وبقيت جملة أخرى من كلامكم ، لابد لي من جوابها ، زعمتم : أن حديث المنزلة خبر واحد ، ثم قلتم : إن الخبر الواحد لا اعتبار به ولا اعتماد عليه .
أقول إذا يصدر هذا الكلام من أحد الشيعة فإنه يقبل منه ، لأنه على الأصل والمبنى المقبول عندنا .
ولكن صدور هذا الكلام من مثلكم يثير التعجب والتساؤل ، لأن في مذهبكم خبر الواحد مقبول وحجيته ثابتة ، حتى أن بعض علمائكم حكم بتكفير وفسق المنكر له ، فقد قال ملك العلماء شهاب الدين في كتابه ” هداية السعداء ” في فصل المضمرات من كتب الشهادات.
ومن أنكر الخبر الواحد والقياس ، وقال : إنه ليس بحجة ، فإنه يصير كافرا ! ولو قال : هذا الخبر الواحد غير صحيح ، وهذا القياس غير ثابت ، لا يصير كافرا ولكن يصير فاسقا !
الحافظ : لقد سررت جدا من حسن بيانكم وسعة اطلاعكم عن كتبنا ، وقد وجدتكم على خلاف ما كنت أسمع من قبل بأن علماء الشيعة لا يلمسون كتبنا ويعتقدون بنجاستها ، فكيف بمطالعتها ؟!
قلت : هذه أقاويل وأباطيل أعداء الإسلام ، فانهم يريدون أن يفرقوا بين المسلمين ، وفي المثل : ” يعكروا الماء ليصطادوا سمكا ” ، وهو من باب “فرق تسد ” .
يريدون فرض سيادتهم وهيمنتهم علينا ، ولكنا يجب أن نكون واعين في هذه الأمور ويجب أن نعرف خطط أعدائنا المستعمرين فنبينها لعامة الناس حتى لا يقعوا في شباكهم ، ويتبصروا في تشخيص مصالحهم ومضارهم ، فيخبوا آمال الأعداء بمخالفتهم .
يجب أن نوجه أتباعنا المسلمين إلى مفاهيم القرآن الكريم حيث يقول : ( إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )(9) .
على أثر غفلتنا عن القرآن ، وابتعادنا عن تعاليمه الحقة ، يتمكن عدو المسلمين أن يتصرف في أفكارنا ، فنصدق أكاذيبه ونعتقد بأباطيله ! منها ما كنت تسمعه ، كما قلت : بأن علماء الشيعة لا يلمسون كتبكم … إلى آخره .
نحن نأخذ كتب المرتدين والكفار والمشركين بكلتي يديدنا ونطالعها حتى نعرف ما يقولون ، فنأخذ صحيحها ونطرح سقيمها ، ونرد شبهاتها الموجهة إلينا ، فكيف بكتبكم وأنتم إخواننا في الدين ؟!
فاعلموا .. أننا على خلاف ما قيل لكم ، بل نحترم كتبكم ونطالعها بدقة وإمعان ، ونستفيد من أقوال علمائكم وأقوال محققيكم ، ونستفيد من الأحاديث والروايات الصحيحة المروية في مسانيدكم وصحاحكم ، وإن كثيرا من الكتب التي تدرس في حوزاتنا العلمية تكون من تأليف وتصنيف علمائكم .
منتهى الأمر بعض رواتكم المقبولين عندكم ، غير موثقين ولا معتبرين عندنا ، مثل : أنس وأبي هريرة وسمرة وغيرهم ، وهذا لا يخصنا الآن ، فإن بعض علمائكم أيضا لا يقبلونهم ، منهم : أبو حنيفة ، فإنه لا يقبل هؤلاء الثلاثة ونظراءهم !
وكتبكم عندنا معتبرة ونستفيد منها ، وأنا شخصا أكثر مطالعاتي حول النبي (ص) وسيرته المباركة وتاريخ الأئمة من آله صلوات الله عليهم تكون من كتبكم ، وأستند إليها في خطبي ومحاضراتي ، وأنقل منها أكثر مما أنقل من كتبنا .
وإن مكتبتي الخاصة تحتوي على أكثر من مائتي مجلد مطبوع ومخطوط من كتبكم المشهورة في التفسير والتاريخ والفقه والحديث والكلام والرجال و … .
ولكنا نطالع كتبكم مطالعة تحقيق وتمحيص فكما أن النقاد والصرافين يميزون بين الدراهم والدنانير ، والصحيحة من المغشوشة ، فكذلك نحن حينما نطالع أي كتاب لا نحسب محتوياته ومضامينه من المسلمات ، بل نتفكر فيها ونميز بين الأحاديث والروايات والمواضيع ، فنأخذ الصحيحة ونترك السقيمة ، ولا تؤثر فينا شبهات وتشكيكات الفخر الرازي ، ولا مغالطات ابن حجر ، أو إشكالات روزبهان ، او تكذيبات الآمدي وأمثالهم .
واعلم أن مطالعتي لكتبكم ، والنظر في الأحاديث المروية والمقبولة عندكم ، كانت السبب في معرفتي لأئمة أهل البيت (ع) أكثر ، ويقيني بعلو مقامهم وعظم شأنهم .
الحافظ : لقد ابتعدنا عن موضوع البحث ، فالرجاء بينوا وجه الاستدلال بحديث المنزلة ، على أن عليا كرم الله وجهه كان في رتبة النبوة ؟!
قلت : يثبت بهذا الحديث الشريف ثلاث خصائص للإمام علي (ع) :
1ـ مقام النبوة بأنه لو كان نبي بعده لكان عليا ولكنه (ص) خاتم النبيين .
2ـ مقام وزارة النبي (ص) وخلافته .
3ـ أفضلية الإمام علي (ع) على جميع الصحابة .
ودليل ذلك … أن النبي (ص) جعل الإمام عليا (ع) منه بمنزلة هارون من موسى ، وكان هارون نبيا ، وكان وزير موسى وخليفته في قومه ، وكان أفضل بني إسرائيل بعد أخيه موسى .
النواب : هل كان هارون نبيا ؟!
قلت : نعم .
النواب : عجبا ! إني ما سمعت بهذا من قبل ! فهل ذكر الله نبوته في القرآن الحكيم ؟!
قلت : نعم ، في سورة النساء ، الآية 163 ، قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ) .
وفي سورة مريم ، الآية 53 قوله تعالى : ( ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا ) .
الحافظ : إذا على هذا فمحمد وعلي كلاهما نبيان مبعوثان من عند الله إلى الخلق !
قلت : أنا لا أقول هكذا ، وأنت تعلم أن عدد الأنبياء كثير جدا ، وهو محل اختلاف بين العلماء ، حتى قال بعضهم : إن عددهم مائة وعشرون ألفا أو اكثر ، لكن كان أكثرهم يتبعون الأنبياء أولي العزم من الرسل وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وخاتمهم سيدنا ونبينا محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهارون كان نبيا غير مستقل وإنما كان تابعا لأخيه موسى ويعمل على شريعة أخيه .
كذلك الإمام علي عليه السلام ، كان تاليا لرتبة أخيه وابن عمه رسول الله (ص) واصلا مقام النبوة ولكن غير مستقل بالأمر ، بل كان تابعا لشريعة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد (ص) .
وكان غرض النبي (ص) من هذا الحديث الشريف أن يعرّف عليا عليه السلام لأمته في هذا المقام ، ويثبت له تلك الرتبة الرفيعة والدرجة العلية ، وهذه خصيصة عالية من خصائص الإمام علي عليه السلام .
وذكر ابن الحديد في ” شرح نهج البلاغة ” حديث المنزلة وعلّق عليه قائلا :
ويدل على أنه وزير رسول الله (ص) من نص الكتاب والسنة ، قول الله تعالى : ( اجعل لي وزيرا من أهلي * هارون أخي * أشدد به أزري * و أشركه في أمري )(10) .
وقال النبي (ص) في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام : ” أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ” .
فأثبت له جميع مراتب هارون من موسى .
فإذا هو وزير رسول الله (ص) وشاد أزره ، ولولا أنه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره(11).
وذكر العلامة محمد بن طلحة الشافعي حديث المنزلة عن النبي (ص) في كتابه مطالب السؤول : 1/ 54 ط دار الكتاب ، وعلق عليه فقال : فتلخيص منزلة هارون من موسى أنه كان أخاه ووزيره ، وعضده ، وشريكه في النبوة ، وخليفته على قومه عند سفره ، وقد جعل رسول الله (ص) عليا منه بهذه المنزلة ، وأثبتها له ، إلا النبوة ، فإنه (ص) استثناها في آخر الحديث بقوله : ” لا نبي بعدي ” فبقي ما عدا النبوة المستثناة ثابتا لعلي عليه السلام من كونه أخاه ووزيره وعضده وخليفته على أهله عند سفره إلى تبوك .
وهذه من المعارج الشراف ومدارج الإزلاف ، فقد دل الحديث بمنطوقه ومفهومه على ثبوت هذه المزية العلية لعلي عليه السلام ، وهو حديث متفق على صحته .
انتهى كلامه .