“إسرائيل” على مفترق طرق، ليست تحليلا لأحد من أطراف محور المقاومة.. أو مؤيديه. ولا تقرير صدر عن جهات غير مطلعة على حقيقة الواقع في الكيان الاسرائيلي، وإنما هي صرخة أطلقها رئيس الدولة، رؤوبين ريفلين، خلال مؤتمر هرتسيلياه، تكرارا لما سبق أن حذر منه في السنة الماضية. بل إن لهجته والمنطق الذي استند اليه كان يغلب عليه التشاؤم، رغم أنه أكد على إمكانية تجنب السيناريو الأسوأ اذا ما تم اتباع خطة مدروسة ومحددة الاهداف؟.
ما هي المعطيات التي استند اليها رئيس الدولة في كيان العدو، وما هي افاق هذا المسار الذي تخوف منه، وتداعياته؟
اعتاد المحللون والمواكبون للحراك الإسرائيلي أن يركزوا في مقارباتهم على الوضعين السياسي والأمني. بل احتل ذلك، وما زال، المشهد السياسي الداخلي في اسرائيل، ايضا. مع ذلك، يجري في اسرائيل حراك مواز لا يقل اهمية، رغم أنه لا يحظى باهتمام الكثيرين في الخارج، ولكنه يؤثر بشكل جوهري على مستقبلها خاصة وأن له مفاعيل وتداعيات تطال المناعة القومية والواقع الاقتصادي والاجتماعي للكيان..
قد لا يكون جديدًا الحديث عن التعددية الاثنية والدينية والايديولوجية التي يشهدها المجتمع الاسرائيلي. بل إن هذه الحالة واكبته منذ بدايات تشكله وتحوله الى دولة. مع ذلك، فإن منشأ التحولات التي يشهدها الواقع الاسرائيلي يتمحور حول هذه الحقيقة، لكن مع اضافة نوعية غيرت كل المعادلة في الداخل الاسرائيلي.
في السابق، كان هناك اغلبية علمانية مهيمنة على الواقع السياسي والاجتماعي في اسرائيل، وانعكست في كافة مؤسسات الدولة السياسية والامنية والقضائية بل وحتى الاجتماعية والاقتصادية. والى جانب هذه الاغلبية كانت هناك اقليات، تمثلت بالتيار الديني الصهيوني، والتيار الديني الحريدي، وبالطبع الى جانب الاقلية الفلسطينية التي بقيت في اسرائيل منذ اعلان الدولة عام 1948. وعلى هذه الخلفية، لم يكن هناك شعور بوجود مخاطر على الواقع الاجتماعي في اسرائيل.
أما الجديد الآن، فيتشكل في اسرائيل “ترتيب جديد” بحسب تعبير ريفلين، مشددا على أن ذلك ليس توقعا للمستقبل وانما هو واقع قائم تعيشه، وأكثر ما يتجلى ذلك في التشكيلة الطلابية للصفوف الاولى في الجهاز التعليمي الاسرائيلي. ويستند رئيس الدولة الى احصائيات رسمية ودقيقة تحدد أن نحو 38% من الطلاب علمانيين، وقرابة 15% متدينين صهيونيين، ونحو 25% من الطلاب الفلسطينيين وما يقارب ذلك من المتدينين الحريديم.
نتيجة هذه التشكيلة، يبدو واضحا أنه لم يعد هناك في اسرائيل أغلبية واضحة، ولا أقليات واضحة، بل واقع يتشكل من “اربع قبائل” بحسب ما استخدم رئيس الدولة الاسرائيلي، تتقارب من حيث الحجم.
مع ذلك، تبرز اشكالية أن الجزء الاكبر من هذه التعددية قائم داخل الاطار اليهودي، وهم اغلبية واضحة وحاسمة في مقابل الفلسطينيين، وهذا صحيح. لكن هذه التعددية لها مفاعيلها في الواقع الاجتماعي والاقتصادي وعلى هذه الخلفية أتت صرخة وتحذيرات رئيس الدولة، ومؤتمر هرتسيليا الاخيرة إذ احتلت هذه القضية محور جلساته في محاولة للبحث عن حلول تفاديا للسيناريو الأسوأ الذي يتخوف منه القادة الاسرائيليون.
بداية ، ينبغي التأكيد على أن هذه التركيبة هي من الاسباب الجوهرية التي تساهم في استمرار سيطرة اليمين على الساحة السياسية، ويعود ذلك، الى أن التيارين الصهيوني والحريدي هما تلقائيا جزء من معسكر اليمين، ويضاف اليهم النواة الصلبة من التيار العلماني اليميني، الامر الذي يؤدي الى رجحان كفة اليمين في الانتخابات. اضف الى أن جل التغيرات التي قد تشهدها المحطات الانتخابية هي في معظمها انزياح داخل معسكر اليمين نفسه، من هذا الحزب او ذاك اليميني، الى الاخر اليميني.
الى ذلك، ينبغي التذكير بأن عمليات التجنيد للجيش لا تشمل “القطاع” الفلسطيني، وهو أمر مفهوم.. ايضا، يعرض ابناء التيار الحريدي عن التجند للجيش لاسباب عقائدية “وشرعية”. وفشلت محاولة فرض التجنيد عليهم، تحت شعار المساواة في تحمل عبء المسؤولية، عبر سن قانون يلزمهم بذلك. لكن الحسابات الائتلافية عادت وفرضت على نتنياهو التراجع عن هذا القانون ولم توافق الاحزاب الحريدية على الانضمام الى الحكومة الا بعد اتخاذ قرار باعادة تعديل القانون وهذا ما حصل..
وفي ضوء النسب المئوية للقطاعين الحريدي والفلسطيني (من الذين يحملون الجنسية الاسرائيلية) يتضح أن نصف سكان الكيان الإسرائيلي لن يتجندوا بعد عدة سنوات في الجيش..
ايضا، من أهم تداعيات هذا الواقع الاجتماعي ما يتصل بمستقبل اسرائيل الاقتصادي. وهو ما اشار اليه رئيس الدولة مرارا محذرا من أنه في حال “لم نقدم على تقليص الفجوات الحالية بين نسب المشاركة في سوق العمل ومستويات الاجور لصالح المجموعتين العربية والحريدية واللتين يتوقع أن تمثلا نصف القوة العاملة مستقبلا، لن تستطيع اسرائيل المحافظة على كونها دولة ذات اقتصاد متطور، بل سيزداد وباء الفقر القاسي والمؤلم والذي أصبح يضرب الكيان الإسرائيلي، حدة وانتشارا”.
في ضوء ما تقدم، تتضح حقيقة أن “اسرائيل” تتموضع الان في منعطف تاريخي، على مستوى الاجتماعي، وبحسب تعبير ريفلين، فإنها تقف على “مفترق طرق” ستُحدد خياراتها الحالية مستقبلها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي..
المصدر: العهد