ولو غضضنا النظر عن كلّ ما تقدّم يمكن القول: إنّ الإنسان التقيّ لا يهدر قواه وطاقاته في مجالات اللغو واللهو والعبث والمحرّمات، فتبقى له هذه الطاقة لوقت الشدّة، فتراه أقدر على حلّ المشكلات الّتي تعترض طريقه في الحياة، وعلى اتخاذ القرارات الصائبة الّتي تمكّنه من الخلاص من كلّ ما يقع فيه من الشدائد والصعاب.
ولعلّ في قصّة يوسف عليه السلام ما يشير إلى ذلك، فإنّه قد اتقى الله، ولم يخضع للإغراء على عِظمه وشدّته فأوصله الله إلى أن يكون “عزيز مصر”، فتقواه بالأمس جعلته أقدر على مقارعة الصعاب، وأبصر في الأمور، حتّى قال لحاكم مصر:
﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾23 .
23- سورة يوسف، الآية: 55.
وهكذا بيّن لإخوته هذه القاعدة فقال:
﴿إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾24 .
وهكذا نجد الإمام الحسين عليه السلام يؤمن بهذه القاعدة، حيث يلتفت إلى أهل بيته يودّعهم ويقول:
“استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حافظكم وحاميكم، وسينجيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم الله عن هذه البليّة بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم”.
وهذا ما كرّرته الحوراء زينب عليها السلام بجمل جديدة، وهي تؤكّد تلك القاعدة، فوقفت تخاطب يزيد بن معاوية قائلة:
“فكدْ كيدَك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا يرحض عنك عارها…”.
24- سورة يوسف، الآية: 90.
الخلاصة
1- التقوى تخلِّص الناس من كلّ الآلام والابتلاءات الّتي يعانون منها، إذ إنّها تجعل الناس يلتزمون بالقوانين والمقرّرات الّتي تحفظ للناس سعادتهم وراحتهم، وأمّا إذا غابت التقوى من حياة الناس فلن تُجدي كلّ قوانين العالم ودساتيره لتنظيم الحياة واستقرارها.
2- وكذلك تنفع التقوى في المحافظة على صحّة الجسم وسلامته، فإنّ التقوى إذا سادت في المجتمع توفّرت الطبابة الجيّدة والأدوية الجيّدة، كما أنّ التقيّ المقتنع بحدوده، الراضي بحقوقه، أهدأ أعصاباً، وأسلم قلباً وروحاً من غيره، فيطول عمره.
3- وللتقوى أثران آخران، وهما: تنوير البصيرة وتقوية العقل، وإزالة الشدائد والصعاب من طريق الإنسان.
أمّا الأوّل، فهو بمعنى أنّ التقوى تكبح جماح أهواء وأطماع النفس الّتي هي أعدى أعداء الإنسان، لعداوتها مع العقل الّذي هو خير صديق للإنسان، والتقوى بفعلها
هذا تقضي على عدو العقل، الأمر الّذي يجعل يد العقل حرّة طليقة في اختيار الخطّ والنهج الّذي ينبغي للإنسان أن يسير وفقه في هذه الحياة، وبهذا تكون التقوى سبباً في تقوية العقل، أو قل ممارسة العقل لقوّته المودعة فيه، لاختيار المسار الّذي يجب على المرء أن يسير وفقه في هذه الحياة.
وأمّا الثاني، فهو بمعنى أنّ التقوى تجعل الإنسان ملتزماً بالخطّ الّذي أراد الله له أن يسلكه في هذه الدنيا، وهو الخطّ الّذي يكفل للمرء السعادة والهناء في الحياة، وبالتالي لن تعترضه المشاكل والصعاب.
وإن اعترضه بعضها لغفلة أو ما شابه ذلك، فسرعان ما سيرجع التقيّ إلى الصراط المستقيم، فتُحلُّ مشاكله كلّها، مع الإشارة إلى أنّ التقيّ سيكون أقدر من غيره على مواجهة المشاكل وحلّها، لما قد اختزنه في نفسه من الطاقات والقوى، الّتي لم يجعلها تضيع في السعي وراء اللهو والعبث والمحرّمات.