الإسلام حريص على تقوية أواصر حسن الجوار مع كافة المجتمعات، كما يعتبر التسامح من خصائصه المهمة، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال أحكامه وتعاليمه الاجتماعية. ولذا فإن الشريعة الإسلامية تنظم روابط المسلمين فيما بينهم وأيضا توكّد على ثقافة التسامح والتساهل مع أصحاب الأديان الأخرى.
وقد جعل الله تعالى علاقات البشر فيما بينهم مبنيّة على أساس الأخوة والألفة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} الحجرات:10, بعيداً عن الغضب والتعصب الطائفي والعشائري: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} النحل:90، فقد كانت سيرة النبي| مبنيّة على ذلك.
كما يوصي القرآن الكريم المسلمين أن يتعاونوا فيما بينهم لحل الأمور العالقة[1]: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} المائدة:2. وقد ورد في بعض الروايات أن الإمام علي × لم يتّهم أعدائه في الحروب الثلاثة (الجمل، صفين، النهروان) التي فرضت عليه بل كان يصفهم قائلاً ×: كانوا أخواناً لنا فظلمونا، وكان يحسن إليهم كسائر المسلمين.[2]
ويحذّر القرآن الكريم أتباعه من الظلم لأعدائهم المشركين ويَنهاهم عن سَبّهم وشتم عقائدهم، {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} الأنعام:108، حيث أوجب الله تعالى في كل زمان ومكان الإلتزام بهذه الآداب للمعاشرة، وعدم الانتقاص منهم ومن عقائدهم. فيمكن التعايش مع الكفار وإقامة روابط صلح ما داموا لم يلحقوا الأذى بالمسلمين: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} الممتحنة: 8. وأما في حالة الاعتداء فلابد للمسلمين المقابلة بالمثل: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ} البقرة:190، وهذا أمر يتّفق عليه كل العقلاء. وقد أمر الإسلام بالصلح مع الكفار عند ميلهم إليه، ويجب على المسلمين قبول ذلك منهم: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ} الأنفال:61.[3] وهناك أحكام خاصة في حالة الحرب أو الصلح منها، أنه يجب عدم إلحاق الأذى أو قتل طاعني السن والنساء والأطفال وكذلك الأسرى، ويمنع من قطع الماء على الأعداء، وأيضاً لا يمكن التمثيل بجثث القتلى.[4] بل القرآن يأمر بالتساهل والتسامح حتى مع الأعداء، فيوصي المسلمين بالعفو والصفح وغضّ النظر عن أعمالهم قدر الأمكان: {…وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلًا مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} المائدة: 13؛ كما يوصي المسلمين بالمحافظة على حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، فلعل العطف والمحبة التي يلاقوها من الإسلام تجعل قلوب الكفار تتجه نحو الإسلام.
والظاهر من بعض الآيات أنها تنهى المسلمين عن الصداقة مع غير المسلمين: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء} آل عمران:28، ولكن عند التدبّر والتمعن في سياق الآيات الأخرى يتبين المراد منها، واختصاص حكمها بغير المسلمين الذين هم في صدد إيجاد الفتنة وإلحاق الضرر بالإسلام: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} آل عمران: 118 أما إيجاد الصداقة مع غير أولئك فلا إشكال فيه[5]، وقد صرّحت بعض الآيات بذلك: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً…} الممتحنة: 7.
وهناك بعض الأحكام يعتقد البعض أنها تخالف التسامح والتساهل مع غير المسلمين، كفرض الجزية على غير المسلمين في حال تواجدهم تحت راية الإسلام، ولكن بعد التمعن في هذا الأحكام نجد أنها وضعت لأجل تقوية البنية الاقتصادية للدولة الإسلامية وتساعدها على إدارة الأمور[6] وحالها حال ما يؤخذ من المسلمين من ضرائب خاصة كالخمس والزكاة وغيرها.[7] وعلى عكس رأي بعض المفسّرين ـ وهم قلّة ـ فإن الآية {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} التوبة:29 لا تستلزم الإهانة والاستحقار لغير المسلمين بسبب تواجدهم في بلاد المسلمين[8]، بل ذهب أكثر الفقهاء[9] والمفسّرين[10] في تفسيرهم للآية أن كلمة «صاغرون» تعني التمكين والطاعة من قبل غير المسلمين للحكومة الإسلامية. وعند مقارنة الآية مع الآيات الأخرى والتي تنص على التودّد لغير المسلمين في صورة عدم سعيهم بالحاق الأذى بالإسلام والمسلمين، نجد أن الرأي الاخير هو الأقرب إلى ثقافة القرآن، مضافا إلى ذلك الروايات الكثيرة وسيرة النبي والأئمة المبنيّة على إيجاد المحبة والألفة مع غير المسلمين.[11]
[1] قرب الاسناد، ص94؛ وسائل الشيعة، 15/ 83.
[2] دراسات في ولاية الفقيه،2/ 806- 807؛ نظام الحكم في الاسلام، 409.
[3] مجمع البيان، 4/853.
[4] المصدر السابق، 5/ 40.
[5] المنار، 3/ 278 و4/ 82.
[6] منتهى المطالب،2/ 959؛ المنار، 10/ 294؛ الميزان، 2/ 246.
[7] موسوعة الفقه شيرازى، 48/ 48.
[8] انظر: الام، 4/ 186؛ جواهر الكلام، 12/ 248.
[9] المبسوط،2/ 38؛ الاحكام السلطانية والولايات الدينية، ص227؛ جواهر الكلام، 21/ 247.
[10] المنار، 10/ 389؛ تفسير المراغي، 10/ 91؛ الميزان، 9/ 246.
[11] من لا يحضره الفقيه، 3/ 24؛ نهج البلاغة، 3/ 84.
بقلم ندى الحجاج ـ العراق