفات العدمية]، وذلك بقوله “الله أكبر”، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالَّة على ما ذكرناه.
ثمّ صرّح بإثبات الوحدانيّة ونفي ضدّها من الشركة المستحيلة في حقّه
ثمّ دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات، فدعا إلى الصلاة وجعلها عقب إثبات النبوّة، لأنَّ معرفة وجوبها من جهة النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا من جهة العقل.
ثمّ دعا إلى الفلاح، وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم، وفيه إشعار بأُمور الآخرة من البعث والجزاء، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام.
ثمّ كرّر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وهو متضمّن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان وليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حقّ مَن يعبده وجزيل ثوابه…”(١).
وقد نقل محمّد بن علان ـ شارح الأذكار النوويّة ـ كلام القاضي عياض بشيء من التصرّف، كقوله:
ثمّ كرّر التكبير آخره إشارة إلى الاعتناء السابق، لأنَّ هذا المقام هو الأصل المبنيّ عليه جميع ما تقرّر من العقائد والقواعد، وختم ذلك بكلمة التوحيد إشارة إلى التوحيد المحض…(٢).
|
وكان آخره اسم “الله” ليطابق البداءة، إشارة إلى أنَّه الأوّل والآخِر في كلّ شيء، قال القاضي: “ثمّ كرّر ذلك عند إقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها، وفي ذلك تأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان، ليدخل المصلّي فيها على بيّنة من أمره وبصيرة من إيمانه ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظيم حقّ مَن عبده وجزيل ثوابه على عباده(١).
|
وقد علّق ابن علان على كلام القاضي عياض بقوله: (قلتُ: قال ابن حجر في شرح المشكاة: وللاعتناء بشأن هذا المقام الأكبر كرّر الدالّ عليه أربعاً إشعاراً بعظيم رفعته، وكأنّ حكمة خصوص الأربع أنَّ القصد بهذا التكرير تطهير شهود النفس بشهود ذلك عن شهواتها الناشئة عن طبائعها الأربعة الناشئة عن أخلاطها الأربعة.
وفي شرح العباب له: (وكأنَّ حكمة الأربع أنَّ الطبائع أربعة لكلٍّ منها كمال ونقص يخصّه بإزاء كلّ منها كلمة من تلك ليزيد في كمالها ويطهّر نقصها، وكذا يقال بذلك في كلّ محلّ ورد فيه التربيع)(٢).
وقال القرطبيّ وغيره: (الأذان على قلّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنّه بدأ بالأكبريّة وهي تتضمّن وجود الله وكماله، ثمّ ثنّى بالتوحيد ونفي الشرك، ثمّ بإثبات الرسالة لمحمّد (صلى الله عليه وآله).
ثمّ إلى الطاعة المخصوصة عقب الشهادة بالرسالة، لأنّها لا تُعرف إلاَّ من جهة
ثمّ أعاد ما أعاد توكيداً، ويحصل من الأذان الإعلام بدخول الوقت والدعاء إلى الجماعة وإظهار شعار الإسلام(١).
قال ابن خزيمة: فإذا كان المرء يطمع بالشهادة بالتوحيد لله في الأذان وهو يرجو أن يخلّصه الله من النار بالشهادة لله بالتوحيد في أذانه، فينبغي لكلِّ مؤمن أن يتسارع إلى هذه الفضيلة طمعاً في أن يخلّصه الله من النار، خلا في منزله أو في بادية أو قرية أو مدينة طلباً لهذه الفضيلة(٢).
وقال القسطلانيّ ـ بعد نقله خبر أبي هريرة عن النبيِّ وقوله: “إذا نُودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتّى لا يُسمَع التأذين” ـ: (لعظيم أمره لما اشتمل عليه من قواعد الدين وإظهار شرائع الإسلام، أوحى: لا يشهد للمؤذِّن بما سمعه إذا استشهد يوم القيامة، لأنّه داخل في الجنّ والإنس المذكور في حديث: لا يسمع مدى صوت المؤذِّن جنّ ولا إنس ولا شيء إلاَّ شهد له يوم القيامة)(٣).
وأخرج عبدالرزّاق عن معمر، عن الزهريّ: أنَّ أبا بكر الصدّيق قال: الأذان شعار الإيمان(٤).
ونقل الصدوق بسنده إلى الإمام الحسين بن عليّ (عليهما السلام)، قال: كنّا جلوساً في المسجد، إذ صعد المؤذِّن المنارة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، فبكى أمير المؤمنين
٣- إرشاد الساري ٢: ٥.
٤- مصنّف عبدالرزّاق ١: ٤٨٣/١٨٥٨.
وفي المرّة الثانية: “أشهد أن لا إله إلاَّ الله”، معناه: أشهد أن لا هادي إلاّ الله، ولا دليل إلى الدين إلاّ الله، وأُشهِدُ الله بأني أشهَدُ أن لا إله إلاّ الله، وأُشهد سُكَّان السماوات، وسكّان الأرضين، وما فيهنّ من الملائكة والناس أجمعين، وما فيهنّ من الجبال، والأشجار، والدوابّ، والوحوش، وكلّ رطب ويابس، بأنّي أشهد أن لا خالق إلاَّ الله، ولا رازق، ولا معبود، ولا ضارّ، ولا نافع، ولا قابض، ولا باسط، ولا معطي، ولا مانع، ولا ناصح، ولا كافي، ولا شافي، ولا مُقدّم، ولا مُؤخّر إلاّ الله، له الخلق والأمر، وبيده الخير كلّه، تبارك الله ربّ العالمين.
وأمّا قوله: “أشهدُ أن محمّداً رسول الله”، يقول: أشهد الله أنَّه لا إله إلاّ هو، وأنَّ محمّداً عبده ورسولُه، ونبيُّه، وصفيُّه، ونجيبُه، أرسله إلى كافّة الناس أجمعين بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون، وأشهد مَن في السماوات والأرض، من النبيّين والمرسلين، والملائكة والناس أجمعين أنَّ محمّداً سيّد الأوّلين والآخرين.
وفي المرّة الثانية: “أشهد أنَّ محمّداً رسول الله”، يقول: أشهد أن لا حاجة لأحد [إلى أحد] إلاَّ إلى الله الواحد القهّار الغنيّ عن عباده والخلائق والناس أجمعين، وأنّه أرسل محمّداً إلى الناس بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً
وفي المرة الثانية: ” حيّ على الصلاة “، أي قوموا إلى مناجاة ربّكم وعرض حاجاتكم على ربكم، وتوسّلوا إليه بكلامه، وتشفعوا به وأكثروا الذكر والقُنوت، والركوع والسجود، والخضوع والخشوع، وارفعوا إليه حوائجكم، فقد أذن لنا في ذلك.
وأمّا قوله: “حيّ على الفلاح”، فإنّه يقول: أَقْبِلُوا إلى بقاء لا فناءَ معه، ونجاة لا هلاك معها، وتعالوا إلى حياة لا موت معها، وإلى نعيم لا نفاد له، وإلى مُلك لا زوال عنه، وإلى سرور لا حزن معه، وإلى أُنس لا وحشة معه، وإلى نور لا ظلمة معه، وإلى سعة لا ضيق معها، وإلى بهجة لا انقطاع لها، وإلى غِنى لا فاقة معه، وإلى صحّة لا سقم معها، [ وإلى عِزّ لا ذلّ معه ]، وإلى قوّة لا ضعف معها، وإلى كرامة يا لها من كرامة، وعَجِّلُوا إلى سرور الدنيا والعقبى، ونجاة الآخرة والأُولى.
وفي المرّة الثانية: “حيّ على الفلاح”، فإنّه يقول: سابقوا إلى ما دعوتكم إليه، وإلى جزيل الكرامة، وعظيم المِنَّة، وسنيّ النِّعمة، والفوز العظيم، ونعيم الأبد في جوار محمّد (صلى الله عليه وآله) في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأمّا قوله: “اللهُ أكبر، اللهُ أكبر”، فإنّه يقول: الله أعلى وأجلّ من أن يعلم أحد من خلقه ما عنده من الكرامة لعبد أجابه وأطاعه، وأطاع أمره وعبدَهُ وعرف
وأمّا قوله: “لا إله إلاّ الله”، معناه: لله الحجّة البالغة عليهم بالرسول والرسالة، والبيان والدعوة، وهو أجَلُّ من أن يكون لأحد منهم عليه حجَّة، فَمَن أجابه فله النور والكرامة، ومَن أنكره فإنَّ اللهَ غنيٌّ عن العالمين، وهو أسرع الحاسبين.
ومعنى “قد قامت الصلاة” في الإقامة، أي حان وقت الزيارة والمناجاة، وقضاء الحوائج، ودرك المُنَى، والوصول إلى الله عزّوجلَّ، وإلى كرامته وغفرانه وعفوه ورضوانه.
قال الصدوق: إنّما تَرَكَ الراوي ذِكر «حيّ على خير العمل» للتقيّة(١)، وقد روي في خبر آخر أنَّ الصادق (عليه السلام) سئل عن معنى «حيّ على خير العمل» فقال: “خير العمل: الولاية”.
وفي خبر آخر: “خير العمل: بِرُّ فاطمةَ وولدها:”(٢).
قلتُ: سنفتح بإذن الله ملابسات هذه الرؤية وما يتلوها عن ابن عبّاس في
فقال ابن عبّاس: أتدرون ما قال المؤذِّن؟ فسأله أبو العالية، فقال: أخبرنا بتفسيره.
قال ابن عبّاس: (إذا قال المؤذِّن: “الله أكبر، اللهُ أكبر”، يقول: يا مَشاغيلَ الأرض، قد وجبت الصلاة، فتفرَّغوا لها.
وإذا قال: “أشهد أن لا إله إلاَّ الله”، يقول: يقوم يوم القيامة، ويشهد لي ما في السماوات وما في الأرض على أنّي أخبرتكم في اليوم خمس مرّات.
وإذا قال: “أشهد أنَّ محمّداً رسول الله”، يقول: تقوم القيامة ومحمّد يشهد لي عليكم أنّي قد أخبرتكم بذلك في اليوم خمس مرّات، وحجّتي عند الله قائمة.
وإذا قال: “لا إله إلاَّ الله”، يقول: أمانة سبع سماوات، وسبع أرضين، والجبال، والبحار وضعت على أعناقكم إن شئتم فأقبلوا وإن شئتم فأدِبروا(١).
وقد مرّ عليك كلام الإمام الحسين “والأذان وجه دينكم”، وقول محمّد ابن الحنفيّة: “عمدتم إلى ما هو الأصل في شرائع الإسلام ومعالم الدين”(٢)، وما جاء في (مَن لا يحضره الفقيه) بإسناده عن الفضل بن شاذان فيما ذكره من العلل عن الرضا (عليه السلام) أنّه قال:
“إنّما أُمِرَ الناس بالأذان لعلل كثيرة، منها: أن يكون تذكيراً للناسي، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لمن جهل الوقت واشتغل عنه ; ويكون المؤذِّن بذلك داعياً لعبادة الخالق، ومرغِّباً فيها، ومُقِرَّاً له بالتوحيد، مجاهراً بالإيمان، معلناً بالإسلام…”.
إلى أن يقول: “وجُعِل بعد التكبير الشهادتان، لأنَّ أوّل الإيمان هو التوحيد والإقرار لله بالوحدانيّة، والثاني الإقرار للرسول بالرسالة، وأنَّ إطاعتهما ومعرفتهما مقرونتان، ولأنَّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادتان، فجعل شهادتين شهادتين كما جُعِلَ في سائر الحقوق شاهدان، فإذا أقرّ العبد لله عزّوجلّ بالوحدانيّة وأقرّ للرسول بالرسالة فقد أقرَّ بجملة الإيمان ; لأنّ أصل الإيمان إنّما هو بالله وبرسوله. وإنّما جعل بعد الشهادتين الدعاء إلى الصلاة، لأنّ الأذان إنّما
فمعنى “الله” أنّه يخرج الشيء من حدِّ العدم إلى حدِّ الوجود ويخترع الأشياء لا من شيء، وكلّ مخلوق دونه يخترع الأشياء من شيء إلاَّ الله، فهذا معنى “الله” وذلك فرق بينه وبين المحدَث.
ومعنى “أكبر”، أي: أكبر مِن أن يُوصَف في الأوّل، وأكبر من كلِّ شيء لمّا خلق الشيء.
ومعنى قوله: “أشهد أن لا إله إلاَّ الله”: إقرار بالتوحيد، ونفي الأنداد وخلعها، وكلّ ما يعبدون من دون الله.
ومعنى “أشهد أنّ محمّداً رسول الله”: إقرار بالرسالة والنبوّة، وتعظيم لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك قول الله عزّوجلّ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} (٤)، أي: تُذكَر معي إذا ذُكِرتُ.
ومعنى “حيّ على الصلاة”، أي: حثّ على الصلاة.
٣- الحجّ: ٢٨.
٤- الانشراح: ٤.
اللهُ أكبر، اللهُ أكبر، لا إله إلاَّ الله، محمّد رسول الله، فألقى معاوية من آخر الأذان “محمّد رسول الله”، فقال: أمَا يرضى محمّد أن يُذكر في أوّل الأذان حتّى يذكر في آخره؟!
ومعنى الإقامة: هي الإجابة والوجوب، ومعنى كلماتها فهي التي ذكرناها في الأذان، ومعنى “قد قامت الصلاة”، أي: قد وجبت الصلاة وحانت وأُقيمت، وأمّا العلّة فيها، فقال الصادق (عليه السلام): “إذا أذَّنتَ وصلّيتَ صلَّى خلفك صفٌّ من الملائكة، وإذا أذَّنت وأقمتَ صلَّى خلفك صفّان من الملائكة”، ولا يجوز ترك الأذان إلاّ في صلاة الظهر والعصر والعتمة، يجوز في هذه الثلاث الصلوات إقامة بلا أذان، والأذان أفضل، ولا تجعل ذلك عادة، ولا يجوز ترك الأذان والإقامة في صلاة المغرب وصلاة الفجر، والعلة في ذلك أنّ هاتين الصلاتين تحضرهما ملائكة الليل وملائكة النهار(١).
وقال الشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ ضمن بيانه لحكم وفضل الأذان ـ: “.. ولأنّه وضع لشعائر الإسلام دون الإيمان”(٢).
فهذه النصوص تشير بوضوح إلى أنّ الأذان لم يكن إعلاماً بوقت الصلاة فقط، بل هو بيان لكلّيّات الإسلام وأصول العقيدة والعقائد الحقة.
فلو كان بياناً لوقت الصلاة خاصّة ; لكان للشارع أن يكتفي بتشريع علامة كي