الرئيسية / زاد الاخرة / الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٢١ – ٤٠

٢١

منهج المعرفة الدينية

ونتناول فيه منهج الحجج في بحث الإمامة فيقع البحث في الكتاب والسنة والعقل والمعرفة القلبية. والعلاقة والارتباط بين هذه الأدلة لكن قبل الولوج في هذا البحث لا بأس بذكر عدة مقدمات نتعرض فيها لتصوير الأحكام الشرعية في مجمل العقائد وبالتالي يمكن تطبيق قواعد اصول الفقه لاستنباط الاحكام الشرعية في العقائد.

 

المقدّمة الأولى

ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين احدهما الفقهي والاخر الاصولي، ويقصد بالأول الحكم الشرعي الواقعي المجعول بالجعل الأولي كوجوب الصلاة ووجوب قراءة السورة، ووجوب الخمس ويكون ملاكه في نفسه… فهو ناظر إلى الواقع ويتعلق بالعناوين والموضوعات الواقعية وبتعبير آخر حكم أولي مرتب على واقع الافعال.

اما الحكم الشرعي الأصولي فهو الذي يبحث عنه في علم الاصول ويكون حكما طريقيا الهدف منه احراز الحكم الواقعي فملاكه ليس في نفسه.

والبحث في إمكان تصوير كلا القسمين في العقائد أم لا؟

ولذا سوف يكون يكون البحث من الناحية الثبوتية والإثباتية.

 

٢٢

أولاً: البحث الثبوتي:

والبحث من جهتين الاولى امكان التعبد بالحكم الواقعي الأولي في العقائد سواء تفاصيلها أو اُمهات مسائلها. والثانية امكان ثبوت الحكم الشرعي الأصولي في العقائد بمعنى هل يثبت بالظن النشآة السابقة، أو أحوال البرزخ… فعندما يُقال لا يمكن التعبد بالظن، لا يكون ذلك منعا للحكم الشرعي الواقعي بل منعا للحكم الأصولي.

 

امّا الجهة الأولى:

وهو امكان وجود حكم شرعي فقهي في باب العقائد، اي هل يمكن للشارع ان ينشأ حكماً شرعياً بوجوب الايمان بالرجعة – مثلا – أم لا؟

ان تصوير الحكم الشرعي في تفاصيل العقائد بل حتى في مسائل الإمامة والنبوة والمعاد ليس بالأمر المشكل وذلك لعدم تأتي اشكال وشبهة الدور اذ ان هذه المسائل تثبت بعد توحيد الحق تعالى والايمان به لذا سوف نركز الكلام حول التوحيد، واثبات امكانية الحكم الشرعي فيه.

والمدعى هو امكان ذلك وعدم وجود المانع منه. والدليل على ذلك يتضح من خلال النقاط التالية:

١ – ان الايمان الذي يحصل لدى الفرد هو من وظيفة القوة العملية أي العقل العملي وليس من وظيفة القوة النظرية وذلك لان الايمان هو عقد القلب على شىء أي الاذعان والتسليم بذلك الشيء، وبهذا يكون فعلا من أفعال النفس.

اما القوة النظرية فوظيفتها الادراك البحت، والإدراك بعد حصول مقدماته من الأدلة والبراهين لا يكون اختياريا بل يحصل تلقائياً، لكن ليس كل ادراك يستتبعه اذعان من القوة العملية فقد يحصل ادراك بحقيقة ما، ومع ذلك تأبى النفس

٢٣

التسليم بها والإخبار الى وجودها والالتزام بها ويتصرف الإنسان على خلاف ذلك.ومن هنا فان الخطابات الشرعية والاحكام التي يجعلها الشارع لا يكون متعلقها الادراك ولا الفحص عن مقدماته، وإنما متعلقها هو الفعل القلبي الذي تقوم به القوى العملية، وهنا يكمن موضع الاشتباه حيث ان البعض تصور أن متعلق الحكم الشرعي هو الادراك بأن يخاطب الشارع الفرد: “أدْرِك ربك او اعْرِف ربك” فأشكل بالدور وما شابههه، وما دام الايمان وظيفة القوى العملية، فان الترغيب والترهيب سوف يكون مؤثرا للنفس حتى تنصاع القوى العملية للأدلة الصحيحة والبراهين الساطعة التي ادركتها القوى النظرية.

٢ ـ قد يشكل البعض ان المناطقة عرّفوا العلم بأنه التصديق والجزم فيعود الاشكال؟

والجواب عن ذلك: انه طبقا لاخر تحقيقات مدرسة الحكمة المتعالية فان الحكم في القضية هو غير العلم. بيان ذلك:

ان صدر المتألهين ذهب إلى ان العلم الحصولي هو حصول صورة الشىء لدى العقل، وهذا التصور تارة يكون كاشفاً تاماً بحيث يتولد منه اذعان النفس، وتارة لا يولد الاذعان وهذا هو الحكم، فتارة يستتبع الحكم “وهُو فعل نفساني ليس من قبيل العلم الحصولي والصورة الذهنية “(١).

واصحاب النفوس المريضة لا يتولد لديهم اذعان حتى لو كان التصور مبنياً على ادلة حقيقية وذلك للحُجُب المانعة أو الأمراض النفسانية الادراكية أو العملية نظير

 

١- رسالة في التصور والتصديق ـ صدر المتألهين ص ٣١٣.ويضيف العلامة الطباطبائي: ان الحكم هو فعل نفساني في ظرف الإدراك الذهني، والتصور هوالصورة الذهنية الحاصلة من معلومة خاصة، والتصديق هوالصورة الذهنية الحاصلة من علوم معها إيجاب وسلب كالقضايا الحملية والشرطية. نهاية الحكمة ص ٢٥٠ ـ المرحلة ١١.

 

٢٤

الجربزة والوسوسة والعناد واللجاج والعصبية وغيرها من حصول التصديق، لذا يجب على الباحث والمستدل أن يعمل على تهذيب النفس. وهذا التهذيب يكون بأحكام الشريعة. والحاصل أن قوام الحكم الفقهي هو كون متعلقه فعلا اختيارياً ويجعل على امتثاله الثواب وعلى تركه العقاب وكلا الركنين متوفرا في الايمان بالتوحيد وإليه الاشارة في قول الصادق (عليه السلام): “الايمان عمل كله”.ومن هنا يمكن القول بأنه من اللطف الالهي الواجب أن يأمر الحق وأن يرغِّب في توحيده وأن ينهى ويرهب من الشرك به، وهذا الأمر يفسر لنا الاحاديث الواردة بأن على الله المعرفة والبيان وعلى العبد الايمان والتسليم(١).

٣ – ان الشبهة الحاصلة لدى البعض هي ان البراهين والادلة المتكونة من الصغرى والكبرى علة فاعلية للنتيجة والحكم، فقالوا باستحالة تخلفها عنهما، وهذا غير تام.

والصحيح أن هذه البراهين لها وظيفة اعدادية بمعنى انها لاتولد اليقين والجزم بل هو فعل النفس نتيجة لاعداد وتهيئة تلك الادلة ومادام ذلك فعل النفس يكون لاعداد النفس وتهذيبها اثر فعال في تولد اليقين من الادلة الصحيحة.

والفلاسفة يعترفون ان تلك الادلة لا تورث اليقين بل الظن ولذلك يقولون إنه اذا حصل اذعان وتسليم من النفس فإن هذا كاف في المقام، وقد مدح الحق تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُلاَقُوا رَبِّهِمْ}(٢) فمع انهم من جهة الادراك ظن لكن من جهة الاذعان والتسليم لا يوجد لديهم تردد.

فاتضح من خلال هذا الاستعراض ان الحكم الشرعي يعم كل المعارف الالهية حتى التوحيد، فثبوتا امكن تصوير الحكم الشرعي الفقهي.

 

 

١- الكافي: كتاب التوحيد الباب ٥٤ الحديث: ١٢، ٥.٢- البقرة ٢: ٤٦.

 

٢٥

اما الجهة الثانية:

وهو امكان التعبد بالحكم الشرعي الأصولي.

ذكرنا سابقا ان الغاية من الحكم الأصولي هي الارائة، فهل تحصل الارائة من الظن؟ وهذه المسألة تداولها المتأخرون بشكل واف بعد ان تعرض لها الشيخ الانصاري في رسائله في تنبيهات الانسداد وحكى(١) عن كل من المحقق الطوسي والاردبيلي وتلميذه صاحب المدارك والشيخ البهائي والعلامة المجلسي والمحدث الكاشاني وغيرهم إمكان ذلك، وحكى(٢) عن الشيخ الطوسي كفاية الجزم والظن فى الاعتقاد إذا طابق الواقع وإنْ عصى المكلف بترك تحصيل الاعتقاد عن دليل قطعي لأنه واجب مستقل، وذهب إلى ذلك الميرزا القمي في قوانينه(٣)والمحقق الاصفهاني في نهاية الدراية(٤) والسيد الخوئي في مصباح الأصول. وقد ذهب الشيخ نفسه إلى إمكانه بحسب مقتضى الصناعة إلا أنه منعه بحسب الوظيفة الشرعية.

والسر في ذلك ان اليقين والجزم ليس على درجة واحدة اذ أنه كما ذكرنا يتأثر بدرجة الادراك وبالعوامل النفسية المختلفة، فلدينا إذعان ينبع من اليقين العلمي واذعان ينبع من الظن الاطمئناني – المتاخم للعلم -، وهناك اذعان يتولد من تساوي الطرفين، وذلك فيما دأبت عليه النفس من أخذ الحيطة في المحتملات البالغة الأهمية فلا تراعي درجة الاحتمال، وانما تراعي أهمية المحتمَل فيحصل

 

١- مبحث الظن / تنبيهات دليل الانسداد / الأمر الخامس اعتبار الظن في أصول الدين والأقوال المستفادة من تتبع كلمات العلماء في هذه المسألة من حيث وجوب مطلق المعرفة.٢- نقله(رحمه الله)عن الشيخ الطوسي في (العدة) / مسألة حجية اخبار الآحاد وفي آخر العدة.

٣- القوانين: ٢ / ١٦٤ ـ ٢٢٠.

٤- نهاية الدراية ٢ / ٤٠٠ ـ ط مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) مبحث الظن دليل الانسداد.

 

٢٦

الاذعان والجزم مع وجود الاحتمال فقط وذلك لاهمية المحتمل وخطورته.والخلاصة: فان الاذعان وهو فعل القوى العملية يتبع – في الغالب – الادراك وهو فعل القوى النظرية وبما ان الادراك ذو درجات تبدأ من تساوي الطرفين وحتى اليقين والعلم، فان الاذعان كذلك تختلف درجته – مع بقائه اذعانا وتسليما.

تبقى الإشارة إلى ان البعض يعتبر ان الشك هو درجة ادراكية وهذا غير صحيح اذا ان الشك هو عدم الاذعان وحالة التردد العملي وبالتالي فهو صفة لحالة من حالات القوى العملية، فلا اذعان مع الشك، فما ذكر من كون تساوي الطرفين هو الشك الادراكي فهذا غير صحيح لذا لم نعبر عنه كذلك.

 

ثانياً: البحث الاثباتي:

بعد أن تم تصوير امكان توجه الحكم الشرعي في العقائد سواء أصولها ام تفاصيلها تصل النوبة للبحث الاثباتي وهو مقدار ما قامت عليه الادلة في الاحكام الشرعية.

 

١ ـ الحكم الشرعي الفقهي:-

اي الحكم الأولي فيمكن القول أن الآيات الواردة بصيغة “أمنوا بالله” كلها احكام شرعية لوجوب التوحيد لذا لم تخاطب الجانب الادراكي البحت، بل أتت بلفظ الايمان وهو ما اشرنا اليه سابقا في البحث الثبوتي، وعليه تكون هذه الاوامر مولوية لوجوب طاعة الله والايمان به وتوحيده.

اما الايات الواردة بوجوب الفحص والتفكير والمعرفة نحو {انْظُرُوا مَاذَا فِي

٢٧

السَّماوَاتِ… }(١) وغيرها فهي اوامر ارشادية ترشد إلى وجوب الفحص الذي ادركه العقل اذ ان الفحص مقدمة للادراك، والادراك متقدم على الاذعان.اما بالنسبة لتفاصيل الاعتقادات فأيضاً قامت ادلة كثيرة على وجوب الاعتقاد بها اذا حصل العلم بذلك بمعنى أي أن الحكم فيها بخلاف الاصول فهناك يجب تحصيل الايمان، اما هنا فالحكم معلق على قيام العلم أو الحجة المعتبرة على تلك التفاصيل فالاعتقاد والايمان بها واجب حينئذ.

بل في بعض الاخبار وجوب التسليم الإجمالي بما انزله الله وما جاء به الرسول وبيّنه الائمة وان هذا هو مقتضى الايمان بهم.

ففي الرواية عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال: من سرّه ان يستكمل الايمان كله فليقل: القولُ مني في جميع الاشياء قول آل محمد، فيما أسروا وما أعلنوا وفيما بلغني عنهم وفيما لم يبلغني(٢).

 

٢ ـ اما بالنسبة للحكم الشرعي الأصولي:

فهل من الممكن التعبد بالظن في اصول الاعتقادات وتفاصيلها؟

والبحث هنا يختلف عن البحث في الحكم الأولي، لذا سوف نقسمه إلى ثلاثة اقسام:-

١ – التعبد بالظن في التوحيد والنبوة.

ويوجد تسالم علي عدم التعبد بالادلة الظنية في هذين الأصلين وذلك للدور الحاصل في المقام. توضيح ذلك:

ان الايمان بالتوحيد والنبوة يجب ان يستند إلى شيء حجيته ذاتيه، اما اذا كانت

 

١- يونس ١٠: ١٠١.٢- أصول الكافي كتاب الحج باب ١٥.

 

٢٨

حجيته عرضية فيجب ان ينتهي إلى ما هو بالذات اي إلى دليل عقلي اعتبره الشارع، و الفرض ان البحث مازال في التوحيد فلم يثبت الشارع بعدُ حتى نثبت اعتبار الشارع له أو عدمه.٢ ـ التعبد بالظن في الإمامة والمعاد والعدل.

فالأشكال السابق غير وارد هنا وذلك لأن البحث فيما بعد ثبوت التوحيد والنبوة واذعان النفس بهما. لكن مع ذلك يوجد تسالم بين الفقهاء على عدم جواز الاستناد إلى الدليل الظني في اثبات الإمامة والمعاد بل يجب الاستناد إلى الدليل القطعي.

والسر في هذا التسالم هو ان الواجب في اصول الاعتقادات التحرز والتحفظ عن الوقوع في الضلال وهذا الوجوب عقلي والركون إلى الظن لا يؤمن هذا الجانب. لا أن الظن غير محصل للاذعان بل يمكن الاذعان والتسليم مع الادراك الظني لكن هذا لا يكون حصنا امام الشبهات والاشكالات.

٣ ـ التعبد بالظن في تفاصيل المعارف الالهية.

والبحث هنا حول المقدار الذي ثبت من جواز التعبد بالظن لنيل تفاصيل الاعتقادات، وبعد أن ثبت في علم الاصول حجية أخبار الآحاد والظواهر لتحصيل الأحكام الشرعية الفقهية الفرعية، يرد التساؤل هل يمكن تعميم الحجية لتشمل تفاصيل المعارف.

وقبل البدأ بأخبار الاحاد نشير إلى أن كثيراً من تفاصيل المعارف قامت عليها الاخبار المتواترة او المستيفضة والتي تورث القطع ويحصل بها العلم وهي خارجة عن بحثنا.

 

٢٩

اما اخبار الاحاد:

فأول اشكال يعترضنا هو ان العمل يكون بالخبر واجبا اذا كان مؤداه حكماً شرعياً او موضوعا لحكم شرعي، وتفاصيل الاعتقادات ليس من الواجب الاعتقاد بها، فلا معنى لوجوب العمل بخبر الواحد.

والجواب عن هذه الشبهة ـ وان كان يظهر مما تقدم ذكره في البحث ـ لكننا نفصل ونقسم تفاصيل الاعتقادات إلى قسمين:-

أحدهما: المعارف التي تتعلق بعالم المادة وشئون الدنيا نحو: ان تحت الارض كذا أو فوق السماء كذا، والظن بأحوال القرون الماضية وكيف كانت حياتهم ولم يقل احد بوجوب الاعتقاد بها حتى وان حصل العلم بها.

والثاني:- التفاصيل المتعلقة بأفعال الحق سبحانه، وكيفية خلقه ونحو أفعاله، وما هو مرتبط بعالم الغيب من مختلف المعارف، وهذه يجب الاعتقاد بها، لكن في حالة حصول العلم او قيام الحجة المعتبرة وقد جعلها المتقدمون كالصدوق والمفيد من قسم العقائد.

والدليل على ذلك مضافاً إلى أنه مقتضى عموم أدلة الحجية التعبدية ـ لو ثبت شمولها ـ عدم تعليق وجوب الاعتقاد بها على خصوص العلم، وإيجاب الاعتقاد بتوسطها، ولو بدرجة العقد الظني:-

١ ـ إنه هناك الكثير من الايات التي توجب الايمان بالغيب مطلقاً بل تذكر ان الايمان بالغيب من الصفات الممدوحة في المؤمنين، وإذا كان الملتزم بالغيب على نحو الاجمال ممدوح فتدل على عموم موضوع الأدلة الاولى، لمن قامت لديه ادلة تفصيلية على هذا الغيب فإن الإيمان بذلك يكون واجباً.

٢ ـ ان مقتضى الايمان بالنبي (صلى الله عليه وآله) ورسالته هو التسليم بكل ما صح عنه وبكل ما ثبت نسبته اليه.

 

٣٠

٣ ـ ان هذه الروايات تتناول صفات الحق وحكمته وأفعاله التي دلّت الأدلة العامة على لزوم الاعتقاد بها مع أن الاعتقاد بهذه التفاصيل لا ريب في رجحانه ويزيد من قوة الايمان وهو مصحح للحجية.٤ ـ ان بعض الروايات الواردة في بعض التفاصيل قد صرحت بوجوب الاعتقاد بها كالرجعة. وهذه لا خصوصية لها فيعم الحكم جميع التفاصيل كعذاب القبر والبرزخ ونحوهما، ولا يتوهم الدور كما لا يخفى خصوصا اذا ضممنا الى ذلك ان الكثير من التفاصيل ثبت بروايات مستفيضة.

٥ ـ إنه قد وردت روايات كثيرة في كفر ـ وإن لم يكن بالمعنى الخاص الاصطلاحي ـ من جحد ما تقوم به الحجة في بعض الضروريات ولا يعتقد بها وخصت الحجة بنقل الثقات(١).

٦ ـ ثم إنه لو فرض الشك في وجوب الاعتقاد وعدم قيام الدليل فانه لا يسوغ الرد عقلا ولا شرعاً إذ بينهما مغايرة.

اما عقلاً وذلك لعدم قيام الدليل على النفي فاذا ردّ وجزم بالنفي فيكون كذباً لعدم قيام الدليل على النفي حتى لو كان رده صحيحا.

اما شرعاً فلأن احتمال الصدور من الشارع وارد فمع احتمال الصدور كيف يجوز الرد وقد ورد في رواية زرارة عن ابي عبد الله (عليه السلام): لو ان العباد اذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا(٢).

ثم قد يورد اشكال ثان حاصله ان المطلوب هو الاعتقاد وهو جزم واذعان فكيف يمكن تحصيل ذلك من الظن؟

وجواب هذا الاشكال واضح وهو ان الاذعان والجزم ذو مراتب، فقد يحصل

 

١- الوسائل باب ٢ / مقدمة العبادات.٢- الكافي ٢: ٤٠٦.

 

٣١

من العلم والقطع وهو أعلى المراتب، وقد يحصل من الظن المعتبر فهو جزم إلا إنه ظني فالتفرقة في الفعل النفسي.وقد يشكل اخيرا بالآيات الواردة في النهي عن اتباع الظن وخصوصا ان علماء الاصول حملوا هذه الروايات على الظن في الاعتقادات وان المطلوب فيها اليقين.

وقد اجيب عن هذا باجوبة عدة:

منها: ان المراد من الظن المنهي عن اتباعه هو الظن الذي لا يرجع إلى اليقين اما اذا كان مدرك حجية هذا الظن قطعياً فلا مانع من متابعته.

ومنها: ان النهي من اتباع الظن وارد في اصول الاعتقادات اما في التفاصيل فلا يعلم ان الاية تنهى عنه.

ومنها: ان الايات واردة في ذم قسم من الناس الذين يرون المعاجز النبوية الثابتة ولا يؤمنون بها ويتبعون الظن وما جاءهم به اباؤهم. فالآيات واردة في ذم من يتبع الظن المقابل والمنافي لما دلّ عليه اليقين.

ومنها: ان الظن انما يذم اتباعه حيث يمكن تحصيل اليقين والعلم، اما مع عدم امكان تحصيل اليقين فان النوبة تصل إلى الظنون المعتبرة.

وبعبارة أخرى أن المسائل في المعارف كلما ترامت وابتعدت عن الاستدلال بالبديهيات وتوغلت في النظرية كلما قلّ وضوح يقينيتها كما هو مشاهد بالوجدان وكانت إلى الظن منها أقرب من اليقين، كيف لا وهذا ابن سينا يقرّ بالعجز عن إقامة الدليل العقلي على المعاد الجسماني مع أنه من أصول الدين، ويتوسّل ببرهان اخبار الشريعة الحقة المحمدية بذلك.

ثم هناك نكتة مهمة يجب التنبه اليها وهي جواب ايضاً عما هو وارد في القرآن

٣٢

كتاب الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – (ج ١) للسّيّد مُحمّد علي بحر العلوم (ص ٣٣ – ص ٤٦) 

٣٣

إنه لو لم تكن لهم سيرة بالفعل قائمة على العمل بخبر الواحد في التفاصيل، فان ارتكاز السيرة بنحو يكون مدعاة لتعميمه وعدم الردع من الشارع لهذا الارتكاز يعني امضاؤه له.كما أن الأصوليين يستندون في حجية أخبار الآحاد إلى روايات مستفيضة مفادها مثل أن السائل يسأل الإمام (عليه السلام) فلان ثقة آخذ عنه معالم ديني؟ فيجيب الامام (عليه السلام) بالايجاب.

واخذ معالم الدين شامل للفروع والاصول.

 

اما بالنسبة لحجية الظواهر:

فقد اشار الكثير إلى ان حجية الظواهر ليس امرا متنازعاً فيه، وهذا يعني ان الدليل على حجيتها هو القطع بتقريب ان الشارع لم ترد له طريقة أخرى في التعامل مع المكلفين غير الطريقة القائمة فيما بينهم وهو الاعتماد على الظواهر. وأن كثيراً من المعارف الالهية وتفاصيلها قد ورد في القرآن الكريم ولم تكن للشارع في تفهيم القرآن طريقة غير طريقة أهل المحاورة فهذا يثبت حجية الظواهر في المعارف أيضا.

وقبل ان نختم البحث في هذه المقدمة نشير إلى نكات مهمة:-

١ ـ ان هذه المقدمة والتي تليها تبرز أهمية ان البصيرة في هذه المباحث توجب حصول بصيرة في كثير من المجالات والعديد من المخاصمات في تفاصيل الاعتقادات.

٢ ـ من المقرر في علم الاصول ان حجية خبر الواحد والظواهر منوطة بالفحص عن المعارض، والأمر هنا كذلك بل الفحص عن المعارض في تفاصيل الاعتقادات يكون أشد واخطر واهم لكثرة القرائن المنفصلة في هذا الباب ومنها

٣٤

القرائن العقلية فلا بد من الخوض في البحوث العقلية بمقدار كاف حتى يمكن فهم كثير من الروايات.٣ ـ ان الاحكام الشرعية الواردة في التفاصيل حكمها على وزان الفروع فما كان منها ضروري فإن عدم الايمان به وردّه حكمه حكم الارتداد، وغيره قد يوجب الفسق في حالة التقصير.

 

المقدمة الثانية

ونتناول فيها البحث حول الميزان واصول الادلة في علم العقائد.

ونستعرض فيها العلاقة القائمة بين العلوم وما يرتبط منها في بحث العقائد.

فما هي اصول العقائد؟

يطلق الاصل على معان عدة فقد يطلق ويراد به الاساس للشيء، وتارة يطلق ويراد به ما هو السبب للمسبب. وفي الاصطلاح عندما يطلق على ما يعتبر اصلا لعلم اخر فانه يقصد به العلم الذي يتكفل ايضاح منهجية علم آخر وتهيئة قواعد لا تدخل نفسها كمواد في قياس ذلك العلم. ومن هنا تفترق القواعد الفقهية عن القواعد الاصولية بالنسبة لعلم الفقه فإن القاعدة الفقهية بنفسها تدخل في استنباط الحكم الشرعي فيستفاد منها في باب التطبيق، بينما القاعدة الاصولية لا تحضر بنفسها في الفقة بل هي تحدد المنهج الذي يجب اتباعه في الاستنباط.

وبالنسبة للعقائد يمكن القول ان القواعد العامة التي تذكر في علم الكلام أو الفلسفة يتم تطبيقها في الالهيات فتكون من قبيل القواعد الفقهية، ويمكن التعبير عن التطبيق بالقول “ان المحمول بنفسه يأتي في النتيجة”.

وعلى كل ففي اصطلاح أهل الفن يطلق الاصل ويراد به احد هذين المعنيين.

والغرض هنا هو البحث حول اطلاق اصول ادلة العقائد

٣٥

هل يراد بالاصل ما يبحث في منهجية الاستدلال ام يُراد به ما يرادف القواعد الفقهية؟والجواب عن هذا التساؤل:

١ ـ إنه اذا اطلق الاصل هنا واُريد المعنى الأول فالعلم الباحث عن منهجية الاستدلال في العقائد هو علم اُصول الفقة.

والسر في ذلك اننا ذكرنا فيما سبق ان المقصود بالاحكام الشرعية لا يخص الفرعية (عبادات ومعاملات) بل يعم ويشمل العقائد اُصولا وتفاصيلا طبقا للتصوير السابق ذكره. وعلم اصول الفقة هو الباحث عن معيار الحجة في استنباط الاحكام الشرعية وبالتالي يتدخل في العقائد. ويشهد لذلك ان المتكلمين “حتى ان القيصري في مقدمات شرح الفصوص بحث مفصلاً بالملائمة بين الكتاب والسنة والكشف. وهو بحث اصولي محض” عندما يتطرقون في بعض مسائلهم إلى كيفية الاحتجاج لحجة معينة يستعينون بما تم تصويره وتحريره في علم الاصول. بل ان صدر المتألهين مبتكر الحكمة المتعالية كثيرا ما يتعرض لمنهجة الملائمة بين الوحي والعقل ومتى يقدم كل واحد منها وما هو مدى كل منها.

[image] - مركز الأبحاث العقائدية  أصول الفقه والمنطق: من الضروري جداً بيان الفارق بين العلمين وأن لا تعارض بينهما، ولا يكون علم الاصول بديلاً عنه بل يظل علم المنطق هو الباحث عن حجية الادلة العقلية فقط ويعتبر اصولا للفلسفة ويمكن التمييز بينهما.

أ ـ ان علم الاصول يبحث عن منهجة المعارف القلبية.

ب ـ إن في علم المنطق لا يبحث عن اساس حجية الدليل العقلي من حيث المواد وإنما يوصلها إلى البداهة أو اليقين، بينما يبحث عنه في علم الاصول.

ج ـ في المنطق لايبحث إلا عن الدليل العقلي بينما في الاصول يبحث عن الملائمة بين العقل والنقل والكشف.

 

٣٦

والحاصل أن كلا من العلمين يبحث عن الحجية حتى أن علم المنطق يشتمل على صناعة كل من البرهان والجدل والثاني فيه حيثية الالزام فيقترب من علم الأصول وإن كانت حيثيته ليست للخصومة، إلا أن بينهما فوارق، ومن ثم أضحى علم الاصول منطقاً للعلوم الدينية وللمعرفة الدينية.فعلم الأصول له دخالة في كل معرفة دينية وعملية استنباط يسعى اليها الإنسان لاستكشاف المجهول.

ـ ثم اننا عندما نذكر تقدم علم على آخر لا نلتزم بذلك مطلقا، بل نقول أن من المتسالم عليه هو قاعدة التعاون بين العلوم فقد يكون علم مقدما على آخر من حيثية، ويكون العلم الثاني مقدما على الأول من حيثية اُخرى.

٢ ـ وان اريد بالاصول القواعد الفقهية وهو المعنى الثاني فيعتبر علم الفلسفة هو اصول العقائد – هكذا قيل -.

لكن الصحيح ان جميع القواعد العامة التي حررت في علم الكلام، وفي مقدمات التفسير، وروايات المعارف والبحث فيه كلها تكون اصلا لعلم العقائد.

ومن هنا نشأت مدارس مختلفة في ارساء وتحرير القواعد العامة التي يحتاج اليها الباحث في علم العقائد. وهي عديدة:-

منها مدرسة المشائين: والتي اعتمدت العقل كأساس لتفسير العقائد والايمان بها ولا يوجد منبعا آخر لا نقلا ولا كشفا، واساس هذه المدرسة الفلسفة اليونانية وتبناها منهم ارسطو.

ومنها مدرسة الاشراقيين: وهي أيضا متأثرة بالفلسفة اليونانية والتي ترى ان نيل المعارف الربوبية يكون عن طريق الاشراق والكشف الذي يتنزل إلى العقل. وبهذا تتميز هذه المدرسة عن المدرسة العرفانية اذ لاتشترط ان تتنزل المعارف القلبية على العقل، بينما تشترطه الأولى واشتهر قول شيخ الاشراق لولا العقل والقلب لما

٣٧

أمكن الوصول إلى هذه المعارف.ومنها المدرسة العرفانية: والتي ترى عجز العقل عن الوصول إلى المعارف العالية تماماً بل يصل الإنسان إلى المعارف عن طريق المجاهدات وتصفية القلب، فينجلي امامه المجهول وتنكشف امامه الحقائق.

ومنها مدرسة المتكلمين: الذين حاولوا الربط بين العقل والنقل، لكنه يركز فيه على ما ورد في الشريعة ويحاول بعدئذ اقامة الدليل العقلي عليه، ويحرص على موافقة الحكم المستنتج من العقل لما عليه الشرع.

ومنها مدرسة الحكمة المتعالية: وهي قمة ما وصل اليه متأخرو الفلاسفة وقد ظهرت من تحقيقات صدر المتألهين الذي حاول الجمع بين المدارس المختلفة لتظهر خلاصة تحقيقات المتقدمين، فوافق بين العقل والعرفان وجعل محورهما هو الوحي وحاول الملائمة بينها.

ومنها مدرسة المفسرين: حيث انها ترجع إلى ظواهر القرآن لاستلهام مجموعة من القواعد في المعارف الالهية.

ومنها مدرسة التفكيك: والتي ظهرت على يد الميرزا مهدي الأصفهاني حيث قامت بالتفكيك بين العقل المحدود والعقل اللامحدود وهو الوحي والاعتماد اساساً على القرآن.

ومنها مدرسة المحدثين: وهذه استقت معارفها الالهية من الاحاديث والروايات فحرروا مسائل كثيرة لم تذكرها المدارس السابقة وقد برز منها المجلسيان وصاحب الوسائل(قدس سرهما)وصاحب تفسير البرهان…

فهذه المدارس كلها وغيرها مما ظهر وانتشر كان هدفها ابتكار ارفع الأساليب وأسلم المناهج للوصول إلى المعارف الإلهية.

ولا يمكن القول بالاقتصار على لغة مدرسة منها والاكتفاء بها بل كل مدرسة

٣٨

امتازت بقواعد حررتها لم تهتد اليها المدرسة الاخرى، فاذا كان المراد من الاصل هو المعنى الثاني فيجب ان تشمل الدراسة كل القواعد التي دونت دون الاقتصار على بعض منها في سبيل الوصول إلى معارف الوحي. 

٣٩

المبحث الأول

 

حجية الكتاب الكريم

من بديهيات الفكر الإسلامي حجية الكتاب وأنّه المعجزة الخالدة وخاتم الرسالات الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وقد أسهب الاصوليون في هذا البحث ورد الشبهات ومناقشة الاخباريين وغيرهم ممن فصل في حجيته فلا نعيد الكلام فيه وانما نتعرض إلى نقطتين:

١ ـ نظرية تفسير القرآن بالقران والتي نادى بها العامة وبعض الخاصة، وآخرهم العلامة الطباطبائي.

٢ ـ كيفية الملائمة بين حجية الكتاب والسنة والعقل.

اما النقطة الاولى: تفسير القرآن بالقران..

وتعتبر هذه النظرية في الطرف المقابل لنظرية المحدثين والتي تقضي بعدم امكان التفيسر إلا بالرجوع إلى الروايات والاحاديث.

اما العلامة الطباطبائي فانه يرى ان القرآن فيه بيان كل شيء، وفي تفسير كل آية يجب الرجوع إلى الآيات الأخرى التي توضح المراد والمقصود، فمثلا قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}(١) يشتبه المراد من كيفية الاستواء لكن اذا رجع إلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}(٢) علم ان المراد من الاستواء هو التسلط

 

١- طه ٥.٢- الشورى ١١.

 

 

شاهد أيضاً

مكيال المكارم في فوائد الدعاء للقائم 19

إحياء دين الله وإعلاء كلمة الله في دعاء الندبة: أين محيي معالم الدين وأهله. وفي ...