14
الموعظة الأربعون: الموت خير واعظ
3. خشوع القلب: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام): «وَأَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ… وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ». وقال: «وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ»[1].
4. القناعة: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «مَنْ أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، رَضِيَ مِنَ الدُّنْيَا بِالْيَسِيرِ»[2].
حتميّة الموت للإنسان
إنّ من نتائج الانغمار في ملاذ الدنيا، نسيان الموت، على الرغم ممّا نرى من كثرة الموتى حولنا، فكأنّ الموت فيها على غيرنا كُتِب. وهذه آفة لا بدّ أن نتخلَّص منها، ونتيقَّن بأنّنا ميِّتون. وتقريرًا لذلك، يذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) شواهد ممّن مات من الأنبياء والعظماء، ويقول: «فَلَوْ أَن أَحَدًا يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّمًا، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا، لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ (عليه السلام)، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ، وَأَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ خَالِيَةً، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً»[3].
[1] المصدر نفسه، ص75. [2] المصدر نفسه، ص536. [3] المصدر نفسه، ص263.
272
261
الموعظة الأربعون: الموت خير واعظ
والموت يلازمنا ولا ينجو منه أحد، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): «فَمَا يَنْجُو مِنَ الْمَوْتِ مَنْ خَافَهُ، وَلَا يُعْطَى الْبَقَاءَ مَنْ أَحَبَّهُ»[1]، «وَالدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ، وَلِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ»[2].
وهذه الحتميّة وهذا اللزوم لا ينفعه الفرار، إذ «الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ، وَالْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ»[3]، والموت «طَالِبٌ حَثِيثٌ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ»[4]. وقد قال (عليه السلام) أيضًا: «وَأَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ؛ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ، وَإِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ، وَهُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ، الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ، وَالدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ»[5]. وأخيرًا، يوصي ابنَه الإمام الحسن (عليه السلام) ويذكّره ويقول له: «وَأَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ، وَلَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ»[6].
سرعة انقضاء الدنيا وحلول الموت
إنّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) مشحونٌ بالتذكير بسرعة انقضاء الدنيا وحلول الموت، فيقول (عليه السلام): «إِنَّ غَدًا مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ. مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ، وَأَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْر،ِ وَأَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ، وَأَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ!»[7].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص81. [2] المصدر نفسه، ص86. [3] المصدر نفسه، ص207. [4] المصدر نفسه، ص180. [5] المصدر نفسه، ص384. [6] المصدر نفسه، ص400. [7] المصدر نفسه، ص279.
273
262
الموعظة الأربعون: الموت خير واعظ
ويقول: «تَجَهَّزُوا، رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَأَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا، وَانْقَلِبُوا بِصَالِحِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ»[1]. ويقول (عليه السلام): «فَاحْذَرُوا، عِبَادَ اللَّهِ، الْمَوْتَ وَقُرْبَهُ، وَأَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَخَطْبٍ جَلِيلٍ، بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَدًا، أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَدًا»[2].
[1] السيّد الرضيّ، نهج البلاغة، ص321. [2] المصدر نفسه، ص384.
275
263
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
تعرّف مفهوم الأمل، ومدى تأثيره في حياة الإنسان على الصعيدين، الدنيويّ والأخرويّ.
محاور الموعظة
الدنيا دار بلاء
بين اليأس والأمل
الأمل من التوكّل
الأمل بالله لا بالدنيا
تصدير الموعظة
النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): «الأمل رحمة لأمّتي، ولولا الأمل ما أرضعت أمّ ولدها، ولا غرس غارس شجرًا»[1].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص173.
278
264
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
الدنيا دار بلاء
إنّ الدّنيا ليست محلًّا للراحة والسعادة النهائيّة، فهي محلّ بلاء وامتحان، يُبتلى فيها المرء في كثير ممّا يتعلق بأمور حياته، قال الله -تعالى-: ﴿وَلَنَبلُوَنَّكُم بِشَيءٖ مِّنَ ٱلخَوفِ وَٱلجُوعِ وَنَقصٖ مِّنَ ٱلأَموَٰلِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَٰتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾[1].
وعن الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السلام): «إنّ الدّنيا دار بلاء وفتنة»[2].
وإنّ هذه البلاءات تتعدّد وتتشكّل كما أشارت إلى ذلك الآية المباركة آنفة الذكر، فقد تكون بالمال وقد تكون بالموت أو الخوف أو الجوع، وغير ذلك من مصائب هذه الدنيا.
بين اليأس والأمل
فإذا كانت الدّنيا دار بلاء، ولا مفرّ للإنسان من المصائب التي تحيط به فيها، فلا بدّ من أن يكون على استعداد تامّ لأن يواجه ذلك بقوّة وإرادة، وإلّا فإنّ ذلك يكون مدعاة للضعف والعجز، بل للسقوط في مواطن البلاءات، حتّى يصل به الأمر إلى اليأس والإحباط، بل إلى الكفر بنعم الله -تعالى-، مضافًا إلى سوء الظنّ به -عزّ وجلّ-، وبذلك يكون المرء عرضة لغضب الله، علاوة على الآثار السيّئة التي تنتج عن ذلك، كالهمّ والحزن والقلق، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «إيّاك والجزع! فإنّه يقطع الأمل، ويُضعِف العمل، ويُورث الهمّ»[3].
[1] سورة البقرة، الآية 155. [2] الشيخ الصدوق، التوحيد، ص378. [3] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج79، ص144.
279
265
الموعظة الأربعون: الموت خير واعظ
من هنا، فإنّ المرء العاقل، هو من تسلّح بأدوات الصبر والثبات، ومن أبرز تلك الأدوات الأمل بالله، وبأنّ ما يصيبه إنّما هو بعينه وقدرته، وحكمته في ما يقدّر ويقضي.
بِمَ يكون الأمل؟
عندما نقول الأمل، إنّما نقصد به الأمل بالفرج، الذي بيد الله أوّلًا وآخرًا، وأيضًا الأمل بأنّ ما يصاب به الإنسان في هذه الحياة، لا يضيع عند الله -عزّ وجلّ-، ولهذا فإنّ آية الصبر تؤكّد أنّ للصبر على البلاء بشرًى عظيمة، إذ قال: ﴿وَبَشِّرِ ٱلصَّٰبِرِينَ﴾.
الأمل من التوكّل
إنّ الأمل الذي يعيش في كنفه الإنسان، إنّما هو علامة على حسن ظنّه بالله -سبحانه-، وتوكّله عليه، ذلك أنّه يوقن بأنّ كلّ ما في هذه الدّنيا إنّما هو بيده -سبحانه-، وبذلك تركن نفسه.
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «واعلم أنّ استعفاءك البلاء من الجزع واستبطاءك العافية من اليأس، فدعِ اليأس والجزع، وقل: حسبي الله ونعم الوكيل!»[1].
وعن صفوان الجمّال، قال: شهدت أبا عبد الله [الصادق] (عليه السلام)، واستقبل القبلة قبل التكبير، وقال: «الّلهمّ، لا تؤيسني من روحك، ولا تقنطني من رحمتك، ولا تؤمنّي مكرك، فإنّه لا يأمن مكر الله إلّا القوم الخاسرون» قلت: جُعِلتُ فداك! ما سمعتُ بهذا من أحد قبلك،
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج8، ص207.
280
266
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
فقال: «إنّ من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله»[1].
الأمل منجاة
إنّ للأمل أثارًا عظيمة على حياة الإنسان، فهو المحرّك والدافع لإرادة الإنسان نحو التقدّم والعطاء، وقد ورد أنّ النبيّ عيسى (عليه السلام) رأى شيخًا يعمل بمسحاة يثير الأرض، فقال عيسى (عليه السلام): «اللهمّ، انزع منه الأمل» فوضع الشيخ المسحاة واضطجع، فلبث ساعة، فقال النبيّ عيسى (عليه السلام): «اللهمّ، اردد إليه الأمل» فقام فجعل يعمل، فسأله عيسى (عليه السلام) عن ذلك، فأجاب الشيخ: بينما أنا أعمل، إذ قالت لي نفسي: إلى متى تعمل، وأنت شيخ كبير؟! فألقيتُ المسحاة، واضطّجعت، ثمّ قالت لي نفسي: والله، لا بدَّ لك من عيش ما بقيت، فقمتُ إلى مسحاتي[2].
الأمل بالله لا بالدّنيا
قد يختلط مفهوم الأمل عند بعض الناس، حتّى يحسبون الأمل بالدّنيا هو نفسه الأمل بالله، إلّا أنّ ثمّة بونًا شاسعًا بينهما؛ ذلك أنّ الأمل بالله يعني أنّه -سبحانه- سوف يفرّج على الإنسان ما فيه من غمّ وهمّ، وأنّ هذا ليس بخارج عن قدرته وقدره؛ أمّا الأمل بالدّنيا، فهو ما كان فيه اطمئنان داخليّ نحوها، فيسعى الإنسان في سبيلها، وكأنّه مخلّدٌ فيها، إلى أن يصل في طلبها إلى الانحراف عن طريق الحقّ ولو بعد حين.
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص544. [2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج14، ص329.
281
267
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
يشير الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى هذا الفرق، في دعائه حيث قال: «اللهمّ، أسألك من الآمال أوفقها»[1]، وذلك أنّ أمالًا ما، قد يعيشها الإنسان، وهي ليست في مصلحته.
عن الإمام عليّ (عليه السلام): «انقطِع إلى الله -سبحانه-، فإنّه يقول: وعزّتي وجلالي… لأقطعنّ أمل كلِّ من يؤمِّل غيري باليأس»[2].
[1] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج91، ص155. [2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص66.
282
268
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
إدراك أهمّيّة بناء الاقتصاد وخطر التحوّل إلى مجتمع استهلاكيّ.
محاور الموعظة
المجتمع الاستهلاكيّ
الحرب الناعمة ودورها في زياد الاستهلاك
كيف دعا الإسلام إلى ضبط الاستهلاك؟
دولة العيش الرغيد
تصدير الموعظة
﴿يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشرَبُواْ وَلَا تُسرِفُواْ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلمُسرِفِينَ﴾[1].
[1] سورة الأعراف، الآية 31.
283
269
الموعظة الحادية والأربعون: الأمل
إنّ الالتزام بالنمط الحياتيّ الذي دعا إليه الإسلام إنّما يضمّن الحياة الهانئة والمستقرّة على الصعيدَين المعنويّ والماديّ على حدٍّ سواء.
ويدخل ضمن الحديث عن نمط الحياة الإسلاميّ ما له علاقة بنوع الطعام واللباس وغير ذلك من الأمور، حيث وردت آداب عدّة في التراث الإسلاميّ، ترتبط باللباس والطعام.
وسوف نتناول موضوعات هذه الموعظة ضمن نُقاط ثلاث:
أوّلًا: المجتمع الاستهلاكيّ
يتنامى مفعول مصطلح «المجتمع الاستهلاكيّ» في مجتمعنا أكثر فأكثر، وهذا يعني أنّ المسألة لها جذور وأسباب، ما يدفع الباحثين إلى وضع وسائل وأساليب للعلاج، وكذلك الوقاية من تمادي آثار ذلك على المجتمع.
ما المقصود بالمجتمع الاستهلاكيّ؟
يمكن لنا القول وباختصار: إنّ الاستهلاك المقصود به هنا، هو ليس الرغبة نفسها في شراء الشيء أو استهلاكه؛ ذلك أنّ الرغبة في الحصول على منتجٍ ما أمرٌ طبيعيّ، إنّما المقصود به هو نوع الاستهلاك الذي تغيّر من الزمن السابق إلى الزمن الحاليّ، حيث يتوافر تنوّع كبير للموادّ الاستهلاكيّة، والتي أصبحت سهلة المنال لدى المستهلك، ما دعا إلى زيادة الاستهلاك بشكل أكبر عمّا كان في الأزمنة السابقة.
ويدخل في أسباب زيادة الاستهلاك ظاهرة التشويق الإعلانيّ الذي يعتمده منتجو الموادّ الاستهلاكيّة المتنوّعة وأصحاب المؤسّسات،
284
270
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
والتي تدفع المستهلك إلى الشراء في كثير من الأحيان دون تدبّر أو دراسة، ما يوقعه في مغبّة ضياع ماله دون وجه ضرورة.
وكذلك ترجع زيادة الاستهلاك إلى زيادة الدخل الفرديّ في المجتمعات، خاصّة الصناعيّة منها، وكان لهذا تأثير سلبيّ كبير على المجتمعات البشريّة الفقيرة أو النامية، حيث ازداد فيها العرض مع قلّة المال، ما جعل الطبقة الفقيرة استهلاكيّة بشكل سلبيّ للغاية.
وإنّ الإسلام -كما نقرأ في إرشاداته- قد وضع حدودًا لكيفيّة العلاقة والارتباط بالموادّ الاستهلاكيّة، سواء لجهة المأكل أو المشرب أو الملبس أو المسكن.
ثانيًا: الحرب الناعمة ودورها في زيادة الاستهلاك
قد يتساءل بعض الأشخاص قائلًا: ما علاقة الحرب الناعمة بزيادة الاستهلاك؟ أو ما علاقة الحرب الناعمة بعدم الاستقرار الاقتصاديّ؟
في الواقع، إنّ ساحة الحرب الناعمة هو في مثل هذه المواقع؛ أي في الحياة الشخصيّة للأفراد، حيث إنّها تعمل على خرق نمط حياتهم لتبديله وتحويره عمّا هو عليه إلى ما يضعه أصحاب هذه الحرب من سياسات في سبيل نيل أهدافهم، سواء أكان بشكل عاجل أم آجل.
وإنّ نمط الحياة المعيشيّة، لَهو أكثر الأمور استهدافًا من قبل أعداء المجتمع، وهذا ما شهدناه عبر التاريخ البشريّ، حيث قام المستعمرون بتغيير ثقافة بلاد بأكملها بغية احتلالها والتسلّط عليها، كما هي الحال في دول عديدة من الدول الإفريقيّة.
285
271
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
وهكذا هي الحال في هذه الأيّام بالنسبة إلى المجتمع الإسلاميّ، وبالأخصّ المجتمع المقاوم، حيث تعمل دول الاستكبار جاهدة لخرق نمط الحياة الشخصيّة لأفراد بيئة المقاومة، ما يسمح لهم بإضعاف همّة هؤلاء الأفراد نحو الثورة والمقاومة واللهو بالأمور المادّيّة والاستهلاكيّة.
ثالثًا: كيف دعا الإسلام إلى ضبط الاستهلاك؟
وضع الإسلام ضوابط عديدة لضبط استهلاك الموادّ الطبيعيّة والمنتجة، تتمحور تحت مفردتي «حسن التدبير»، و«عدم التبذير والإسراف».
1. حسن التدبير
أمّا التدبير، فهو حسن الإدارة والتخطيط، والنظر في عواقب الأمور قبل الإقدام عليها، وإنّ هذا يرتبط بالأمور المعيشيّة والمنزليّة، بل يعدّ أساس العيش المتّزن والمستقرّ؛ وممّا روي في ذلك أنّ رجلًا قال للإمام جعفر الصادق (عليه السلام): بلغني أنّ الاقتصاد والتدبير في المعيشة نصف الكسب! فقال (عليه السلام): «لا، بَل هُو الكسبُ كلُّهُ، ومِن الدِّينِ التَّدبيرُ في المعيشةِ»[1].
وإنّ قوام التدبير هو العلم والمعرفة؛ أي أنْ يتدبّر المرء مآل الأمور، وهذا ما نستنبطه من كلام الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث قال لابن مسعود: «يابن مسعود، إذا عملتَ عمَلًا فاعملْ بعلمٍ وعقلٍ، وإيّاكَ وأنْ تعملَ
[1] الشيخ الطوسيّ، الأمالي، ص670.
286
272
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
عملًا بغيرِ تدبّرٍ وعلمٍ؛ فإنّه -جلَّ جلالهُ- يقولُ: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِي نَقَضَت غَزلَهَا مِن بَعدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثٗا﴾[1]»[2].
2. الحثّ على الاقتصاد
ونجد في مقلب آخر كيف دعا الإسلام إلى الاقتصاد في العيش، وهو شُعبة من شعب حسن التدبير، وممّا ورد في ذلك:
قوله -تعالى-: ﴿وَٱقصِد فِي مَشيِكَ﴾[3]؛ «أي امشِ مقتصدًا ليس بالبطيء المتثبّط، ولا بالسريع المفرط، بل عدلًا وسطًا، بين وبين»[4].
أمّا في الروايات، فمنها ما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «إنّ المؤمن أخذ من الله أدبًا، إذا وسّع عليه اقتصد، وإذا أقتر عليه اقتصر»[5].
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) من كتاب له إلى زياد: «دعِ الإسراف مقتصدًا، واذكر في اليوم غدًا، وأمسك من المال بقدر ضرورتك، وقدِّم الفضل ليوم حاجتك»[6].
3. حرمة الإسراف والتبذير
الإسراف -لغةً- «مجاوزة القصد[…] يقال: أسرف في ماله: عجّل من غير قصد، وأصل هذه المادّة يدُلُّ على تعدِّي الحدِّ، والإغفال أيضًا للشيء»[7].
[1] سورة النحل، الآية 92. [2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج74، ص110. [3] سورة لقمان، الآية 19. [4] ابن كثير، تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، ج3، ص455. [5] الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج13، ص52. [6] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج33، ص491. [7] ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج3، ص153.
287
273
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
أمّا اصطلاحًا، فهو «تجاوز الحدّ في كلِّ فعل يفعله الإنسان، وإن كان ذلك في الإنفاق أشهر»[1].
قال الله -تعالى-: ﴿يَٰبَنِي ءَادَمَ خُذُواْ زِينَتَكُم عِندَ كُلِّ مَسجِدٖ وَكُلُواْ وَٱشرَبُواْ وَلَا تُسرِفُواْ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلمُسرِفِينَ﴾[2]، وهذه الآية واضحة في النهي عن الإسراف في الطعام والشراب.
وورد النهي عن الإسراف بالماء عند الوضوء، كما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الوضوء مِدّ، والغسل صاع، وسيأتي أقوام من بعدي يستقلّون ذلك، فأولئك على خلاف سنّتي! والثابت على سنّتي معي في حظيرة القدس»[3].
ونلاحظ أنّ للإسراف أثارًا سلبيّة على المستوى الاقتصاديّ للفرد، وهذا أمر بديهيّ؛ ذلك أنّ ثمّة قسمًا من مدخول الفرد يذهب هدرًا دون مقابل، عن الإمام عليّ (عليه السلام): «الإسراف يفني الجزيل»[4].
أمّا التبذير، فهو: التفريق، وأصله: إلقاء البذر وطرحه، فاستعير لكلّ مضيّع لماله، فتبذير البذر تضييع في الظاهر لمن لم يعرف مآل ما يلقيه[5].
قال الله -تعالى-: ﴿إِنَّ ٱلمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخوَٰنَ ٱلشَّيَٰطِينِ﴾[6].
[1] الراغب الأصفهانيّ، مفردات ألفاظ القرآن، ص407. [2] سورة الأعراف، الآية 31. [3] الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، ص34. [4] الشيخ الليثيّ الواسطيّ، عيون الحكم والمواعظ، ص39. [5] الراغب الأصفهانيّ، مفردات ألفاظ القرآن الكريم، ص40. [6] سورة الإسراء، الآية 27.
288
274
الموعظة الثانية والأربعون: نمط الحياة الإسلاميّ
يقول العلّامة الطباطبائيّ في تفسير هذه الآية المباركة: «وكان وجه المؤاخاة بينهم أنّ الواحد منهم يصير ملازمًا لشيطانه وبالعكس، كالأخوين الذين هما شقيقان متلازمان في أصلهما الواحد، كما يشير إليه قوله -تعالى: ﴿وَقَيَّضنَا لَهُم قُرَنَاءَ﴾[1]»[2].
دولة العيش الرغيد
إنّ الأوامر والنواهي الإلهيّة واضحة في ضرورة الحفاظ على النعم الإلهيّة، وعلى الحياة الاقتصاديّة الهانئة والمستقرّة للإنسان؛ ذلك أنّه ينبغي استغلال تلك النعم بما يضمن صلاح عيش الإنسان ورغده.
حتّى أنّنا نجد ثقافة العيش الرغيد ضاربة في عمق الثقافة والمعتقدات الإسلاميّة، ونلاحظ ذلك من خلال توصيف دولة الإمام المهديّ المنتظر (عجل الله تعالى فرجه)، حيث نجد روايات عديدة تصف لنا رغد العيش في تلك الدولة الإلهيّة في ظلّ وجود الإمام الذي سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما مُلئت ظلمًا وجورًا.
ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «يخرج المهديّ حكمًا عدلًا، […] ويُطاف بالمال في أهل الحواء، فلا يوجد أحد يقبله»[3].
[1] سورة فصّلت، الآية 25. [2] العلّامة الطباطبائيّ، الميزان في تفسير القرآن، ج13، ص82. [3] المقدسيّ، عقد الدرر في أخبار المنتظر، ص166.
289
275
الموعظة الثالثة والأربعون: التكافل الاجتماعيّ
الموعظة الثالثة والأربعون: التكافل الاجتماعيّ
بيان أهمّيّة التعاطف والمواساة مع أهل الحاجة.
محاور الموعظة
الحثّ على مساعدة الآخرين
الآمنون يوم القيامة
إيّاك وعذر الطالب
فضل عيلولة المحتاجين
من لا ينبغي طلب الحاجة منه
تصدير الموعظة
الإمام الصادق (عليه السلام): «ويحقّ على المسلمين الاجتهاد في التواصل والتعاون على التعاطف والمؤاساة لأهل الحاجة وتعاطف بعضهم على بعض…»[1].
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص175.
290
276
الموعظة الثالثة والثلاثون: آية المودّة
اهتمّ الإسلام كثيرًا بتربية الإنسان فكريًّا وعمليًّا على توثيق عرى التواصل بين عباده، وبيَّن منظومة من العلاقات الاجتماعيّة بين أفراد الإنسان تقوم على أساس التراحم والتعاطف حتّى يكونوا كما أمرهم الله -سبحانه وتعالى-: ﴿رُحَمَاءُ بَينَهُم﴾[1].
الحثّ على مساعدة الآخرين
هناك الكثير من التشريعات التي يُلحظ فيها حيثيّة مساعدة الآخرين، كالخمس والزكاة والصدقة والهديّة والهبة وغير ذلك، وأيضًا من خلال الأوامر والإرشادات التي تحثّ على تعزيز روح المحبّة والتعاطف بين الناس، وأن يكونوا يدًا واحدة في السرّاء والضرّاء، كأنّهم جسد واحد، وكلّ ذلك على قاعدة أنّ الناس كلّهم إنّما هم عيال الله، وأنّ أحبّ عيال الله إليه هم أولئك الذين ينفعون الناس ويمشون في قضاء حوائجهم وخدمتهم، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «سُئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أحبّ الناس إلى الله؟ قال: أنفع الناس للناس»[2].
الآمنون يوم القيامة
إنّ لكلّ عمل يقوم به الإنسان في دار الدنيا، سوف يجده حاضرًا يوم القيامة، ثمّ يجزى به من دون فرق بين عمل أدَّاه الإنسان في محراب العبادة وبين عمل قدّمه في ساحة عباده. ومن هنا، فقد فاز بعض الناس حينما هيّأ لنفسه الأمان والسرور يوم القيامة نتيجة لما زرعه في الدنيا من سرور أدخله إلى قلوب المحزونين، أو لسعيه
[1] سورة الفتح، الآية 29. [2] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص164.
291
277
الموعظة الثالثة والأربعون: التكافل الاجتماعيّ
في قضاء حوائج المحتاجين، ولقد فاز هؤلاء بنعمتين عظيمتين، واحدة في الدنيا حينما نسبهم الله -تعالى- لذاته المقدّسة، وأخرى حينما آمنهم يوم الفزع الأكبر، ودلّ على ذلك ما جاء عن مولانا الإمام الصادق (عليه السلام)، حيث قال: «إنّ لله عبادًا في الأرض يسعون في حوائج الناس، هم الآمنون يوم القيامة ومن أدخل على مؤمن سرورًا فرَّح الله قلبه يوم القيامة»[1].
إيّاك وعذر الطالب
من الجدير ذكره أنّه يجب أن يلتفت الإنسان إلى نقطة مهمّة جدًّا في مقام التعاطي مع الآخرين، من أنّ اعتذار المقتدر عن بذل خدمته لمن قدر عليها، فقد حجب عن نفسه الرحمة الإلهيّة في الدنيا وسلّط عليها من يفزعها في عالم البرزخ؛ وذلك لأنّه بذلك يفوّت على نفسه الخير الكثير، ومن الضروريّ أن يحاط الإنسان علمًا بأنّ مجيء صاحب الحاجة سببٌ لسوق الرحمة الإلهيّة إليه، فلينظر إلى كيفيّة تلقّيه للرحمة ولا يتمّ ذلك إلّا بإرجاع صاحب الحاجة بقضاء حاجته، ويشهد لذلك ما جاء في الأخبار أنّه من وضع الصدقة في يد الفقير فقد وقعت في يد الله قبل أن تقع في يده، ولذا يستحبّ له أن يقبّل المتصدِّق يد نفسه لملامستها يد الله -تعالى-، عن أبي الحسن (عليه السلام)، أنّه قال: «من أتاه أخوه المؤمن في حاجة فإنّما هو رحمة من الله -تبارك وتعالى- ساقها إليه، فإن قبل ذلك فقد وصله
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 2، ص197.
292
278
الموعظة الثالثة والأربعون: التكافل الاجتماعيّ
بولايتنا وهو موصول بولاية الله -تعالى-، وإن ردّه عن حاجته وهو يقدر على قضائها سلّط الله عليه شجاعًا من نار ينهشه في قبره إلى يوم القيامة مغفورًا له أو معذّبًا، فأعذره الطالب كان أسوأ حالًا»[1].
فضل عيلولة المحتاجين
قد يبذل المرء كثيرًا من المال ويجهد نفسه في طريق الحجّ المستحبّ، وقد يكون فيه إرضاء لربّه التزامًا باستحباب الحجّ وأنّه سنّة من سنن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولكن بإمكانه أن يبذل مالًا أقلّ ويتخلّص من عناء السفر الطويل ويعوّض على نفسه بكثرة النماء في المال وأضعاف مضاعفة للأجر والثواب، بأن يتولّى عيلولة أهل بيت من المسلمين، فعن الإمام الباقر (عليه السلام): «لئن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم فأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحجّ حجّة وحجّة مثلها ومثلها حتّى بلغ عشرًا»[2].
من لا ينبغي طلب الحاجة منه
1. شرار الخلق
عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «فليس من أحد إلّا وهو محتاج إلى الناس»[3].
لا يستطيع المرء، أن يكمل حياته أو يتمّ أعماله من دون حاجته إلى الناس أو حاجة الناس إليه، ولكن المهمّ اختيار من يريد الاعتماد عليه والرجوع إليه، وليس من الصلاح الاعتماد على أيّ فرد والرجوع
[1] الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج2، ص196. [2] المصدر نفسه، ج2، ص195. [3] الشيخ الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة، ج90، ص325.
293
279
الموعظة الثالثة والأربعون: التكافل الاجتماعيّ
إلى أيٍّ كان؛ إذ قد يترتّب بالاعتماد على بعض المفاسد ما لم يحتمل، ولكان في تحمّل الضير الذي كان فيه أقلّ مرارة من الضيم الذي أصابه من خلال الرجوع إلى بعض الذين هم شرار الخلق، ورد أنّ رجلًا قال بحضرة الإمام زين العابدين (عليه السلام): اللهمّ أغنني عن خلقك. فقال (عليه السلام): «ليس هكذا، إنّما الناس بالناس، ولكن قل: اللهمّ أغنني عن شرار خلقك»[1].
2. حديث النعمة
ومن جملة الأشخاص الذين لا ينبغي للإنسان أن يمدّ يده إليهم ليقضوا حاجته، هو حديث النعمة، عن الإمام الصادق (عليه السلام): «تدخل يدك في فم التنين إلى المرفق خير لك من طلب الحوائج إلى من لم يكن له وكان»[2].
وعن الإمام الباقر (عليه السلام)، أنّه قال: «إنّما مثل الحاجة إلى من أصاب ماله حديثًا كمثل الدرهم في فم الأفعى أنت إليه محوج وأنت منها على خطر»[3].
تطلبُ الحاجة منه؟
إذا كان لا بدّ لك من أفراد ترفع حاجتك إليهم فلا ترفعها إلّا لواحد من ثلاثة إمّا صاحب دِين، أو صاحب مروءة، أو صاحب حسب، عن
[1] الشيخ ابن شعبة الحرّانيّ، تحف العقول عن آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، ص278. [2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج78، ص248. [3] المصدر نفسه، ص174.
294
الولاية الاخبارية موقع اخباري وثقافي لمن يسلك الطريق الی الله