الفصل الثاني
مظاهر العدل الاِلهي
في عالم الخلق
آيات الموضوع
1.(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها وَأَلْقَى فِي الاََرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوجٍ كَريمٍ) .(1).
2.(إِنَّ اللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالاََرْضَ أَنْ تَزُولا).(2)
3. (وَالسَّماءَ رَفَعها وَوَضَعَ الْمِيزان) . (3)
إنّ لعدله سبحانه مظاهر في عالم الخلق والتشريع، و سنعرض في هذا الفصل مظاهر عدله في عالم الخلقة.
* 1. السماوات ورفعها بغير عمد
يقول سبحانه في هذا الصدد:(خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَونَها) .
____________
(1)لقمان:10.
(2)فاطر:41.
(3)الرحمن:7.
——————————————————————————–
( 22 )
إنّ رفع صرح هذا البناء الشامخ دون الاستعانة بدعائم مرئيَّة يكشف عن تناغم دقيق في عالم الخلقة، ولولاه لتداعت أركان العالم وانهارت، وهذا النظام الرائع تقاسمته قوّتا الجاذبية والطاردة(النابذة)،وفي ظلّ التعادل القائم بينهما انتظمت حركة النجوم و الكواكب والمجرّات في مساراتها.
فالجاذبية قانون عام جار على جميع الاَجسام في هذا العالم، وهي تتناسب عكسياً مع الحدّ الفاصل بين الجسمين إذ تتعاظم كلما تضاءلت المسافة، وتتضاءل كلما ازدادت الفاصلة، فلو دارت رحى النظام الكوني الدقيق على قوة الجاذبية فقط لارتطمت الكواكب والنجوم بعضها مع بعض ولتداعى النظام السائد، ولكن في ظـل قانون الطرد يحصل التعادل المطلوب، وقوة الطرد تلك تنشأ من الحركة الدورانية للاَجسام.
ومهما يكن من أمر ففي ظل هاتين القوتين تبقى الملايين من المنظومات الشمسية والمجرّات معلّقة في الفضاء دون عَمَد ، وتحول دون سقوطها وفنائها، وإلى هذه الحقيقة يشير القرآن الكريم، ويقول: (اللّهُ الّذي رفع السَّماوات بِغَير عَمَدٍ تَرَونها) .(1)
وتتضح دلالة الآية من خلال ملاحظة أمرين:
الاَوّل: انّ قوله «ترونه» وصف لـ «عَمَد» و هي جمع عمود.
الثاني: انّ الضمير في «ترونها» يرجع إلى الاَقرب الذي هو «عمد» لا إلى السماوات التي هي أبعد، ومعنى الآية أنّه سبحانه رفع السماوات من دون أعمدة مرئية ، و هو لا ينفي العمود بتاتاً، بل و إنّما ينفي العمود المرئي، ولازم ذلك وجود العمد في رفع السماوات من دون أن يراها البشر، وهذا هو المعنى الذي اختاره ابن
____________
(1)الرعد:3.
——————————————————————————–
( 23 )
عباس وغيره.(1)
وهو الظاهر مما رواه الحسين بن خالد، عن علي بن موسى الرضا – عليه السّلام- ، فإنّه – عليه السّلام- قال في تفسير الآية: «أليس اللّه يقول: بغير عمد ترونها؟» فقلت: بلى، قال: «ثمَّ عَمَد لكن لا ترونها ».
ويوَيده ما روي عن الاِمام علي – عليه السّلام- ، انّه قال: «هذه النجوم التي في السماء مدائن مثل المدائن التي في الاَرض، مربوطة كلّمدينة إلى عمود من نور».(2)
ورواه الطريحي أيضاً لكن قال: «عمودين من نور» مكان قوله«عمود من نور».(3)
ولعل المراد من العمودين هما قوتا الجاذبية والطاردة.
إنّ الكتاب الكريم صاغ الحقيقة المكتشفة من قبل «نيوتن»، بعبارة يسهل فهمها على عامة الناس، وقال: (بغير عمد ترونها).
وقد أشار سبحانه في غير واحد من الآيات، أنّه سبحانه هو الممسك للسماوات من الزوال، وقال: (إِنّاللّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالاََرْض أَنْ تَزُولا) .(4)
وكونه سبحانه هو المُمْسِك لا يمنع من وجود علل طبيعية حافظة لسقوط السماوات وزوالها، فقد جرت سنّته سبحانه على تدبير العالم من خلال العلل الطبيعية التي هي من سننه سبحانه وجنوده الغيبية.
وأشار الاِمام علي بن أبي طالب – عليه السّلام- في غير واحد من خطبه إلى خلقة الاَرض، و قال: «أرساها على غير قرار، وأقامها بغير قوام، ورفعها بغير دعائم».
وعلى كلّ تقدير فالتوازن الموجود في خلق السماوات والاَرض هو مظهر من
____________
(1)التبيان:6|213.
(2)سفينة البحار:مادة نجم.
(3)مجمع البحرين: مادة كوكب.
(4)فاطر:41.
——————————————————————————–
( 24 )
مظاهر عدله في عالم الخلقة.
* 2. الجبال وحركاتها
وليس رفع السماوات و إبداعها وتنظيم حركاتها هو الوحيد في كونه مظهراً لعدله سبحانه في التكوين، بل إبداع الجبال وإيجادها مظهر آخر من مظاهر التوازن والتعادل في الخلقة.
يقول سبحانه: (وَأَلقى فِي الاَرْضِ رَواسيَ أَنْ تَميدَ بِكُمْ) .(1)
وقال سبحانه: (وَالجِبالَ أَوتاداً) .(2)
إنّ الرواسي التي استخدمها القرآن جمع «راسية»، والمراد منها الاَََنجَر التي هي مرساة السفينة، فللجبال دور المرساة، فكما أنّها تحول دون اضطراب السفينة وتقاذفها من قِبل أمواج البحر العاتية، فهكذا الجبال لها دور في تنظيم حركة الاَرض.
وإلى هذا الحقيقة يشير الاِمام أمير الموَمنين – عليه السّلام- في بعض خطبه، ويقول: «وتّد بالصُّخُُور مَيدان أَرضه».(3)
وقال – عليه السّلام- أيضاً: «وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها».(4)
* 3. الحياة وتوازنها الدقيق
إنّ من مظاهر عدله سبحانه وجود الحياة في الاَرض، وهي رهن توفر
____________
(1)النحل:15. وقد جاءت أيضاً بنفس العبارة في سورة لقمان الآية 10.
(2) النبأ:7.
(3)نهج البلاغة: الخطبة 1.
(4)نهج البلاغة: الخطبة 87.
——————————————————————————–
( 25 )
الظروف المناسبة لها، مثلاً انّالفاصلة الدقيقة بين الشمس والاَرض هيّأت أجواءً مناسبةً لنمو ورشد الخلايا، و هذه ما كان لها أن تنمو لو طرأ على تلك الفاصلة أدنى تغيير. و هذا يرشدك إلى توازن دقيق للغاية بين السماء والاَرض.
واعطف نظرك إلى النباتات والحيوانات، فانّ حياة الحيوان رهن استنشاق غاز الاَوكسجين( O2 ) الذي تُولّده النباتات، وحياة النبات رهن استنشاق غاز ثاني أوكسيد الكاربون ( CO2 ) الذي تُولّده الحيوانات من خلال تنفّسها، فالتوازن الموجود بين الاِنتاج والاستهلاك مهّد المناخ المناسب لحياة كلّمن النبات والحيوان، فلو كانت الاَرض محتضنة للحيوان فقط أو للنبات فقط لما قامت للحياة قائمة.
فالتوازن القائم بين الغازين على وجه البسيطة مظهر من مظاهر عدله سبحانه، يقول سبحانه: (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوجٍ كَرِيم)(1)
ويزخر عالم النباتات والحيوانات بعدد لا حصر له من هذا النوع من التوازن والتعادل، وها نحن نذكر نموذجاً آخر.
كان الملاّحون يعانون من مرض تشقّق الجلد وسيلان الدم منه، وسببه يعود إلى قلة الفيتامينات في أبدانهم، إلى أن اكتشف أحد الاَخصائيين في «مدغشقر» أنّ علاجه الوحيد هو تناول وجبات كافية من الليمون والنارنج، ففيها كمّيات هائلة من تلك الفيتامينات، وبذلك نجا الملاّحون من هذا المرض الذي كانوا يعانون منه.
____________
(1)لقمان:10.