بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطاهرين وبعد.
ذكر أرباب معاجم اللّغة أنّ لفظ (الوصيّة) مأخوذ من قولهم: أَوْصى النَّبْتُ، أي: كَثُرَ فاتّصل بعضه ببعض[1]. ثمّ استُعير هذا اللّفظ لـ (الوصيّة) بحسب معناها المتعارف، قالوا[2]: ذلك لأنّ الموصِي يُوصِل جلّ أمره إلى الموصَى إليه، فكأنّ الموصِي ـ ببركة الوصيّة ـ قد اتّصل بالموصَى إليه. معنى ذلك: أنّ الموصِي، وهو فاعل الوصيّة وصاحبها، يُودع خلاصة تجاربه أو مشاعره أو همومه أو رؤاه عند الموصَى إليه، وهو الشخص المتلقّي للوصيّة والمخاطَب بها، فكأنّ الوصيّة جاءت لتبني صلةً، وعلاقةً، وارتباطاً بين الطرفين.
ولقد دأب أنبياء الله تعالى وأولياؤه على الوصية بالخير إلى الناس عامة وخاصة، وهذا ما نرى أمثلة له في القرآن الكريم، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾[3].
وهكذا كان رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة من أهل بيته عليهم السلام وكذلك درج على ذلك علماؤنا الأبرار، والمثال البارز في هذا المقام وصايا الإمام الخميني العامة
والخاصة، وإن ننسى لا ننسى وصايا الشهداء التي تهزّ مشاعر الإنسان هزّاً.
إنّ الوصيّة التي تحمل هذه الأهمية من رجال الله تتطلّب وجود حالةٍ لدى الموصَى إليه يُقابل بها ما أبرزه الموصِي من العطف والشفقة والحرص والمحبّة، وتُسمّى هذه الحالة – حسب تعبير الإمام الصادق عليه السلام: “يَا بُنَيَّ اقْبَلْ وَصِيَّتِي وَاحْفَظْ مَقَالَتِي” – قبولاً، وحفظاً.
فأمّا القبول: فهو أن يكون الموصَى إليه مستعدّاً – على المستوى القلبيّ – لإنفاذ وصيّة الموصِي، ولا يكون ذلك إلّا بعد معرفةٍ ويقين منه بأنّ الموصِي قد قرّبه وأدناه وأنزله من نفسه منزلةً عظيمةً، بحيث اختصّه بهذا المقام، مقام مَنْ يرى فيه محلّاً للأمانة، وأهلاً لأن يُودِعه ما لديه من خلاصة عمره وتجاربه ومعارفه ومشاعره وتطلّعاته ورؤاه، ولأنّه يراه كذلك، فقد فتح له شغاف قلبه، وأقبل عليه بخالص حبّه، ونفخ فيه من روح عمره. وعندما يحصل للموصَى إليه هذا اليقين، وهذه المعرفة، فلن يكون بمقدوره إلّا أن يُقابل الموصِي بمثل ما ابتدأه به، بأن يفتح ـ هو الآخر ـ قلبه لتلقّي
الوصيّة منه، ويعلن استعداده للعمل بمضمونها.
وأمّا الحفظ: فهو – بالنسبة إلى الموصَى إليه – يمثّل الجانب العملانيّ والتطبيقيّ, فإنّ قبول الموصَى إليه للوصيّة، بمثابة
عهدٍ قطعه على الموصِي بأن يُنفذ وصيّته، ويضعها أمانةً في عنقه، ووديعةً عنده. ومن قطع عهداً على نفسه كان لزاماً
عليه الصدق والوفاء به، ومن أعلن جهوزيّته لتحمّل الأمانة وجب عليه أن يؤدّيها ويؤدّي حقّها. ومعلوم أنّ أداء الأمانة، والوفاء بالعهد، لا يكفي فيه الالتزام والاستعداد القلبيّ، بل هو يستدعي أيضاً مراقبةً عمليّة دائبةً ومستمرّة،
مراقبةً تترافق معه في جميع ظروفه وأحواله، حركاته وسكناته، ساعات ليله وآنات نهاره. فحفظ الوصيّة لا يكون إلّا بالالتزام العمليّ والمسلكيّ بها، بجعلها طريقة عيشٍ وأسلوب حياة.
فإنْ فَعَل ذلك، كان أميناً، وفيّاً، صادقاً.
وإن فَعَل ذلك، عاش سعيد, لأنّه بذلك ينال ما احتوت عليه الوصيّة من الخير،
ويُدرك ما فيها من المصلحة والمنفعة العائدة إليه.
وإن فَعَل ذلك، مات حميداً، أي: محموداً، يمدحه الناس في الدنيا، ويحمدون سيرته، ويذكرون خصاله وأمانته، ويشيدون بصدقه وفضائله. ثمّ عندما يقضي نحبه وتتوفّاه الملائكة، تتوفّاه صادقاً مع نفسه غير ظالمٍ لها، ويسلّم روحه إلى بارئها وقد صدق ما عاهد الله عليه، فيكون محموداً في آخرته كما كان في دنياه، ويعلو في أهل السماء ذكره كما كان حَسَن السيرة والسلوك في أهل الأرض. وذلك هو قول الإمام الصادق عليه السلام: “يا بنيّ! اقبل وصيّتي، واحفظ مقالتي, فإنّك إنْ حَفِظْتَها تَعِشْ سعيداً، وتَمُتْ حميداً”[4].
ونظراً لما في هذه الوصايا من قيمة علمية وتربوية، وأثر في النفس فإنّنا خصّصنا هذا الكتاب بمجموعة من هذه الوصايا العميقة في أثرها على الفرد والمجتمع.
مركز نون للتأليف والترجمة
[1] ابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 395، مادّة (وصي)، ط نشر أدب الحوزة، قم، إيران، 1405 هـ.
[2] الطوسيّ، شيخ الطائفة، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 473، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العامليّ، الطبعة الأُولى، ط دار إحياء التراث العربيّ، بيروت، لبنان.
[3] سورة البقرة، الآية: 132.
[4] المجلسيّ، المولى مُحَمَّد باقر، بحار الأنوار، ج 75، ص 201، تحقيق علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية المصحّحة، ط مؤسّسة الوفاء، بيروت، لبنان، 1983 م.