لا تكفي العاطفة
إن محبَّة أهل البيت عليهم السلام مطلوبة وهذا ما أكّده القرآن الكريم:
“قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى”4.
ولكن في نفس الوقت يحدِّد القرآن الحكيم معنى للمحبَّة تتجاوز القلب إلى شيء آخر وهو الإتباع والعمل.
“إن كنتم تحبّون اللَّه فاتبعوني يحببكم اللَّه…”5.
فلا يكفي حبّ اللَّه تعالى دون الاتباع، ولا يكفي حب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام دون الإتباع أيضاً، يقول القائد دام ظله: “… وقد صوّر الإمام الصادق عليه السلام وضع الإمام الرابع ودوره الرائد يقول عليه السلام:
“ارتدّ الناس بعد الحسين عليه السلام إلا ثلاثة: أبو خالد الكابلي، ويحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم، ثم إن الناس لحقوا وكثروا، وكان يحيى بن أم الطويل يدخل مسجد رسول اللَّهصلى الله عليه وآله وسلم ويقول: ” كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء”6.
3- الكافي، ج8، ص7775.
4- الشورى:23.
5- آل عمران:31.
6- بحار الأنوار، ج46، ص144، ط الدار الإسلامية.
هذه الرواية تصوِّر حالة المجتمع الإسلامي بعد مقتل الحسينعليه السلام، إنها حالة الهزيمة النفسية الرهيبة التي عمّت المجتمع الإسلامي إبان وقوع هذه الحادثة، فمأساة كربلاء كانت مؤشراً على هبوط معنويات هذا المجتمع عامة، حتى شيعة أهل البيت عليهم السلام؛ هؤلاء الشيعة الذين اكتفوا بارتباطهم العاطفي بالأئمة عليهم السلام، بينما ركنوا عملياً إلى الدنيا ومتاعها وبريقها… ومثل هؤلاء كانوا موجودين على مرِّ التاريخ، وليسوا قليلين حتى يومنا هذا.
فمن بين الآلاف من مدّعي التشيّع في زمن الإمام السجاد عليه السلام بقي ثلاثة فقط على الطريق! ثلاثة فقط لم يرعبهم الإرهاب الأموي، ولا بطش النظام الحاكم، ولم يثن عزمهم حب السلامة وطلب العافية، بل ظلّوا ملبّين مقاومين يواصلون طريقهم بعزم وثبات.
هؤلاء لم ينجرفوا مع تيار المجتمع المنجر كالرعاع وراء إرادة الحاكم الظالم، بل كان يقف الواحد منهم وهو يحيى بن أم الطويل في مسجد المدينة ويخاطب مدّعي الولاء لأهل البيت عليهم السلام، معلناً براءته منهم… ويستشهد بما قاله إبراهيم عليه السلام وأتباعه، لمعارضي زمانه:
“كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء”7.
أراد ابن أم الطويل بتلاوته هذه الآية المباركة أمام مدّعي الولاء لأهل البيت عليهم السلام أن يعلن الانفصال التام بين الجبهتين: جبهة الرساليين الملتزمين، وجبهة الخلود إلى الأرض والانحطاط إلى مستوى الأماني الرخيصة والانشدادات المادّية التافهة، وهو انفصال يرافق كل الدعوات الإلهية. والإمام الصادق عليه السلام عبّر عن هذا الانفصال بين
7- الممتحنة:4.
الجبهتين بقوله: “من لم يكن معنا كان علينا” أي من لم يكن في جبهة التوحيد كان في جبهة الطاغوت، وليس ثمة منطقة وسط بين الاثنين، ولا معنى للحياد في هذا الانتماء.
إن يحيى بن أم الطويل هذا المسلم والموالي الحقيقي لأهل بيت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم بصرخته هذه يعلن الانفصال بين الذين يُرضون أنفسهم بالولاء العاطفي بينما هم قابعون في قوقعة مصالحهم الشخصية وغارقون في مستنقع ذاتياتهم الضيقة، وبين أولئك الملتزمين فكراً وعملاً بالإمام…”.
ويقول دام ظله أيضاً حول هذه النقطة في حديثٍ آخر:
“… نحن اليوم نفهم الولاية بمعناها الحقيقي والواقعي، ولكن سابقاً (أي زمن الإمام الصادق عليه السلام) كانوا يفسرون الولاية بالمحبة، وهذا يعني أنهم كانوا يدعون الناس إلى الولاية، أي إلى محبة جعفر بن محمد عليه السلام، فهل يصح هذا؟ فهذا ليس من شؤون الدعوة، فالمحبة لفرد ليست هي الشيء الذي يُدعى إليه المجتمع، إضافة إلى أنه إذا فسرنا الولاية بالمحبّة لا يكون لبقية الحديث معنى، حيث قال عليه السلام:
“ففرقة أطاعت وأجابت، وفرقة جحدت وأنكرت ومن الذي ينكر ويرد محبّة أهل البيت عليهم السلام في العالم الإسلامي وفرقة ورعت ووقفت”8.
وإذا فسرت الولاية بالمحبة فلا تتناسب هنا مع مسألة التورع والتوقف. وهذه قرينة إلى أن الولاية لها معنى آخر غير المحبة، بل هي الحكومة…”.
8- بصائر الدرجات، ص264.