منهج المرحوم القاضي قدّس الله نفسه في التربية
و كان المرحوم القاضي يعطي توجيهاته و تعليماته الاخلاقيّة لكلّ واحد من تلاميذه بطريقة خاصّة، وفقاً للموازين الشرعية و مع رعاية الآداب الباطنيّة للاعمال، و حضور القلب في الصلاة، و الإخلاص في الافعال، فيُعدّ قلوبهم بذلك لتلقّي إلهامات عالم الغيب.
و كان له غرفة في مسجد الكوفة و أخري في مسجد السهلة يبات فيهما لوحده بعض الليالي، و كان يوصي تلامذته كذلك بالمبيت بعض الليالي بالعبادة في مسجد الكوفة أو مسجد السهلة، و كان قد أمرهم بعدم الإعتناء إن حدث لهم شيء خلال صلاتهم أو قراءتهم للقرآن أو حال الذكر و التأمّل، كأن يرون وجهاً جميلاً، أو يشاهدون بعض جهات عالم الغيب الاخري، و أن يتابعوا عملهم و لا يقطعونه.
يقول الاستاذ العلاّمة: «حصل يوماً أن كنتُ جالساً في مسجد الكوفة مشغولاً بالذكر، فجاءت حوريّة من حوريّات الجنّة من جانبي الايمن و في يدها كأس من شراب الجنّة جاءتني به و أرتني نفسها، و ما إن أردت الإلتفات اليها حتّي تذكّرت فجأةً كلام الاستاذ، فأعرضتُ عنها و لم أعتنِ بها.
ثم انّ تلك الحوريّة نهضت و جاءتني من جانبي الايسر و قدّمت لي ذلك الكأس، فلم أعتنِ بها و أشحتُ بوجهي عنها، فانزعجت تلك الحوريّة و ذهبت، فأنا الی الآن كلّما تذكّرتُ ذلك المنظر تأثّرتُ من انزعاج تلك الحوريّة».
كمالات الاستاذ القاضي رحمةالله عليه
و كان المرحوم القاضي آية عجيبة بلحاظ العمل، فأهل النجف ـ و خاصّة أهل العلم منهم ـ يمتلكون عنه قصصاً و حكايات، و كان يعيش في غاية الفقر و الفاقة مع عائلة كبيرة، لكنّه كان غارقاً في التوكلّ و التسليم و التفويض و التوحيد بحيث انّ هذه العائلة لم تحرفه عن مسيره قيد شعرة.
نقل لي أحد أصدقائي النجفيين ـ و هو حالياً من أعلام النجف ـ قال: ذهبت يوماً الی دكّان بائع الخضروات، فشاهدتُ المرحوم القاضي منحنياً منهمكاً بانتقاء الخسّ، الاّ انّه ـ خلافاً للمعهود ـ كان ينتقي الخسّ التالف ذا الورق الخشن الكبير.
وقفت أرقبه بعناية، حتّي أعطي المرحوم القاضي الخسّ لصاحب الدكّان فوزنه، ثم وضعه المرحوم القاضي تحت عباءته و انصرف؛ و كنتُ آنذاك طالباً فتيّاً و كان المرحوم القاضي رجلاً مسنّاً قد تقدّم به العمر، فتبعته و قلتُ له: أيّها السيّد، انّ لديّ سؤالا! لماذا انتقيتَ هذا الخسّ الردي علی عكس ما ينبغي؟
فأجاب المرحوم القاضي: سيّدي العزيز! انّ هذا البائع امرؤ فقير معدم، و أنا أساعده أحياناً، و لستُ أرتضي أن أقدّم اليه شيئاً دون مقابل لئلاّ تُهدر عزّته و شرف حيثيّته و كرامته أولا، و لئلاّ يعتاد ـ لا سامح الله ـ الاخذَ دون مقابل، فيضعف في كسبه و عمله ثانياً.
و لا فرق لدينا أن نأكل الخسّ اللطيف الرقيق أو هذا الخسّ، و كنتُ أعلم أن ليس من مشترٍ يشتريه. فإن حلّ الظهر ألقي به البائع خارج الدّكان،[13] لذا فقد بادرتُ لشرائه منعاً من تضرّر البائع.