الإحتجاج (ج1) / الصفحات: ٢٨١ – ٣٠٠
فإن قال قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
ورابعهم موسى عليه السلام حيث قال: ” ففررت منكم لما خفتكم (١) ” فإن قالقائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
وخامسهم أخوه هارون حيث قال: ” يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوايقتلونني (٢) ” فإن قال قائل: إنه قال هذا لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذروسادسهم أخي محمد خير البشر صلى الله عليه وآله حيث ذهب إلى الغار ونومني على فراشهفإن قال قائل: إنه ذهب إلى الغار لغير خوف فقد كفر، وإلا فالوصي أعذر.
فقام إليه الناس بأجمعهم فقالوا: يا أمير المؤمنين قد علمنا أن القول قولكونحن المذنبون التائبون، وقد عذرك الله.
وعن إسحاق بن موسى (٣) أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمدعن آبائه عليهم السلام قال: خطب أمير المؤمنين عليه السلام خطبة بالكوفة فلما كان في آخركلامه قال: ألا وإني لأولى الناس بالناس وما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآلهفقام إليه أشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين لم تخطبنا خطبة منذ قدمتالعراق إلا وقلت: ” والله إني لأولى الناس بالناس فما زلت مظلوما منذ قبض رسولالله ” ولما ولي تيم (٤) وعدي (٥) إلا ضربت بسيفك دون ظلامتك؟
فقال أمير المؤمنين: يا بن الخمارة قد قلت قولا فاسمع مني والله ما منعنيمن ذلك إلا عهد أخي رسول الله صلى الله عليه وآله أخبرني وقال لي: ” يا أبا الحسن إن الأمةستغدر بك وتنقض عهدي، وإنك مني بمنزلة هارون من موسى ” فقلت يا رسول اللهفما تعهد إلي إذا كان ذلك كذلك، فقال: ” إن وجدت أعوانا فبادر إليهم وجاهدهم
(١) الشعراء: – ٢١
(٢) الأعراف: – ١٥٠
(٣) إسحاق بن موسى: عده الشيخ في أصحاب الإمام الرضا ” ع ” وكان يلقببالأمين كما في عمدة الطالب وتوفي سنة ” ٢٤٠ ” كما في منتهى الآمال للشيخ عباس القمي.
(٤) تيم: في قريش رهط أبي بكر وهو تيم بن مرة.
(٥) عدي: قبيلة من قريش وهم رهط عمر بن الخطاب.
وإن لم تجد أعوانا فكف يدك واحقن دمك حتى تلحق بي مظلوما ” فلما توفيرسول الله صلى الله عليه وآله اشتغلت بدفنه والفراغ من شأنه ثم آليت يمينا (١) أني لا أرتديإلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت، ثم أخذته وجئت به فأعرضته عليهم قالوا:
لا حاجة لنا به، ثم أخذت بيد فاطمة، وابني الحسن والحسين، ثم درت على أهلبدر، وأهل السابقة، فأنشدتهم حقي، ودعوتهم إلى نصرتي، فما أجابني منهم إلاأربعة رهط: سلمان، وعمار والمقداد، وأبو ذر، وذهب من كنت أعتضد بهم علىدين الله من أهل بيتي، وبقيت بين حفيرين قريبي العهد بجاهلية عقيل والعباس.
فقال له الأشعث: كذلك كان عثمان لما لم يجد أعوانا كف يده حتى قتل.
فقال له أمير المؤمنين: يا بن الخمارة ليس كما قست، إن عثمان جلس في غيرمجلسه، وارتدى بغير ردائه، صارع الحق، فصرعه ألحق، والذي بعث محمدا بالحقلو وجدت يوم بويع أخو تيم أربعين رهط لجاهدتهم في الله إلى أن أبلي عذري ثم قال:
أيها الناس إن الأشعث لا يزن عند الله جناح بعوضة، وإنه أقل في دين اللهمن عفطة عنز (٢).
وروى جماعة من أهل النقل من طرق مختلفة عن ابن عباس قال: كنتعند أمير المؤمنين بالرحبة (٣) فذكرت الخلافة وتقدم من تقدم عليه
(١) آليت: أقسمت.
(٢) العفطة من الشاة: كالعطس من الإنسان.
(٣) تجد هذه الخطبة في ج ١ من نهج البلاغة ص ٢٥ وهي الخطبة المعروفةب ” الشقشقية ” لقوله ” ع ” في جواب ابن عباس: ” هيهات هيهات تلك شقشقة هدرتثم قرت ” وتعرف أيضا ” بالمقمصة ” لقوله عليه السلام: ” أما والله لقد تقمصها ابنأبي قحافة ” تسمية للشئ بأشهر ألفاظه كما هو الحال في أسماء سور القرآن الكريم كسورةآل عمران، والرحمن، والواقعة، ويس وغيرها.
وهذه الخطبة الجليلة في حسن أسلوبها، وبديع نظمها، وفصاحة ألفاظها، دليللا يقبل التردد، ولا يتطرق إليه الشك في كونها صادرة عن مركز الثقل الإلهي، ومعدن
=>
فتنفس الصعداء (١) ثم قال:
أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة (٢) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب
<=
الوصاية والإمامة، فهي حقا كما قيل: ” فوق كلام المخلوق دون كلام الخالق “وقد رواها الشيخ المفيد في الإرشاد ص ١٣٧ وقال ابن أبي الحديد في شرحه علىالنهج ص ٦٩ ج ١: حدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ” ٦٠٣ “قال: قرأت على الشيخ أبي محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة.
إلى أن قال: فقلت له: أتقول إنها منحولة؟ فقال: لا والله، وإني لأعلم: صدورهامنه كما أعلم: أنك ” مصدق ” قال: فقلت له: إن كثيرا من الناس يقولون: إنها منكلام الرضي رحمة الله تعالى فقال: أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب؟
قد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذاالكلام في ” خل ولا خمر “ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضيبمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف من هو من العلماء وأهلالأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد ولد الرضي قلت: وقد وجدت أنا كثيرا من هذهالخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولةالمقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة، ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفرابن قبة أحد متكلمي الإمامية، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب ” الإنصاف “وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلكالعصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا.
(١) تنفس الصعداء – بضم الصاد وفتح المهملتين -: المدفوع من التنفس يصعدهالمتلهف الحزين.
(٢) ابن أبي قحافة أبو بكر واسمه عبد الله وفي الجاهلية عتيق واسم أبيه عثمانوالضمير في تقمصها عائد إلى الخلافة وإنما لم يذكرها للعلم بها وتقمصها جعلها مشتملةعليه كالقميص كناية عن تلبسه بها.
من الرحى (١) ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير، فسدلت ودونها ثوبا (٢)وطويت عنها كشحا (٣) وطفقت أرتأي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخيةعمياء (٤)، يشيب فيها الصغير، ويهرم فيها الكبير، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقىربه (٥)، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (٦)، فصبرت وفي العين قذى،
(١) قطب الرحا مسمارها الذي عليه تدور فكما أن الرحى لا تدور إلا على القطبوبغيره لا يستقيم لها دوران، فكذلك الخلافة محله منها محل القطب من الرحى: لا تستقيمحركتها ولا تأخذ استقامتها بغيره وهو وحده القادر على تدبير شؤونها وإدارتها حسبالمصلحة العامة ووفق الخطة الإلهية الحكيمة.
(٢) سدلت: أرخيت. كناية عن إعراضه عنها، واحتجابه عن طلبها.
(٣) الكشح: ما بين الخاصرة والجنب. أنزل الخلافة منزلة المأكول الذي منعنفسه عنه، فلم يشتمل عليه كشحه.
(٤) طفقت: جعلت، وأخذت، وشرعت، وأرتأي أفكر طلبا للرأي الصائبوصال: حمل نفسه على الأمر بقوة. والطخية: قطعة من الغيم.
أي: جعلت أدير الفكر وأجيله في أمر الخلافة، وأردده في طرفي نقيض إما أنأشهر السيف وأصول على الغاصبين للخلافة، والمعتدين على حقي، أو أترك وأصبر، وفيكلا الحالين خطر فإما القيام والثورة فبيد مقطوعة من غير ناصر ولا معين، وإما الثانيفلما يؤول إليه الحال: من اختلاط الأمور، وعدم انتظام الحياة، والتمييز بين الحقوالباطل، فكما أن الظلمة والعمى لا يهتدي معهما للتمييز بين الأشياء، فكذلك اضطرابالهيئة الاجتماعية، وتشابك المشاكل وازدحامها لا يهتدي معه لوجه الحق.
(٥) الهرم: شدة كبر السن. والكدح: سعي المجهودوتلك الشدة، وذلك الاضطراب، وهاتيك الأحوال المظلمة وطول مدتها أدت إلىأن: يهرم فيها الكبير، ويشيب الصغير، ويتعب المؤمن في تمييز الحقائق وتمحيصهاوما يبذله من جهد في سبيل الدفاع عن الحق حتى يلقى ربه.
(٦) هاتا: هذه وأحجى أقرب للحجى وهو العقل.
فرأيت الصبر على هذه الحال وترك المقاومة أقرب للعقل، وألصق بنظام الإسلام
=>
وفي الحلق شجا (١) أرى تراثي نهبا (٢) حتى إذا مضى الأول لسبيله فأدلىبها إلى عمر من بعده، فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعدوفاته (٣)، لشد ما تشطرا ضرعيها (٤)، ثم تمثل بقول الأعشى (٥)،
فصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها، ويغلظ كلمها (٦)،
<=
وأحفظ لبيضته سيما وهو بعد غض لم ترسخ له قدم في نفوس أتباعه، والثورة في هذهالحال ربما تؤدي إلى خلاف الغرض، وتعكس النتيجة، وتكون سببا للردة، والرجوععن الدين، فترك المقاومة أحجى وأضمن لسلامة الإسلام، وتحمل الشر الحادث منجراء ذلك أهون.
(١) القذى: الرمد. والشجا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه.
أي صبرت ولكن على مضض كما يصبر الأرمد وهو يحس بوجع العين، وكما يصبرمن غص بشئ فهو يكابد الخنق.
(٢) يريد بتراثه: الخلافة.
(٣) أدلى بها: ألقى بها إليه. والإقالة: فك العهد والاستقالة: طلب ذلك.
أشار بقوله عليه السلام: ” يستقيلها ” إلى قول أبي بكر: أقيلوني لست بخيركم “
(٤) شد الأمر: صعب وعظم. وتشطرا: اقتسما. والضرع: للحيواناتمثل الثدي للمرأة.
(٥) هو أعشى قيس واسمه ميمون بن جندل من بني قيس من قصيدة أولها:
(٦) الكلم: الجرح.
كني عن طباع عمر بن الخطاب ” بالناحية الخشناء ” لأنه كان يوصف بالجفاوةوسرعة الغضب، وغلظ الكلام، حتى روي أنه أمر أن يؤتى بامرأة لحال اقتضت ذلك- وكانت حاملا – فلما دخلت عليه أجهزت جنينا لما شاهدته من غلظ طبيعة أبي حفصوظهور القوة الغضبية على قسمات وجهه وشدته في الكلام، وذلك ما أراده أمير المؤمنينمن قوله ” في ناحية خشناء ” ثم إنه عليه السلام وصف تلك الطبيعة بوصفين:
=>
ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها (١)، فصاحبها كراكب الصعبة إن أشنق لهاخرم، وإن أسلس لها تقحم (٢)، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلونواعتراض (٣)، فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة! حتى إذا مضى لسبيله،
<=
أحدهما: غلظ المواجهة بالكلام وقد قيل: جرح اللسان أشد من وخز السنان.
وثانيهما: جفاوة المس المانعة من ميل الطباع إليه.
(١) عثر: إذا أصابت رجله حجر أو نحوه.
فيه إشارة إلى ما كان عليه عمر بن الخطاب من التسرع في إصدار الأحكام غيرالصائبة كأمره برجم المرأة الحامل وطلاق الحائض، وغيرها من الأمور التي كانتتدعوه للاعتذار بعد أن يتبين له الخطأ بإرشاد أمير المؤمنين عليه السلام، وقد تكرر قوله:
” لولا على لهلك عمر ” و (لا كنت لمعضلة ليس لها أبو الحسن) و (لا عشت لمعضلةلا تكون لها يا أبا الحسن).
(٢) الصعبة من الإبل: الغير المذللة. وأشنق لها بالزمام: إذا جذبه إلى نفسهوهو راكب ليمسكها عن الحركة العنيفة. والخرم الشق. وأسلس لها: أرخى لها. وتقحم فيالأمر: ألقى نفسه فيه بقوة. فصاحبها أي: صاحب تلك الطباع الخشنة مثله – وهويتولى شؤون الرعية وتدبير أمورهم – كمثل راكب الناقة الصعبة التي لم تذلل، فهو بينخطرين أن جذبها إليه شق أنفها، وإن أرخى لها القياد ألقت به في المهالك والناقة الصعبةهي الرعية لأنها لم تألفه وتنفر من طباعه فلا تسقيم له بحال. أو يكون المراد بالناقةالصعبة هو صاحب تلك الطباع، وحينئذ يكون المقصود من قوله (ع) إن أشنق لهاخرم، وإن أسلس لها تقحم إن الذي يريد إصلاح صاحب تلك الطباع واقع بين خطرينفإن أنكر عليه وقع الانشقاق والاختلاف بينهما، وإن تكره وشأنه أدى به الأمرإلى الإخلال بالواجب.
ووجه ثالث يمكن أن يكون المقصود بالناقة الخلافة فإذا استرجعها بالقوة شق عصاالمسلمين وأوقع الخلاف في صفوفهم مما يؤدي بالنتيجة إلى الردة. وإن تركها وسكتعنها، سارت في غير اتجاهها فهو منها بين خطرين.
(٣) مني الناس: ابتلوا. والخبط الحركة على غير استقامة، والشماس – بكسر
=>
فجعلها شور في جماعة زعم أني أحدهم (١) فيا لله وللشورى، متى اعترض الريبفي مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفوا،وطرت إذ طاروا (٢)، فصبرت على طول المحنة، وانقضاء المدة، فمال رجل منهملضغنه، وصغى الآخر لصهره، مع هن وهن (٣)
<=
الشين – كثرة النفار والاضطراب. والتلون: اختلاف الأحوال. والاعتراض ضربمن التلون وأصله المشي في عرض الطريق.
(١) خلاصة حديث الشورى: إن عمر بن الخطاب لما طعنه أبو لؤلؤة وأيقنبالموت دعا وجوه الصحابة، وعرض عليهم موضوع الخلافة، وأشير فيما أشير عليه بابنهعبد الله فقال: لا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل، حسب عمر مااحتقب، لا أتحملها حيا وميتا، ثم قال: إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة(على، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف)فأما سعد فلا يمنعني منه إلا عنفه وفضاضته، وأما من عبد الرحمن فلأنه قارون هذه الأمةوأما من طلحة فتكبره ونخوته، وأما من الزبير فشحه، ولقد رأيته بالبقيع يقاتل علىصاع من شعير، ولا يصلح لهذا الأمر إلا رجل واسع الصدر وأما من عثمان فحبه لقومهوعصبيته لهم، وأما من علي فحرصه على هذا الأمر ودعابة فيه. ثم قال: يصلي صهيب بالناسثلاثة أيام، وتخلوا الستة نفر في البيت ثلاثة أيام ليتفقوا على رجل منهم، فإن استقامأمر خمسة وأبى رجل فاقتلوه، وإن استقر أمر ثلاثة وأبى ثلاثة فكونوا مع الثلاثة الذينفيهم عبد الرحمن بن عوف.
(٢) أسف الطائر: إذا دنى من الأرض في طيرانه.
(٣) صغا: مال. والضغن: الحقد. والهن: على وزن أخ كناية عن شئ قبيحالذي مال لحقده هو: سعد بن أبي وقاص. والذي مال لصهره عبد الرحمن بن عوفحيث مال إلى عثمان لمصاهرة بينهما.
وروى الشيخ المفيد في الإرشاد عن جيش الكناني قال: لما صفق عبد الرحمن علىيد عثمان بالبيعة في يوم الدار قال له أمير المؤمنين ” ع “: حركك الصهر وبعثك على ماصنعت، والله ما أملت منه إلا ما أمل صاحبك من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم
=>
فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وفسق آخرون (١)، كأنهملم يسمعوا الله سبحانه وتعالى يقول: ” تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدونعلوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين (٢) ” بلى والله لقد سمعوها ووعوها،ولكن حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها (٣).
أما والذي فلق الحبة وبرئ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجةبوجود الناصر، وما أخذ الله على أولياء الأمر: أن لا يقروا على كظة ظالم، ولاسغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتمدنياكم عندي أهون من عفطة عنز.
قال: فقام إليه رجل من أهل السواد فناوله كتابا فقطع كلامه، فأقبلينظر إليه فرغ من قرائته، قال ابن عباس: قلت له: يا أمير المؤمنين لوأطردت مقالتك من حيث أفضيتها.
قال: يا بن عباس هيهات هيهات تلك شقشقة هدرت ثم قرت.
قال ابن عباس: فما أسفت على شئ ولا تفجعت كتفجعي على ما فاتني منكلام أمير المؤمنين عليه السلام.
وأمثال هذه الأخبار من كلام أمير المؤمنين عليه السلام كثيرة، أوردنا طرفامنها للإيجاز والاختصار.
ومما يوضح ما أثبتناه ما روي عن أم سلمة زوجة رسول الله صلى الله عليه وآله أنها قالت:
كنا عند رسول الله تسع نسوة، وكانت ليلتي ويومي من رسول الله صلى الله عليه وآلهفأتيت الباب فقلت أدخل يا رسول الله صلى عليه وآله؟ فقال: لا.
(١) مروق السهم: خروجه من الرمية.
المراد بالناكثين للبيعة هم: طلحة والزبير بايعوا ثم نكثوا البيعة. والمارقين هم:
الخوارج والقاسطين أصحاب معاوية.
(٢) القصص: ٨٣
(٣) الزبرج – بكسر الزاء والراء -: الزينة.
قالت: فكبوت كبوة شديدة، مخافة أن يكون ردني من سخط أو نزلفي شئ من السماء، ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثانية فقلت أدخل يا رسول الله صلى الله عليه وآلهفقال: لا. فكبوت كبوة أشد من الأولى.
ثم لم ألبث أن أتيت الباب ثالثة فقلت: أدخل يا رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقالادخلي يا أم سلمة، فدخلت وعلي جاث بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمييا رسول الله صلى الله عليه وآله إذا كان كذا وكذا فما تأمرني فقال: آمرك بالصبر، ثم أعادعليه القول ثانية، فأمره بالصبر، ثم أعاد عليه القول ثالثة فأمره بالصبر، ثمأعاد عليه القول رابعة فقال له: يا علي يا أخي إذا كان ذلك منهم فسل سيفك وضعهعلى عاتقك، واضرب به قدما حتى تلقاني وسيفك شاهر يقطر من دمائهم.
ثم التفت إلي وقال: ما هذه الكآبة يا أم سلمة، قلت: للذي كان من ردكإياي يا رسول الله، فقال لي والله ما رددتك إلا لشئ خبرت من الله ورسوله، لكنأتيتيني وجبرئيل يخبرني بالأحداث التي تكون من بعدي، وأمرني أن أوصيبذلك عليا، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبي طالب عليه السلام وزيريفي الدنيا، ووزيري في الآخرة، يا أم سلمة اسمعي واشهدي، هذا علي بن أبيطالب، وصيي، وخليفتي من بعدي، وقاضي عداتي، والذائد عن حوضي، اسمعيواشهدي، هذا علي بن أبي طالب، سيد المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغرالمحجلين، قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، قلت: يا رسول الله من الناكثونقال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون بالبصرة قلت: من القاسطون؟ قال: معاويةوأصحابه من أهل الشام قلت: من المارقون؟ قال: أصحاب نهروان.
وروي أن أمير المؤمنين (ع) قال في أثناء خطبة خطبها بعد فتح البصرة بأيام:
حاكيا عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله. يا علي إنك باق بعدي، ومبتلى بأمتيومخاصم بين يدي الله، فأعدد للخصومة جوابا، فقلت: بأبي وأمي أنت بين لي ماهذه الفتنة التي ابتلى بها؟ وعلى ما أجاهد بعدك؟ فقال: لي إنك ستقاتل بعدي
الناكثة، والقاسطة، والمارقة، وحلاهم وسماهم رجلا رجلا، وتجاهد من أمتيكل من خالف القرآن وسنتي، ممن يعمل في الدين بالرأي، ولا رأي في الدينإنما هو أمر الرب ونهيه، فقلت: يا رسول الله فأرشدني إلى الفلح عند الخصومة يومالقيامة، فقال: نعم. إذا كان ذلك كذلك فاقتصر على الهدى، إذا قومك عطفواالهدى على الهوى، وعطفوا القرآن على الرأي، فتأولوه برأيهم بتتبع الحجج منالقرآن لمشتهيات الأشياء الطارية عند الطمأنينة إلى الدنيا، فاعطف أنت الرأي علىالقرآن، وإذا قومك حرفوا الكلمة عند مواضعه عند الأهوال الساهية، والأمراءالطامحة، والقادة الناكثة، والفرقة القاسطة، والأخرى المارقة أهل الإفك المرديوالهوى المطغي، والشبهة الخالفة، فلا تنكلن عن فضل العاقبة، فإن العاقبة للمتقين.
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما نزلت: ” يا أيها النبي جاهد الكفاروالمنافقين الخ (١) ” قال النبي صلى الله عليه وآله: لأجاهدن العمالقة، يعني الكفار والمنافقينفأتاه جبرئيل فقال: أنت أو علي عليه السلام.
وعن جابر بن عبد الله الأنصاري: (٢) قال: إني كنت لأدناهم من رسول
(١) التوبة – ٧٣.
(٢) جابر بن عبد الله من أصحاب رسول الله ” ص ” شهد بدرا وأدرك الإماممحمد الباقر عليه السلام، وبلغه سلام رسول الله ” ص “، وكان من السابقين الذين رجعواإلى أمير المؤمنين عليه السلام وممن انقطع لأهل البيت.
روي عن أبي عبد الله ” ع ” أنه قال: إن جابر بن عبد الله كان آخر من بقي منأصحاب رسول الله ” ص “، وكان رجلا منقطعا إلينا أهل البيت، وكان يقعد في مسجدرسول الله ” ص ” وهو معتم بعمامة سوداء، وكان ينادي يا باقر العلم، يا باقر العلم وكانأهل المدينة يقولون: جابر يهجر فكان يقول لا والله لا أهجر ولكني سمعت رسولالله ” ص ” يقول: ” إنك ستدرك رجلا من أهل بيتي، اسمه اسمي، وشمائله شمائلي،يبقر العلم بقرا ” فذاك الذي دعاني إلى ما أقول.
رجال العلامة ص ٣٤ رجال الكشي ص ٤٢ – ٤٥
الله صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بمنى فقال: لأعرفنكم ترجعون بعدي كفارا يضرببعضكم رقاب بعض، وأيم الله لو فعلتموها لتعرفنني في الكتيبة التي تضاربكم، ثمالتفت إلى خلفه، فقال، أو علي، أو علي، أو علي، ثلاث مرات، فرأينا على أثرذلك أن جبرئيل عليه السلام غمزه، فأنزل الله تعالى على أثر ذلك: ” فإما تذهبن بكفإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدنا هم فإنا عليهم مقتدرون (١) “.
وعن ابن عباس: أن عليا عليه السلام كان يقول – في حياة رسول الله – إن اللهيقول: ” وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم علىأعقابكم (٢) ” والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله والله، لئن مات أو قتللأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت، لأني أخوه وابن عمه، ووارثه، فمنأحق به مني.
وعن أحمد بن همام (٣) قال: أتيت عبادة بن الصامت في ولاية أبي بكر،فقلت: يا عبادة أكان الناس على تفضيل أبي بكر قبل أن يستخلف، فقال: يا أباثعلبة إذا سكتنا عنكم فاسكتوا، ولا تبحثونا، فوالله لعلي بن أبي طالب كان أحقبالخلافة من أبي بكر، كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله أحق بالنبوة من أبي جهل،قال: وأزيدكم إنا كنا ذات يوم عند رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء علي عليه السلام، وأبو بكروعمر إلى باب رسول الله صلى الله عليه وآله، فدخل أبو بكر، ثم دخل عمر، ثم دخل علي عليه السلامعلى أثرهما، فكأنما سفي على وجه رسول الله الرماد، ثم قال: يا علي أيتقدمانكهذان، وقد أمرك الله عليهما، فقال أبو بكر: نسيت يا رسول الله، وقال عمر:
سهوت يا رسول الله، فقال رسول: ما نسيتما ولا سهوتما، وكأني بكما قد سلبتماهملكه، وتحاربتما عليه، وأعانكما على ذلك أعداء الله، وأعداء رسوله، وكأنيبكما قد تركتما المهاجرين والأنصار يضرب بعضهم وجوه بعض بالسيف على الدنياولكأني بأهل بيتي وهم المقهورون المشتتون في أقطارها، وذلك لأمر قد قضي،
(١) الزخرف – ٤١.
(٢) آل عمران – ١٤٤
(٣) لم أعثر على ترجمته في كتب الرجال.
ثم بكى رسول الله صلى الله عليه وآله حتى سالت دموعه، ثم قال: يا علي الصبر الصبر حتىينزل الأمر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فإن لك من الأجر في كليوم ما لا يحصيه كاتباك، فإذا أمكنك الأمر: فالسيف السيف، القتل القتل، حتىيفيئوا إلى أمر الله، وأمر رسوله، فإنك على الحق ومن ناواك على الباطل، وكذلكذريتك من بعدك إلى يوم القيامة.
وعن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن أبيه عن آبائه عن علي عليه السلام قال: كنتأنا ورسول الله صلى الله عليه وآله في المسجد بعد أن صلى الفجر، ثم نهض ونهضت معه، وكانرسول الله صلى الله عليه وآله إذا أراد أن يتجه إلى موضع أعلمني بذلك، وكان إذا أبطأ فيذلك الموضع صرت إليه لأعرف خبره، لأنه لا يتصابر قلبي على فراقه ساعة واحدةفقال لي: أنا متجه إلى بيت عائشة، فمضى صلى الله عليه وآله ومضيت إلى بيت فاطمة الزهراء عليها السلامفلم أزل مع الحسن والحسين فأنا وهي مسروران بهما، ثم إني نهضت وسرت إلىباب عائشة، فطرقت الباب فقالت: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبيراقد، فانصرفت، ثم قلت: النبي راقد وعائشة في الدار، فرجعت وطرقت البابفقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجةفانثنيت مستحييا من دق الباب، ووجدت في صدري ما لا أستطيع عليه صبرا، فرجعتمسرعا فدققت الباب دقا عنيفا، فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي فسمعترسول الله صلى الله عليه وآله يقول: يا عائشة افتحي له الباب، ففتحت ودخلت، فقال لي:
أقعد يا أبا الحسن أحدثك بما أنا فيه، أو تحدثني بإبطائك عني، فقلت يا رسولالله حدثني فإن حديثك أحسن، فقال: يا أبا الحسن كنت في أمر كتمته من ألمالجوع، فلما دخلت بيت عائشة، وأطلت القعود ليس عندها شئ تأتي به، فمددتيدي وسألت الله القريب المجيب، فهبط علي حبيبي جبرئيل عليه السلام ومعه هذا الطيرووضع إصبعه على طائر بين يديه، فقال: إن الله عز وجل أوحى إلي: أن آخذهذا الطير وهو أطيب طعام في الجنة فآتيك به يا محمد، فحمدت الله عز وجل كثيرا،وعرج جبرئيل فرفعت يدي إلى السماء فقلت: ” اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني
يأكل معي من هذا الطير ” فمكثت مليا فلم أر أحدا يطرق الباب، فرفعت يديثم قلت: ” اللهم يسر عبدا يحبك ويحبني وتحبه وأحبه يأكل معي من هذا الطير “فسمعت طرق الباب وارتفاع صوتك، فقلت لعائشة: أدخلي عليا فدخلت، فلمأزل حامدا لله حتى بلغت إلي إذ كنت تحب الله وتحبني ويحبك الله وأحبك،فكل يا علي، فلما أكلت أنا والنبي الطائر، قال لي: يا علي حدثني فقلت: يا رسولالله لم أزل منذ فارقتك أنا وفاطمة والحسن والحسين مسرورين جميعا، ثم نهضتأريدك فجئت فطرقت الباب فقالت لي عائشة: من هذا؟ فقلت: أنا علي فقالت:
إن النبي راقد، فانصرفت، فلما أن صرت إلى بعض الطريق الذي سلكته رجعت.
فقلت: النبي صلى الله عليه وآله راقد وعائشة في الدار لا يكون هذا، فجئت فطرقت الباب فقالت:
لي من هذا؟ فقلت لها: أنا علي فقالت: إن النبي صلى الله عليه وآله على حاجة فانصرفتمستحييا، فلما انتهيت إلى الموضع الذي رجعت منه أول مرة، وجدت في قلبي مالا أستطيع عليه صبرا وقلت: النبي صلى الله عليه وآله على حاجة وعائشة في الدار، فرجعتفدققت الباب الدق الذي سمعته، فسمعتك يا رسول الله وأنت تقول لها: ادخلي عليافقال النبي: صلى الله عليه وآله أبى الله إلا أن يكون الأمر هكذا، يا حميراء ما حملك علىهذا؟ قالت: يا رسول الله اشتهيت أن يكون أبي يأكل من هذا الطير فقال لها:
ما هو بأول ضغن بينك وبين علي، وقد وقفت لعلي – إن شاء الله – لتقاتلنه.
فقالت: يا رسول الله وتكون النساء يقاتلن الرجال؟
فقال لها: يا عائشة إنك لتقاتلين عليا، ويصحبك ويدعوك إلى هذا نفر منأهل بيتي وأصحابي، (١) فيحملونك عليه، وليكونن في قتالك له أمر يتحدث بهالأولون والآخرون، وعلامة ذلك أنك تركبين الشيطان، ثم تبتلين قبل أنتبلغي إلى الموضع الذي يقصد بك إليه، فتنبح عليك كلاب الحوأب، فتسألين
(١) يريد بأهل بيته المعنى العام لأهل بيت الرجل أي: أقاربه والمقصود هناهو: الزبير بن العوام، وليس المقصود من أهل البيت المعنى الخاص المقصور على الخمسةمن أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
الرجوع فتشهد عندك قسامة أربعين رجلا: ما هي كلاب الحوأب، فتنصرفين إلىبلد أهله أنصارك، (١) وهو أبعد بلاد على الأرض من السماء، وأقربها إلى الماءولترجعن وأنت صاغرة بالغة ما تريدين، ويكون هذا الذي يردك مع من يثق بهمن أصحابه، وإنه لك خير منك له، ولينذرنك بما يكون الفراق بيني وبينك فيالآخرة، وكل من فرق علي بيني وبينه بعد وفاتي ففراقه جائز.
فقالت يا رسول الله ليتني مت قبل أن يكون ما تعدني.
فقال لها: هيهات هيهات! والذي نفسي بيده ليكونن ما قلت، حق كأني أراهثم قال لي: قم يا علي فقد وجبت صلاة الظهر، حتى آمر بلالا بالأذانفأذن بلال وأقام وصلى وصليت معه ولم يزل في المسجد.
إحتجاجه عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عما لا يليق به منصفات المصنوعين من الجبر والتشبيه والرؤية والمجيئ والذهاب والتغييروالزوال والانتقال من حال إلى حال في أثناء خطبه ومجاري كلامه ومخاطباتهومحاوراته.
الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعمه العادون، ولا يؤديحقه المجتهدون (٢)
(١) وفي نسخة ” فتصيرين ” بدل تنصرفين.
(٢) الحمد هو: الثناء على الجميل من نعمة وغيرها. والبلوغ هو الوصول أوالمشارفة. والمدحة: فعلة من المدح وهي: ” الهيئة ” كالجلسة للجالس، والركبة للراكبوالاحصاء: إنها العدد والإحاطة بالمعدود والمجتهد: من اجتهد في الأمر إذا بذل وسعهوطاقته في طلبه.
في الجملة الأولى إشارة: إلى العجز عن القيام بالثناء عليه سبحانه كما يستحقه وكماهو أهله، وهي في معنى قول النبي ” ص “: ” لا أحصي ثناءا عليك أنت كما أثنيت على نفسك “وفي الجملة الثانية: اعتراف بالقصور عن القدرة على حصر أنعم الله على تعددها
=>
الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن، (١) الذي ليس لصفته حد محدودولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، (٢) فطر الخلايق بقدرته،ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، (٣) أول الدين معرفته،
<=
وكثرتها بحيث لا يحيط بها حصر الإنسان، وهذه الجملة مقتبسة من قوله تعالى: ” وإنتعدوا نعمة الله لا تحصوها “.
وفي الثالثة: اعتراف بالعجز عن أداء شكر المنعم، وأداء حقه اللازم على العبادمهما بذلوا من جهد، فكل حركة وسكون يصدران من الإنسان مستندان إلى وجوده تعالىوهي نعمة منه تعالى على عباده ولذا جاء في الأثر: أن موسى ” ع ” سأل ربه قائلا: ” يا ربكيف أشكرك وأنا لا أستطيع أن أشكر إلا بنعمة ثانية من نعمك ” فأوحى الله تعالىإليه: ” إذا عرفت هذا فقد شكرتني “.
(١) الهمم – جمع الهمة – وهي: العزم والجزم الثابت الذي لا يعتريه فتور.
والنيل: الإصابة. والفطن – جمع فطنة بالكسر – وهي: الحذق وجودة استعدادالذهن لتصور ما يرد عليه.
بعد الهمم علوها وتعلقها بالأمور. العالية أي: إن الهمم وإن علت وبعدت لا يمكنأن تدركه مهما حلقت في سماء المدارك العالية، كما أن الفطن الغائصة في بحار الأفكار هيالأخرى لا تصل إلى كنه حقيقته.
(٢) حد الشئ: منتهاه والنعت: الصفة والأجل: المدة المضروبة للشئ. أي ليسلصفاته الذاتية من القدرة: والاختيار، والعلم، والحياة، حد معين ينتهي إليه ويقفعنده كما هو الحال في الموجودات الممكنة فإنها جميعا لها حد تنقطع إليه وتقف عنده، كماأنها لا تنعت بنعوت موجودة أي: زائدة متغيرة، فعلمه مثلا لا ينعت: بالزيادة والنقصان- كما هو الحال بالنسبة لنا – وقدرته لا توصف بالقوة والضعف بل هو منزه عن كلهذه النعوت وصفاته عين ذاته، كما أنها أزلية فليس لها وقت معدود، وأبدية فليسلها أجل ممدود.
(٣) فطر: خلق. والنشر: البسط. ووتد – بالتخفيف والتشديد – ثبت.
والميدان – بفتح الميم والياء – الحركة.
=>
وكمال معرفته التصديق به، وكمال تصديقه توحيده، وكمال توحيده الإخلاص لهوكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، (١) لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف،وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنهفقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، (٢) ومن أشار إليه فقد حدهومن حده فقد عده، ومن قال: ” فيم؟ ” فقد ضمنه، ومن قال: ” على م؟ ” فقدأخلي منه، (٣) كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شئ لا بمزايلةفاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصير إذ لا منظور إليه من حلقه، متوحد إذ لا
<=
أي: سكن الأرض بعد اضطرابها وهي من قوله تعالى: ” وجعلنا الجبال أوتادا “وقوله: ” وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم “.
(١) أول الدين معرفته أي: إن معرفته سبحانه أساس الطاعة والعبادة، فما لم- يعرف لا يمكن أن يطاع، ولا تتم معرفته، ما لم يذعن العبد ويحكم: بوجوب وجودهولا يذعن ويحكم بوجوب وجوده، ما لم يؤمن ويحكم له بالوحدانية، وأنه لا شريك لهفي ذاته، لأن الواجب لا يتعدد، ثم إن كمال هذا التوحيد يكون بالاخلاص له، وهو: إما جعله خاليا عن النقائص وسلب الجسمية والعرضية وأمثالها عنه، أو الإخلاص لهبالعمل وكمال هذا الإخلاص هو: نفي الصفات الزائدة عنه تعالى فصفاته تعالى عين ذاته- علمه، وقدرته، وإرادته، وحياته، وسمعه، وبصره، كلها موجودة بوجود ذاتهالأحدية، وذاته جامعة ومستوعبة لها وهي عينها، وليست هي على كثرتها وتعدد معانيهاوتغاير مفهوماتها زائدة على الذات خارجة عنها.
(٢) أي: من وصف الله سبحانه بصفة زائدة على ذاته خارجة عنها، ” فقدقرنه ” بغيره في الوجود ومن ” قرنه ” بغيره فقد صيره ثانيا لقد يمين يصدق عليهما:
” واجب الوجود ” وحينئذ يكون قد ” جزأه ” لأن كل واحد من القديمين جزء لذلكالواجب، و ” من جزأه ” فقد ” جهله ” إذ جعله في عداد الممكنات، ولم يعرف الوجودالواجب فهو لا يتعدد ولا يتجزأ كما هو ثابت في علم الكلام.
(٣) ضمنه: جعله محتويا عليه وأخلي منه: جعله خاليا منه.
” ومن أشار إليه ” سواء بالإشارة العقلية كأن يجعل له حدا منطقيا مركبا من
=>
سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده (١) أنشأ الخلق إنشاءا: وابتدأه ابتداءابلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطربفيها، أحال الأشياء لأوقاتها، ولائم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها
<=
جنس وفصل، أو بالإشارة الحسية ” فقد حده ” وذلك أن كل مشار إليه لا بد أن يكونفي جهة ما، وكل ما هو في جهة فلا بد من أطراف وأقطار هي حدوده وينتهي عندهاو ” من ” فعل ذلك و ” حده ” ” فقد عده ” في عداد الممكنات. ومن قال ” فيم ” هوفقد جعله ضمن شئ ومن قال ” على م ” هو فقد جعله مستعل على شئ وغير مستعلعلى غير وحينئذ يكون قد ” أخلي منه ” ذلك الغير
(١) حدث الشئ: تجدد وجوده. والمزايلة: المفارقة. والسكن بفتحتين -:
ما يسكن إليه من أهل ومال.
هذه الفقرات كل منها مركبة من قضيتين، إحداهما موجبة، والأخرى سالبة،والفرق بين الفقرتين الأوليتين ” كائن لا عن حدث ” و ” موجود لا عن عدم ” إذيبدو أن معناهما واحد في نفيهما تجدد الوجود، هو: أن الفقرة الأولى تنفي تجدد الحدوثالزماني يعني أنه كائن منذ الأزل، والثانية تنفي التجدد الذاتي وتثبت وجوب وجوده” مع كل شئ لا بمقارنة ” كما أنه ” غير كل شئ ” ولكن ” لا بمزايلة ” ومفارقة،فالمقارنة والمفارقة من الصفات الجسمانية وذاته المقدسة منزهة عن الجسمانيات فهو معكل شئ بمعنى أنه عالم بكل شئ محيط به، شاهد عليه، غير غائب عنه، ولكن هذه المعيةوتلك الغيرية ليست كما هي بالنسبة لنا من المقارنة والمفارقة التي هي من خصائصالجسمية ولوازمها، وذاته المجردة لا تشبه شيئا من ذوات الموجودات الممكنة فهو ” فاعل “ولكن ” لا بمعنى الحركات والآلة ” ومن صيق الألفاظ نعبر عن صفاته القدسية بهذهالألفاظ المتعارفة بيننا، والتي نطلقها عليه كما نطلقها على سائر الممكنات، تعالى الله عنذلك علوا كبيرا، ” بصير ” منذ الأزل (إذ لا منظور إليه من خلقه) (متوحد) فيسلطانه وملكوته (إذ لا سكن يستأنس به) و (لا) أنيس (يستوحش لفقده) فالوحشةوالأنس من لوازم الطبيعة الحيوانية، وهو منزه عنها.
أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها (١)وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (٢)أول عبادة الله معرفته، وأصل معرفته توحيده، ونظام توحيده نفي الصفاتعنه، جل أن تحله الصفات بشهادة العقول: إن كل من حلته الصفات فهو مصنوعوشهادة العقول: أنه جل جلاله صانع ليس بمصنوع، بصنع الله يستدل عليه، وبالعقوليعتقد معرفته، وبالفكر تثبت حجته، جعل الخلق دليلا عليه، فكشف به ربوبيته،هو الواحد الفرد في أزليته، لا شريك له في إلهيته، ولا ند له في ربوبيته،بمضادته بين الأشياء المتضادة علم أن لا ضد له، وبمقارنته بين الأمور المقترنة
(١) نشأ الشئ: حدث وتجدد. والابتداء: بمعنى الإنشاء والروية: الفكروالتدبر، وأجال به: إذا أداره والتجربة: الاختبار. والهمامة: التردد. وأحالالأشياء: صرفها وحولها ولائم: أصلح والغريزة: الطبيعة. والأشباح: الإشخاصوالإحاطة: الاستدارة والشمول والأحناء – جمع الحنوة -: الجانب والناحية.
(أنشأ الخلق إنشاءا) من غير مادة (وابتدأهم ابتداءا) من دون مثال سبق (بلا رويةأجالها) ولا فكر أداره (ولا تجربة استفادها) ولا خبرة اكتسبها من قبل (ولاأحدثها) كالحركة الحادثة لنا إذا أردنا فعل شئ ما (ولا همامة نفس اضطرب فيها)كما تتردد نفوسنا وتضطرب فكل هذه الأمور من لوازم الجسمية تقدست ذاته عنها (أحالالأشياء) ونقلها وصرفها حسب مقتضيات الحكمة والمصلحة (لأوقاتها) للقضاء والقدروأصلح و (لائم بين) ما كان من عالم الغيب، كالأرواح المجردة، وما كان من عالم الشهودكالأجسام المركبة، وغير ذلك من (مختلفاتها) كتوفيقه بين سائر العناصر (وغرز)للأشياء (غرائزها) ثم خص كل جنس أو نوع بغرائزه الخاصة به (وألزمها أشباحها)وأشخاصها (عالما بها قبل ابتدائها) كما هو عالم بها بعد إيجادها من غير فرق بين الحالين(محيطا بحدودها وانتهائها) شاملا بقدرته وعلمه جميع أطرافها.
(٢) إرشاد الشيخ المفيد ” قده ” أبو الحسن الهذلي عن الزهري وعيسى بن زيدعن صالح بن كيسان عن أمير المؤمنين ” ع ” قال – في الحث على معرفة الله -: أولعبادة الله معرفته.. الخ.
علم أن لا قرين له.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى:
دليله آياته، ووجوده إثباته، ومعرفته توحيده، وتوحيده تمييزه من خلقهوحكم التمييز بينونة صفة لا بينونة عزلة، إنه رب خالق غير مربوب مخلوق،كل ما تصور فهو بخلافه.
ثم قال – بعد ذلك -:
ليس بآله من عرف بنفسه هو الدال بالدليل عليه، والمؤدي بالمعرفة إليه.
وقال عليه السلام في خطبة أخرى: (١).
لا يشمل بحد، ولا يحسب بعد، وإنما تحد الأدوات أنفسها، وتشير الآلاتإلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، وحمتها قد الأزلية، وجنبتها لولا التكملة، بهاتجلى صانعها للعقول، وبها امتنع عن نظر العيون (٢) لا تجري عليه الحركة
(١) تجد هذه الخطبة الجليلة – التي هي حقا من معجزات أمير المؤمنين ” ع “ولو لم تكن له معجزة سواها لكفى، كما لو لم يكن لرسول الله ” ص ” معجزة سوا أميرالمؤمنين ” ع ” لكفى – في ج ٢ ص ١٤٢ من نهج البلاغة قال السيد الرضي ” قدس سره “” وتجمع هذه الخطبة من أصول العلوم ما لا تجمعه خطبة ” وأولها كما هي مثبتة في النهج:
ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، ولا إياه عنى من شبهه، ولاصمده من أشار إليه وتوهمه، كل معروف بنفسه مصنوع، وكل قائم في سواه معلولفاعل لا باضطراب آلة، مقدور لا بجول فكرة، غني لا باستفادة، لا تصحبه الأوقاتولا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، والعدم وجوده، والابتداء أزله، بتشعيرهالمشاعر عرف أن لا مشعر له، وبمضادته بين الأمور عرف أن لا ضد له، وبمقارنتهبين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، والوضوح بالبهمة، والجمود بالبللوالحرور بالصرد، مؤلف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرب بين متباعداتهامفرق بين متدانياتها، لا يشمل بحد.. الخ.
(٢) ” لا يشمل بحد ” من الحدود المنطقية، المركبة من الجنس والفصل، وذاتهخالية من التركيب أو من الحدود والأبعاد الهندسية التي هي من لوازم الأجسام.
=>