تستمر قوات الجيش الوطني الليبي منذ بداية الشهر الماضي في تعزيز تحركاتها شرقاً وغرباً ضمن الخطة العسكرية “دم الشهيد”، من أجل إحكام السيطرة على المناطق الساحلية التي يسيطر عليها تنظيم “داعش” والجماعات الموالية له. تغيرت في الوقت الحالي خريطة السيطرة الميدانية في ليبيا التي تناولتها في مقال سابق، ليصبح تنظيم داعش بالمجمل في وضعٍ دفاعيٍ، بعد أن كان منذ أواخر عام 2014 وحتى أوائل هذا العام في وضعٍ هجومي مستمر.
انقلاب الأوضاع الميدانية
ا
حتى أوائل العام الجاري، كانت قوات تنظيم داعش مسيطرة بشكلٍ كاملٍ على شريطين ساحليين، يمتد أولهما شرقاً من بنغازي الى درنة، والآخر غرباً من مدينة بن جواد آخر المدن الرئيسية التي سيطر عليها التنظيم الى مدينة سرت الأستراتيجية، والتي تعد بوابة السيطرة النيرانية على مصراتة والعاصمة طرابلس. يضاف الى ذلك إحتفاظ التنظيم بمناطق حول وداخل مدينة أجدابيا ومناطق أخرى على تخوم العاصمة طرابلس، وتنفيذ مفارز تابعة له هجمات مستمرة على مناطق المثلث النفطي “البريقة – السدرة – راس لانوف”.
تمكن الجيش الليبي منذ مطلع فبراير/شباط الماضي من قلب الوضع الميداني بشكلٍ كامل، فأحكم السيطرة على مدينة أجدابيا وميناء المريسة، وتقدمت قواته في اتجاه بنغازي لتخوض معركة كبيرة فيها مع تنظيم داعش وقوات تنظيم أنصار الشريعة ومجلس شورى ثوار بنغازي، وتمكنت قواته حتى الآن من تثبيت السيطرة على ما يقرب من 95 بالمائة من مناطق بنغازي، ولم يتبق في المدينة خارج سيطرة الجيش الليبي إلا منطقتي الصابري وسوق الحوت شرقاً، وناطق قنفودة والقوارشة وقاريونس غرباً.
التجهيز لإطلاق هجوم “القرضابية2”
عقب هذه التطورات في بنغازي وأجدابيا، بدأت قيادة الجيش الوطني الليبي في التجهيز لإطلاق معركة “القرضابية2” للسيطرة على مدينة سرت. إسم هذه المعركة مستلهم من معركة “القرضابية” التي جرت عام 1915 بين المجاهدين الليبيين والقوات الإيطالية، وشكلت الفصل الأول في نهاية الوجود الإيطالي في ليبيا. أواخر الشهر الماضي بدأ التحشيد لهذه المعركة، ووصلت الى ميناء طبرق شحنات بلغ مجموع محتوياتها ما يقرب من 1000 آلية عسكرية مقدمة من مصر والإمارات العربية المتحدة، واشتملت هذه الشحنات على عربات مدرعة من نوعي “Cougar” و”Panthera” و” “Cycloneبجانب عربات دفعٍ رباعي من نوع “Toyota Staychen” تم عليها تثبيت مدافع مضادة للطائرات من عيار 23مللم، وشكلت هذه الشحنات الثقل المدرع الأساسي الذي يعول عليه في تنفيذ هجوم القرضابية2، بجانب آليات أخرى منها راجمات الصواريخ “BM-21” ودبابات “T-55” والمدرعات البرازيلية الصنع “EE-9 Cascavel” و”EE-11 Urutu”وهما من ضمن المعدات التي كانت تخدم سابقاً بالجيش الليبي في حقبة معمر القذافي والدبابة البريطانية “Centurion AVRE” التي زودت بها الأردن قوات “المعارضة” الليبية خلال معارك 2011. انطلقت الآليات من نقاط التجميع في طبرق وخليج البمبة باتجاه نقاط التحشد الأساسية في أجدابيا وبلدة مرادة المتاخمة لها تحت قيادة وسيطرة غرفتي عمليات سرت والكرامة، وتشكل كل من قوات الصاعقة التي تم سحبها من بنغازي وقوات اللواء 101 رأس الحربة الأساسية في القوات المخصصة لهذا الهجوم.
عند هذه النقطة ظهر أمام الفريق أول خليفة حفتر قائد الجيش معضلة موقف قوات حرس المنشآت من هذا الهجوم، هذه القوات وإن لم تدخل في أي معارك سابقة مع قوات الجيش الليبي وقامت بالتصدي لمحاولات داعش السيطرة على الهلال النفطي، لكنها في الوقت نفسه خارج السيطرة المباشرة للجيش الليبي، وحاولت في مراحل سابقة التواصل مع أطراف مناوئة له مثل مجلس شورى ثوار بنغازي. كان حل هذه المعضلة هو في تعيين “مفتاح المقريف” كقائد لهذه القوات، مع إرسال قوات الصاعقة تحت قيادة العقيد ونيس بوخمادة الى راس لانوف، ما أفضى في النهاية الى بسط السيطرة على قوات حماية المنشآت، وبالتالي على كافة مناطق الهلال النفطي، ما وفر لقوات الجيش الليبي التأمين اللازم. وشكلت راس لانوف قاعدة متقدمة في اتجاه سرت ومطارها سيساهم بشكلٍ حيوي للغاية في تقديم الدعم الجوي اللازم للقوات المتقدمة. الاتجاه الرئيس للهجوم على سرت سيكون بطبيعة الحال من الجهة الشرقية، لكن عدة اجتماعات جرت ما بين غرفة عمليات سرت وعدة كتائب تتمركز في الجنوب مثل كتيبة التبو، تشير الى أن الجهة الجنوبية لسرت ستكون أيضاً من محاور الهجوم عليها.
بالنسبة لقوات داعش فإنها حتى الآن تتمركز في مدينة بن جواد التي تعد أقرب مدينة يسيطر عليها التنظيم الى راس لانوف، يسيطر التنظيم أيضاً على النوفلية وهراوة، بالإضافة الى سرت التي بدأ في تحصين مواقعه فيها وزرع الألغام على مشارفها الشرقية والغربية ونشر الحواجز وتفتيش أية سيارات مغادرة لها، نظراً لعلمه أن القبائل الموجودة في سرت وعلى رأسها قبائل القذاذفة وفرجان ستؤيد الجيش الليبي في حالة بدء الهجوم الفعلي على المدينة. ويحشد تنظيم داعش قواته بشكل أساسي في مدينة بن جواد شرقاً وفي منطقتي الظهير ووادي جارف غرباً. أما في ما يتعلق بقوات “فجر ليبيا” في بنغازي والتي لا يبدو أنها تخطط لأية مشاركة في الهجوم على سرت، فهي تواجه وضعاً ميدانياً مضطرباً نظراً لتعرض مواقعها في بلدة أبو قرين غرب سرت الي هجوم من قوات داعش، ما مكنها من بسط السيطرة على عدة مناطق مثل “زمزم – أبو نجيم – بوابة الخمسين”، وهو ما دفع مجلس بنغازي لإرسال تعزيزات من قواته الى أبو قرين لمنع تقدم قوات داعش التي تهدف من تقدمها في هذا الاتجاه فتح طريق لانسحابها من سرت في حالة عدم تمكنها من صد هجوم الجيش الليبي. ايضاً تواجه قوات “مجلس شورى مجاهدي بنغازي” هجوماً كبيراً من قوات الجيش الليبي في المنطقة الوسطى من قوات الجيش الليبي التي تمكنت من السيطرة على مناطق تمتد من “زلة” الى “مرادة”، وتسبب هذا الهجوم في تراجع قوات المجلس ومحاصرتها في مدينة الجفرة.
في النطاق الشرقي أطلق الجيش الليبي عملية “البركان” للسيطرة على مدينة درنة وتخومها والقضاء على قوات داعش ومجلس شورى مجاهدي درنة وأنصار الشريعة المتواجدة فيها. القوة الرئيسية في هذا الهجوم الذي يتم من محورين هو المحور الجنوبي “منطقة المخيلي” والمحور الشرقي “مرتوبة” هي قوات الكتيبة 102 مدعمة بسرايا من الكتيبة 152 تحت قيادة وسيطرة غرفة عمليات عمر المختار التابعة للجيش الليبي.
دور سلاح الجو الليبي
ساهمت كل من مصر والإمارات العربية المتحدة في تجهيز القوة الجوية الليبية لتقديم الدعم الجوي لعمليات “القرضابية2”. حيث وصل الى قاعدة طبرق الجوية مؤخراً 9 مقاتلات “Mig-21MF” و6 مروحيات “Mi-8T” كانت تخدم سابقاً في القوات الجوية المصرية لتنضم الى دفعات سابقة من الطائرات المصرية وصلت الى سلاح الجو الليبي وتنضم أيضاً الى 4 مروحيات قتالية من نوع “Mi-35p” مولت الإمارات عملية شرائها. هذا الدعم ساهم بشكلٍ كبيرٍ في تعزيز القوة الجوية الليبية التي فقدت منذ بداية هذا العام ثلاثة قاذفات “Mig-23”. تعزز الأسطول الليبي من الطائرات أيضاً بسبب عمليات إعادة التأهيل التي ينفذها الفنيون في قاعدة الوطية الجوية والتي نتج عنها إعادة مقاتلة من نوع “Mirage-F1” وقاذفة من نوع “Su-22” وقاذفتين من نوع “Mig-23BN” وقاذفة من نوع “Mig-23ML” وقاذفتين من نوع “Mig-21BIS” الى الخدمة خلال الشهور الماضية ليصبح أسطول القوات الجوية الليبية في الوقت الحالي مكوناً من 24 مقاتلة وقاذفة مضافاً إليها 26 مروحية متنوعة. تخدم مطارات “الأبرق” و”طبرق” و”بنينا” بجانب مطار “الوطيه” الذي تسيطر عليه قوات الزنتان الموالية للجيش الليبي، المجهود الجوي لسلاح الجو الليبي، ونفذت إنطلاقاً من هذه المطارات منذ بداية العام الجاري طلعات جوية مستمرة على درنة وبنغازي ومناطق أخرى، ويتوقع أن ينضم مطار راس لانوف في الأيام القادمة الى هذه المطارات بعد إتمام تجهيزه نظراً لأهميته الكبيرة في دعم الهجوم على سرت.
كان التطور الأبرز لسلاح الجو الليبي نجاحه في تثبيت أجهزة للرؤية الليلية على متن مروحيات “MI-8T” و”MI-35P” ومقاتلات “Mig-21MF” ليبدأ اعتباراً من العاشر من مارس/آذار الماضي في تنفيذ غارات ليلية انطلاقاً من قاعدة بنينا الجوية نفذت فيها المروحيات غارات باستخدام القنابل الجوية وليس فقط حاويات الصواريخ. هذه الغارات حققت نتائج مهمة منها قتل أبو عمر المهاجر قائد سرية “المرابطون” التابعة لتنظيم داعش وقيادين أخرين في غارة على باب طبرق بمدينة درنة كما تمكنت مقاتلة ليبية من نوع “Mig-21MF” من تحقيق إصابة مباشرة بمقطورة بحرية كانت تنقل دبابات وذخائر من مصراتة الى بنغازي.
الدور الدولي المتوقع في هجوم سرت
في ظل الخلاف الواضح بين المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني ومجلس النواب حول إطلاق الجيش الليبي لعملية هجومية شاملة على سرت تباينت الآراء الدولية تجاه هذا الموضوع. إيطاليا التي كانت من المتحمسين خلال الشهور الماضية لتنفيذ هجمات داخل ليبيا حذرت وزارة دفاعها قيادة الجيش الليبي دون أن تسميها من تنفيذ أية عملية هجومية دون وجود توافق داخلي حولها، بريطانيا على لسان وزير خارجيتها نفت الأخبار التي تداولتها صحيفة صنداي اكسبريس عن نية لهجوم بريطاني على سرت. الموقف البريطاني والإيطالي أتى متزامناً مع أخبار انتشرت عن تعرض قوات خاصة تابعة للبلدين لكمين نفذه عناصر من تنظيم داعش في مصراته.
يبقى الموقفين الفرنسي والمصري اللذان أكدهما رئيسي البلدين مؤخراً هما أوضح موقفين مؤيدين لدعم الجيش الليبي وإنهاء “الحالة الداعشية” في ليبيا. أما الموقف الأميركي فقد اتسم بالغموض في هذا الصدد. طلعات طائرات الاستطلاع الأميركية من نوعي “EO-5C” و”EP-3E” مازالت مستمرة في أجواء الساحل الليبي، وفي الوقت نفسه يصادر الجيش الليبي في بنغازي مواد غذائية عسكرية خاصة بالجيش الأميركي وأجهزة رؤية ليلية أميركية الصنع من نوع “Helios 336” وذخائر أميركية من عيار 12.7مللم مرسلة من قطر كانت بحوزة العناصر التكفيرية التي كان الجيش يواجهها في أحياء المدينة.
المشهد الدولي يشير بوضوح الى عدم وجود تأييد كبير للعملية الليبية المرتقبة تجاه سرت والتي ستحدد مصير مصراتة وطرابلس، وتضعهما في مرمى نيران ظنوا أنها لن تطالهم أبداً. الجيش الليبي على وشك بدء الهجوم الذي استعد له بشكلٍ جيدٍ على مستوى العدة والعتاد فهل سنجد رد فعلٍ غربيٍ داعمٍ لمجالس الثوار في مصراتة وطرابلس لمحاولة سحب البساط من تحت أقدام الفريق أول خليفة حفتر، أو سنرى عملية عسكرية غربية، إنطلاقاً من مصراته لمحاولة السيطرة على سرت قبل الجيش الليبي أم أن مصراتة وطرابلس ستجدان نفسيهما أمام سيناريو يكون فيه الجيش الليبي من أمامهم والجيش التونسي من خلفهم؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الموقع وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً