} د. عدنان منصور*
ليس من باب الارتجال او المناورة، أو الابتزاز، يطالب العدو الإسرائيلي بفتح معبر رفح امام أهالي غزة الذين ينوي الاحتلال بعملياته الوحشية إرغامهم بالقوة على ترحيلهم الى سيناء. إذ أنّ إفراغ القطاع من سكانه، هدف رئيس واستراتيجي للعدو الإسرائيلي، يمكنه في ما بعد، من احتلال القطاع، والقضاء على مقاومته وضمّه نهائياً الى كيانه.
إنّ تفريغ قطاع غزة من سكانه، يسهّل الأمر للعدو، كي يستفرد بالمقاومة، وتصفيتها بتغطية واسعة من دول غربية مستبدّة، مشبعة بالحقد، والكراهية، والعنصرية، فاقت كلّ تصوّر، يجسّدها عملياً اليوم بايدن أميركا، وماكرون فرنسا، وسوناك بريطانيا وشولتز ألمانيا.
سياسة نتنياهو وقادته العسكريين تهدف الى وأد القضية الفلسطينية في تراب غزة، طالما أنها تشكل عصب القضية وروحها. فلا مقاومة في فلسطين دون غزة، ولا أمن ولا استقرار للكيان المحتلّ بوجود مقاومة الغزاويين. لذلك، إزالة غزة عن خريطة فلسطين، مطلب العدو الإسرائيلي، كي تصبح حدود كيانه مباشرة مع الحدود البرية لمصر. وبعد ذلك تضبط الحدود اتفاقية كامب دايفيد التي أنهت الصراع بين مصر و»إسرائيل»، وقيّدت الدور السياسي والعسكري والأمني المصري، تجاه القضية الفلسطينية.
لقد توهّمت «إسرائيل» أنّ الانسحاب من غزة وفك الارتباط معها عام 2005، سيوقف نهائياً دور المقاومة فيها، ويعزلها عن الضفة الغربية. إذ أنّ «إسرائيل» حرصت على تطويق قطاع غزة وإبعاده عن ايّ تواصل مع الضفة الغربية.
دوف ويسغلاسDov Weissglas الناطق الرسمي لرئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون كشف النيات الإسرائيلية لخطة فكّ الارتباط مع قطاع غزة في تصريح له لصحيفة «هارتس» يوم 6 تشرين الأول 2004 يقول فيه: «إنّ معنى خطة فكّ الارتباط مع غزة، هو تجميد عملية السلام. وأنّ تجميد عملية السلام، يعني منع قيام دولة فلسطينية، ومنع إجراء محادثات حول اللاجئين، والحدود والقدس، نتيجة لذلك، فإنّ كلّ المسألة المسمّاة دولة فلسطينية مع كلّ ما يترتب عن ذلك، سيُسحب من جدول أعمالنا».
لم تكن «إسرائيل» تتوقع أنه مع الوقت ستكون غزة وقود المقاومة وشعلتها، وحاضنة فلسطين، وضمير شعبها. لقد علقت «إسرائيل» أملها على سلطة صورية، رخوة هشّة في رام الله، لا حول ولا قوة ولا قرار لها، فكانت مع الوقت بمثابة إسفنجة تمتصّ تطلعات وآمال الفلسطينيين، وتحدّ من زخم نضالهم، وتصدّيهم لسياسة الاحتلال. فإذا بغزة تقلب المقاييس، وتطيح بأوهام قادة العدو وعملائه، وبكلّ اللاهثين وراء أنصاف الحلول، لتقول للعالم كله: غزة رأس الحربة في تحرير فلسطين. وهي قلب القضية، تحرّك وتضبط بوصلة فلسطين في الاتجاه الصحيح، وهي تواجه المعتدين، وكل المتخاذلين، والمساومين على حقوق الفلسطينيين.
لم ينفع رهان العدو على فكّ الارتباط مع غزة، رغم كلّ الإجرام والآلة العسكرية التي دمّرت القطاع باعتداءاته الوحشية شهري كانون الأول 2008، وكانون الثاني2009، ولا عدوان عام 2012، و2014، ولا الاعتداءات المتلاحقة، وآخرها حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لقطاع غزة الجاري على الأرض حتى اللحظة. إذ ظلّ القطاع خنجراً في حلق كيان الاحتلال، يقضّ مضاجعه على الدوام، يجعل القضية الفلسطينية متوهّجة، وفي صدارة قضايا العالم، وهي المستمرّة في نضالها وتصدّيها الكبير للاحتلال الإسرائيلي. لذلك وجد مجرم الحرب، نتنياهو وقادته العسكريون أنّ تصفية القضية الفلسطينية برمّتها أصبحت أمراً حتمياً لا بدّ منه، ويجب ان تتمّ بشكل نهائيّ في قطاع غزة، من خلال تدمير ممنهج للقطاع، ومن ثم إكراه سكانه على الرحيل الى سيناء، وهذا ما طلبه نتنياهو من مصر.
مصر اليوم، بحكم انتمائها إلى أمتها، وبحكم مسؤوليتها ومصالحها القومية والوطنية والأمنية، جعل رئيسها يرفض الترحيل القسري لسكان غزة. هذا الرفض شكل ضمانة رئيسة ليس للمقاومة في غزة فقط، وإنما لجميع الفلسطينيين في القطاع والضفة، وعموم فلسطين، لأنّ إفراغ القطاع من سكانه، سيتيح الفرصة لـ «إسرائيل»، للانقضاض عليه، وقضمه وضمّه إليها، وفي ما بعد، العمل على خنق الضفة الغربية، وكبت أنفاس أي مقاومة فيها، ومن ثم اللجوء الى الممارسات التعسّفية بغية تهجير سكانها الى الأردن.
نتنياهو الذي فشل حتى اللحظة، في تحقيق هدفه بترحيل سكان غزة إلى سيناء، واصطدم برفض الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، دفع بالولايات المتحدة،
منتهزة الأزمة الاقتصادية والمالية، والاجتماعية الخانقة التي تعيشها مصر في الوقت الحاضر، كي ترمي الطعم لها، وتغريها بشطب 100 مليار دولار من ديونها التي تجاوزت 170 مليار دولار، بعد أن قفز دينها الخارجي خمسة أضعاف من عام 2011 الى عام 2022، في حين انخفضت قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، وزاد الطلب عليه نتيجة ارتفاع فاتورة الواردات، وفوائد الديون وأقساطها. ومما يزيد من صعوبة الوضع الاقتصادي الخانق لمصر، هو أنه يتوجّب عليها في العام المقبل 2024 سداد قيمة فوائد الدين العام الداخلي والخارجي البالغة 36.3 مليار دولار، مع العلم أنّ بيانات دولية تشير الى انّ الدين العام لمصر عام 2028، سيصل الى 510 مليارات دولار، مقارنة بـ 163 مليار دولار عام 2022.
إنّ رفض مصر – حتى الآن – ترحيل سكان غزة الى سيناء، أحبط المشروع الأميركي – الإسرائيلي في الصميم، وأحبط حلم نتنياهو في هذا الشأن.
لا شك في أنّ مصر تحمّلت مسؤوليتها الوطنية، لكون الأمر يرتبط مباشرة بسيادتها، واستقرارها وأمنها القومي، وبحق الفلسطينيين الطبيعي في البقاء على أرضهم. لكن هل تصمد مصر في نهاية المطاف أمام الضغوط الناعمة، والمغريات اللاحقة، وتسجل للتاريخ موقفاً مشرّفاً، تستعيد فيه ولو جزءاً من حضورها المتوهّج الذي كان متميّزاً في أمتها وفي العالم أيام الفترة الناصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي؟!
مصر اليوم أمام امتحان كبير، حيث أنظار العرب تتطلع اليها، يترقبون الآتي من الأيام المفصلية العصيبة، في الصراع العربي الإسرائيلي، ليعرفوا من الذي سيحقق هدفه في ميدان غزة: مقاومة الفلسطينيين، ورفض مصر الترحيل وقرار رئيسها، أم مجازر «إسرائيل» وضغوط واشنطن ومغرياتها الرامية الى ترحيل الفلسطينيين من قطاعهم، ووأد قضيتهم؟!
الجواب في القاهرة، عند الرئيس عبد الفتاح السيسي، حيث الكلّ يعلق الآمال الكبار، على صمود مصر أمام المغريات، والضغوط، في هذه اللحظات الحاسمة التي يشهدها قطاع غزة، وصمود شعبه الأسطوري، حتى لا يأتي الترحيل في نهاية الأمر على حساب فلسطين، ومصر، وأمن الأمة كلها.
إنّ أيّ تراجع لمصر عن موقفها الحازم، وأياً كانت أسبابه وتبريراته في ما بعد، سيزلزل الأوضاع في المنطقة بأكملها، ويخلخل دولها، وإنْ حظيَ هذا التراجع بدعم ومغريات، ووعود قوى الغرب الخبيثة، واستنفار أجهزة الإعلام في الداخل والخارج، للترويج له، وتبريره، والإفراط في الحديث عنه وتظريفه، وهي تدافع عنه بكلّ قوة، لإقناع الشعب المصري بفائدته ومكتسباته، بعيداً عن تداعياته الخطيرة على مصر، ودول المنطقة.
الأيام المقبلة ستكشف النقاب عن المواقف الحقيقية للدول والأطراف المعنية، وعما يُرسم ويُحضّر لقطاع غزة ومقاومته الباسلة.
مجرم الحرب نتنياهو، كالطير المذبوح في مستنقع غزة، يعرف أنّ حياته السياسية قد انتهت، والمحاكمة بانتظاره. ومع ذلك هو مصمّم بيأسه، وعنجهيته، وإجرامه، على الذهاب بعيداً لاجتياح غزة، وإنْ تطلب الأمر تنفيذ سياسة الأرض المحروقة، والإبادة الجماعية، والتطهير العرقي للغزاويين الى أبعد الحدود، فيما هو يعرف أنّ الحرب على غزة، وإخضاع شعبها وكسر إرادته قد خسرها، شأنه شأن مجرمي الحروب من أدولف هتلر وبنيتو موسوليني، وغي موليه، وانطوني ايدن وإيهود أولمرت وكلّ مجرمي الحروب وعشاقها.
غزة الصغيرة، أصبحت أسطورة مدوّية، لم يشهد العالم مثيلاً لها. مقاومتها المعجزة، بهرت العالم كله، بابتكارها عمليات حربية نوعية، غيّرت المعادلات العسكرية، وكسرت الموازين، ودفنت خطط العدو
في رمالها.
فشل «إسرائيل» الذريع في احتلال غزة، والقضاء على مقاومتها، وترحيل شعبها، يعني أنها هزمت، وما على مجرم الحرب نتنياهو وقادته العسكريين، إلا أن يترقبوا مصيرهم الأسود الذي ينتظرهم…
*وزير الخارجية والمغتربين الأسبق.