الدرس الثالث عشر: طاعة الولي مع اعتقاد المكلف بالخطأ
لو قطع المكلف بخطأ حكم الولي فهل تجب عليه طاعة الولي في ذلك الحكم أم لا؟ وهذا سؤال مهم يرتكز على جوابه النظام الإجتماعي العام القائم على مبدأ ولاية الفقيه، وربما يستعجل المرء في الجواب فيقول: لا تجب طاعة الفقيه هنا وإن كان ولياً، لأن القطع حجة ومع حجية القطع لا مجال لأمره بخلاف قطعه كما ثبت في علم الأصول.
لكن الحقيقة أنه لا يمكننا هنا تطبيق مبحث حجية القطع، وذلك إستنادا إلى علم الأصول ايضاً، ولتوضيح السبب في ذلك نقول:
من المعلوم أن الولي عندما يصدر حكمه يحتاج إلى مقدمتين أساسيتين: تشخيص الواقعة والموضوع، وتحديد حكمها الشرعي الكلي المعبر عنه بالفتوى، والحكم يصدره الولي بعد تطبيق الفتوى على المورد.
وعندما نتحدث عن القطع بخطأ الولي فإن للقطع بالخطأ حالتين:
إحداهما: القطع بخطأ الولي في الفتوى التي استند إليها في حكمه.
الثانية: القطع بخطأ الولي في تشخيص الموضوع.
ومن المهم هنا ذكر أحد التقسيمات التي يذكرها علماؤنا في مباحث علم
أصول الفقه حول أقسام القطع، لما له من الأثر المهم في توضيح وجهة نظرنا حول حكم المكلف لو قطع بخطأ الولي.
القطع قسمان: طريقي وموضوعي
فقد ذكر علماء أصول الفقه أن القطع تارة يكون طريقياً، وأخرى يكون موضوعيا أي يكون دخيلا في موضوع الحكم، ولتوضيح هذين الإصطلاحين نذكر مثالاً على ذلك.
لو قال لي إن صليت بثوب نجس فقد بطلت صلاتك، ثم صليت بثوب، وعلمت بعد الصلاة أنه كان متنجسا، ففي هذه الحال تبطل الصلاة ويكون هذا العلم طريقياً، لأن الحكم ببطلان الصلاة كان قبل العلم به، لأن البطلان تابع لكون الصلاة قد وقعت بثوب متنجس، سواء علمت بذلك أم لم أعلم، لكن لو قال لي إن صليت بثوب تعلم بنجاسته حين الصلاة فقد بطلت صلاتك، ثم صليت بثوب لم أعلم حين الصلاة بنجاسته، لكني علمت بها بعد الصلاة، ففي هذه الحال لا تبطل الصلاة التي صليتها، لأن النجاسة ليست لوحدها موجبة للبطلان، بل الفرض أن موضوع البطلان هو النجاسة المعلومة حين الصلاة، فالعلم مأخوذ في موضوع البطلان وهذا العلم يكون موضوعياً.
الفرق بين القسمين
ومن الفوارق بين القطع الطريقي والقطع الموضوعي، أن القطع الطريقي هو الذي ذكر في علم الأصول أنه لا يمكن سلب الحجية عنه، بينما الموضوعي لا يوصف بهذا الوصف كما ثبت في ذلك العلم.
ومن الفوارق أيضاً، أن القطع الطريقي لا يختلف أثره بين أسباب القطع وأنحائه وخصوصياته، بينما القطع الموضوعي يمكن أن يكون المأخوذ في الموضوع قطع محدد إما بتحديد زماني أو بتحديد مكاني أو بتحديد شخص القاطع أو بسبب خاص أو بأي تحديد آخر.
أثر هذا التقسيم في البحث
وعند الحديث عن القطع بخطأ الولي بالتشخيص، علينا أن نحدد هل القطع بالتشخيص هو من القطع الطريقي أم من القطع الموضوعي، وعلى تقدير أنه موضوعي، فأي قطع هو الذي أخذ في الموضوع.
ومن الواضح أننا عندما نلتزم بولاية الفقيه سواء كان دليلنا النصوص الشرعية أم العقل، فإن مقتضى هذه الولاية هو كون تشخيص الولي في دائرة الولاية وحدودها دخيلاً في موضوع حكم العقل والشرع بوجوب طاعة الولي، سواء كان تشخيص الولي ظنيا أم قطعياً، لكن يشترط إن كان ظنياً، أن يكون الظن معتبراً، أما تشخيص غير الولي فلا يشكل موضوعا لحكم شرعي لا بحق القاطع ولا بحق الولي، وبالتالي فإن القطع المأخوذ في موضوع الحكم الذي تجب الطاعة فيه هنا هو قطع موضوعي لا طريقي، كما أنه ليس كل قطع مأخوذا في موضوع هذا الحكم، بل هو خصوص قطع الولي.
وهكذا نستطيع أن نقول هنا أيضاً بأن رأي الولي حتى في دائرة الإفتاء، له موضوعية في حكم الشرع والعقل.
وهذا الذي ذكرناه في هذا البحث متسالم عليه بين العلماء في مسألة الولاية كالولاية على الأيتام والقصر والغائب والقضاء وغيرها، أي في كل مورد جعلت فيه الولاية للفقيه، فإن العبرة حينئذ في مقام التطبيقات العملية لهذا المورد بالرأي الفقهي لهذا الفقيه دون غيره من الفقهاء وإن كان مرجعاً.
ولا يعني وجوب الطاعة في باب الولاية سواء الولاية على مستوى الحكومة أم ولاية القضاء أن الحكم الواقعي هو ما حكم به القاضي أو الوالي، بل نحن نعترف بأن القاضي أو الوالي قد يخطئ بالحكم لكن مع ذلك تجب طاعته ما دام غير مقصر وغير قاصر.
والدليل على ذلك: أمران
الأول: أن هذا هو معنى الولاية الثابتة بالنص والعقل، لأن الحكم الذي
يطلب من الولي الحاكم ليس حكماً فردياً ليوكل أمرالتشخيص فيه إلى المكلف الفرد، بل هو حكم من شؤون المجتمع وقد أوكل فيه الأمر فقط إلى الولي، نعم يمكن أن يكون لتشخيص غير الولي أثر من حيث أنه يهيئ مورداً من موارد الإشارة والنصح للولي بمعنى أن من يحصل له القطع بالخلاف يجب عليه تنبيه الولي.
الأمر الثاني: رواية عمر بن حنظلة، حيث فيها قاعدة لها نفع في باب القضاء خاصوصاً في وباب ولاية الفقيه عموماً. وهي التي نهى فيها الإمام عليه السلام عن رد الحكم بقوله: “فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم اللّه وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله وهو على حد الشرك باللّه”. وهو نهي يدل بالدلالة الإلتزامية على أن رأي الحاكم له موضوعية في ترتيب الأثر.
وإذا أردت المزيد من التوضيح فانظر إلى باب القضاء مثلاً، فإنه لو ترافع شخصان عند قاض مجتهد له كفاءة القضاء فإن حكمه ملزم حتى وإن كان الرأي الفقهي أو تشخيص أحد الطرفين أو غيرهما مختلفاً عن تشخيص القاضي أو رأيه الفقهي، بل حتى لو قطع أحد الطرفين أو غيرهما بخطأ القاضي في تشخيصه ورأيه، فهذا لا يفيد القاطع شيئاً كما لا يلزم القاضي بشيء، بل يجب على طرفي النزاع وغيرهما ترتيب آثار الحكم وإن قطع قاطع بخطئه، إلا إذا كان هناك إهمال أو تقصير أو قصور.
إمكان القطع بخطأ الولي
عند التدقيق سنجد أن تحصيل القطع بخطأ الفقيه في التشخيص أو في الفتوى أمر نادر الحصول، إذ أن الفتاوى والتشخيصات ليست بالأمر الحسي عادة حتى يمكن بوضوح وسهولة أن نقطع بالخطأ، والقدرة على تحصيل هذا القطع لا تتأتى من كل أحد حتى وإن كان فقيهاً فإن الفقيه لا يملك القطع تجاه كثير من آرائه الفقهية وإن حصلها من خلال الحجة.
تنبيه:
هناك حالات يمكن أن يسمح للمكلف بأن يعمل وفق علمه، وذلك إذا كان مدلول الحكم: إن كان هذا هو الواقع فالحكم كذا، فمن يرى الواقع غير هذا فالحكم منتف بحقه، وهذا المدلول او الصياغة للحكم تسمح للمكلف بأن يخالف إن تبين له أن الواقع هو غير ما افترض في الحكم، لأن الولي في المسألة المذكورة قد علق الحكم على موضوع ليس لتشخيص الولي دخل في موضوعيته، بل كان الواقع بتمامه هو الدخيل، وهذا النوع قد يسمى في كلمات بعض العلماء بالحكم الكاشف، وكمثال على ذلك: حكم الحاكم بدخول شهر رمضان أو العيد، فإن هذا الحكم نافذ في حق الشاك، أما مَنْ علم أن الشهر لم يدخل، فحكمه غير نافذ بالنسبة إليه ويستطيع هذا المكلف أن يخالف، لكن لا يجوز له أن يجاهر بذلك إن كان فيه تضعيفاً لمقام الولاية.
ولذا فإن الإمام الخميني قدس سره رغم أنه كان يرى الولاية المطلقة للفقيه قال في باب حكم الحاكم بالشهر، بأنه لا يجب على المكلف الإلتزام به مع القطع بالخطأ.