الرئيسية / الشهداء صناع الحياة / الشهيد القائد الدكتور مصطفى شمران

الشهيد القائد الدكتور مصطفى شمران

دهلاوِيّه تضجّ بحدث كبير

كانت الأهواز في سكون الليل ترى تباشير النصر الجميل. من كان يدري غد “دهلاوِيّه” على أيّ حالٍ سيكون؟! لا أحد كان يعلم ذلك سوى الله وربّما سواتر الأهواز الترابيّة!!

كان الليل يخبِّئ حدثًا أليمًا وكأنَّه في صمتٍ مميت ينتظر خبرًا من نسيم الصباح.

لم يكن يبالي بالظلام من حوله، ذرف دموعه مرّاتٍ ومرّات قائمًا في محضر الباري باثًّا نجواه وأسراره. لتفيض روحه بالمناجاة في الصلاة مرّةً أخيرةً, فيخلِّد أمانيه على صحيفة العشق قائلًا: “أشكرك يا ربِّ إذ صهرتني في نار العشق، أشعر أنَّ هذه الدنيا ليست مكاني، ألتجئ إليك إلهَي، هاربًا من العالم والعالمين، فأسكنِّي في جوار رحمتك”.

في وقت السحر في يوم 21 حزيران لعام 1981م، استشهد قائد منطقة دهلاوِيّه الشهيد “إيرج رستمي”، وعندما عَلِمَ الدكتور شمران بذلك حزن كثيرًا واغتمّ فؤاده لهذه الحادثة غمًّا شديدًا.

عمَّ الحزن مركز القيادة، لفراق هذا القائد، خصوصًا أصدقاءه والمجاهدين المقرَّبين منه, فبعضهم بكى بمرارة، وبعضهم دُهشوا لهول الخبر واكتفوا فقط بتبادل النظرات الحزينة. كانت رائحة الموت تفوح في المكان، ونسيم الشهادة يهبّ من الجدران والأبواب، من المدينة ومن الجبهة، وكأنّ الجميع في هذا السكوت المميت الذي يلفّ المكان، ينتظر حادثة أليمة وزلزالًا مرعبًا.

أَحضَر الدكتور شمران أحد القادة إلى الجبهة ليكون بديلًا عن الشهيد رستمي في دهلاوِيّه. وعند خروجه من مركز القيادة ودّعه من كان حوله، واقتفى الرفاق أثره بنظراتهم وآذانهم فكان وداعًا يحمل غمًّا عميقًا وحزنًا شديدًا، وألمًا يثقل القلوب ويدمي العيون.

ليلة البارحة، أوصى الدكتور شمران أصحابه خلال الجلسة الأخيرة لمركز القيادة، بوصايا غير مسبوقة، والله وحده يعلم ما كان يخبئه وجهه الملكوتيّ الهادئ وأيّة ثورة كانت تضجّ في أعماقه، شوقًا للرحيل. كان في انتظار الشهادة، فكم من رفيق وعزيز له قد رحل، وكم من صاحب وحبيب قد قضى نحبه أمامه ورفعه على كتفيه، وهو الآن يمضي إلى مثواه ومستقرّه، وآن له أن يلتحق بهم على مذبح الشهادة والفداء! كان يحترق شوقًا، وكان الله يمتحنه ويبتليه في أصعب المواقف، فيصقل روحه لتزداد ذوبانًا، وانصهارًا في معدن الدماء، حتَّى يباهي الله الملائكة بقربان رفيع من أهل الأرض، فيقول لهم: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ .

الوجه المشرق
كم كان وجهه يشعّ في الليالي الحالكة، فحينًا كان يبتسم ابتسامة حزينة، لعله كان يفكِّر بأصحابه في “باوه” وفي جبال كردستان العالية، وفي حصار “سوسنكرد”، وحلم “قادسيّة العدوّ” الذي ذهب مع الريح، أو حلاوة الانتصار في “مرتفعات الله أكبر”. وحينًا يذكّر بريقُ دموعه اللؤلؤيّة بالدم القاني للمجاهدين في لبنان، عند مرتفعات جبل عامل, ونظرات اللاجئين الفلسطينيّين المنكسرة، كذلك يذكّرني بالأجساد المقطَّعة إربًا لجنود الحرس في “باوه”، وحسرة اللحاق بأولئك الذين حلّقت أرواحهم هذه الليلة, كلّ ذلك ظهر بجلاء على مرآة الدموع المنهمرة من عينيه.

وأخيرًا، طلع الصباح، وأرخى النسيم جناحيه من دهلاوِيّه إلى الأهواز، وبثّ عطر الشهادة حاملًا رايتها في “علقمة دهلاوِيّه”، – كزهرة الهندب الطريّة -، في كلّ الأرجاء، وعمَّت الدهشة والحيرة، وكانت دموعه، وصمته قد أثقلا كاهله بآلاف الصرخات. وفي خضمّ هذا الضجيج الساكن، كان لا بدّ لمنكبَيه العريضَين أن يتحمَّلا حملًا ثقيلًا آخر. نهض ليحضر إلى المعركة قائدًا أو حامل رايةٍ آخر. فالمكان عبق بأريج كربلائيّ، ورويدًا رويدًا بدأ يقترب من مذبح الشهادة، فالله وحده يعلم أيَّ إعصارٍ هبّ في قلب ذلك البحر الهادئ، وأيَّة أمواجٍ عاتية راحت تتلاطم على ضفّة ضجرٍ لا خلاص له

ولا قرار دون تحطيم جدران هذا البدن الترابيّ، والوصول إلى ساحل الانعتاق من قيود الدنيا.

توجّه نحو سوسنكرد، وفي الطريق التقى المرحوم آية الله إشراقي والشهيد الطيّار فلاحي، قبّلهما للمرّة الأخيرة وواصل مسيره حتَّى وصل إلى حيث الواقعة، جمع كلّ المجاهدين في قناة خلف دهلاوِيّه وبارك لهم شهادة قائدهم “إيرج رستمي” نظر إليهم نظرات عميقة تسطع من وجه نيّر وقلب يملؤه عشق الشهادة، ثمَّ خاطبهم بصوت حزين قطّعه حشرجة صدر ملتهب: “لقد أحبَّ اللهُ رستمي وأخذه إليه، وإذا كان يحبني فسيأخذني أيضًا”.

لقد أراه الله تعالى أنّه يحبّه، وكم كان الرحيل إليه سريعًا!!

وداع الأصدقاء
انتهى كلامه مع المجاهدين، قبّلهم وودّعهم، ثمَّ جال جولة سريعة على الدشم، ووقف في الخطّ الأماميّ خلف متراسٍ في أقرب نقطة للعدُوّ، وأكَّد على الجميع أن لا يقتربوا خطوة واحدة إلى الأمام من النقطة التي يقف هو فيها, لأنّ العدوَّ يُرى بالعين المجرَّدة وبشكل واضح جدًّا, والعدوّ أيضًا يراه.

في الساعات الأولى من الفجر، عندما اشتعلت نيران القصف (بالهاون)، لم يكن الشهيد رستمي الوحيد الذي قضى نحبه، فلقد قضى معه العديد من الشهداء.

تساقط القصف كالمطر، وأمر الدكتور شمران كلّ المجاهدين أن يتفرَّقوا من حوله ويبتعدوا عنه… كلُّ واحدٍ منهم في حفرته بات مندهشًا بانتظار حادثة مفجعة.

الرحيل إلى الرفيق الأعلى
ارتسمت على شفتيه ابتسامة نورانيّة، رفع يديه وربّما كان يشير بتحيَّةٍ أخرى إلى رفاقه الشهداء.. وذهب ليخلد إلى الأبد.

لقد أصابت شظايا قصف العدوّ رأس الدكتور شمران، وشظايا أخرى أصابت وجه وصدر اثنين من رفاقه. كان مشهدًا كربلائيًّا علت فيه إلى السماء أصوات نحيب الإخوة الأوفياء وبكاؤهم، نقلوه بسرعة إلى سيّارة الإسعاف، والدم ينزف من رأسه, ووجهه الملكوتيّ الهادئ والوقور ملطخّ بالدم والتراب في آن، كأنّه في حديثٍ عميق، لكنّه ما كان يتكلَّم أو ينظر إلى أحد. لعلَّه في تلك الأوقات قد احتضنه أبو عبد الله الحسين – أمنيته على الدوام-، فقد شَغَلَه عشق الحسين عليه السلام عن الدنيا وشَغَلَه التحرّر من أوجاعها عن النظر إلى أهلها .