الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر 27

المسيح في ليلة القدر 27

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين – رواية زيارة آية الله الخامنئي دام ظله إلى منزل الشهيد واهيك يسائيان بتاريخ 28/12/1989م

 
قام بتدوين وصياغة هذا اللقاء السيّد
هملت تومانيان أحد
المواطنين المسيحيين.
 
الشهيد واهيك يسائيان
مكان الاستشهاد: سربل ذهاب، كرمانشاه 
تاريخ الشهادة: 24/06/1988م
 
 
 
 
 
390

335

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 يجول في هذا البيت طيف عشق عظيم ولطيف، عظمته من سنخ “الإيثار”، ولطافته في سرّ “اللقاء”، إيثار رجال إيران في ميادين الدّفاع عن تراب الوطن، ولقاء الشخصية العظيمة لهذا الوطن بعائلة هذا الشاب، فخر الأمّة. وحين تقابلت تلك العظمة بهذه اللّطافة، تبيّن أنّ الحميّة لا تُميّز بين دين ومذهب. 

ما إنْ دقّ قلبك شوقًا لهذه الأرض، فهذا يعني أنّك اصطُفِيْتَ ليخلّد اسمك وعقيدتك. اصطفيتَ لتكون مصدراً للفخر والمباهاة. وليفخر الله سبحانه بخلقه، وتُصبح مصداق قوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾1. بعدها يذهب نائبه بالحقّ ليُبلّغ رسالة تبارك خالق السماء لخالقيك على الأرض، أبيك وأمّك. وليعلما كيف أنّ الجميع ينظرون إليهما نظرة الفخر والاعتزاز بسبب وجودك اللّطيف. على أمل أن تكون هذه المعرفة ماءً تصبّ على نار الفراق. هنيئًا لهما! صحيح أنّهما عانا من الفراق، لكنّه فخر لهما يرفعان به رأسَيْهما ويشمخان. 
أليس أنّنا جميعًا راحلون؟ أليس أن لا مفرّ لأحدٍ من الموت؟ فهنيئًا لكلّ من عرج بكلّ فخر، ستخلّد ذكراهم الطيّبة ويقترن اسمهم دائمًا بعزّة إيران. هنيئًا لإيران بأبنائها الغيارى، وهنيئًا لنا ولأجيالنا الّذين ورثنا ذكراهم الأسطوريّة الخالدة. 
حفاظًا على صيانة هذا الميراث العظيم، حُرّر لقاء قائد الثورة مع عائلة أحد آلاف هذه المفاخر الأسطوريّة، أي عائلة الشهيد واهيك يسائيان. 
كان جندياً يتحلّى بالحميّة والمسؤوليّة. كان عدوّاً لظلم المعتدين وناصرًا للمظلومين، وكان مصداق قوله تعالى: ﴿أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾2.
 

1- سورة المؤمنون، الآية 14.
2- سورة الفتح، الآية 29.
 
 
 
 
391

336

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 ولأنّه كان شهماً، مضى ليُدافع عن بلده، وبقي يُحارب إلى أن اصطفاه الله. بقي هناك سنتين وثلاثة أشهر، وعرج إلى الملكوت الأعلى قبل شهر من انتهاء خدمته. كان باستطاعته أن يرجع إلى البيت بمساعدة من يُقال لهم “واسطة”. لكنّه فضّل مجاورة الحقّ على العودة. “فمن عرفك ما حاجته للحياة؟”. كان قد ثمل من كأس العشق الإلهي، “ومن هام بعشقك فما باله والدارَيْن؟”. 

هو اختار طريقه، كما اختاره الله، ولو لم يكن كذلك لم يبقَ في الميدان مع أربعة صواريخ فقط بينما انسحب الآخرون. صمد في مكانه ليُدافع بكلّ ما يملك عن العِرض والوطن! قدّم روحه العزيزة – أغلى ما في جعبته – في محضر خالقه، فوهبه خالقه لقاءه، وكانت المكافأة الأوفى، وما أجمل الأوفى من الله!
يذكره أهله بفخر، هم محقّون، فلو لم يكن أهلًا لما نال لقاء الله. وما أبهاه من منال! 
كان الجوّ معنويّاً ونورانيّاً، فحضوره المفاجئ أذهل الجميع. هم لم يكونوا على علم بقدومه، فاح عطر باقة الورد الكبيرة مبشّرة بوصوله. بدأ اللّقاء بإلقاء التحيّة والسؤال عن أحوال العائلة، فسلامه يجلب السلامة. ولكن هذا حديث اللّسان، أمّا حديث القلب فتجلّى في برق عينيّ سماحته اللَّتَيْن باركتا تربية ولد كهذا. حديث القلب كان مشهوداً في شغف أهل بيت الشهيد، وتقرؤه في وجوه أفراد هذه العائلة المتأثّرين بحضور السيّد القائد، وقدوة كلّ شعب إيران بينهم. فاقرأ حديثًا مفصّلًا من هذه الخلاصة، من بريق تلك العيون العزيزة وشغف هذه النفوس الطاهرة. 
يسأل سماحته عن والد الشهيد، ويُمازحهم قائلًا: ما أكثر عديد هذه العائلة! 
فيُجيب الوالد: إنّ أحد الحاضرين ابنه وأمّا الباقون فهم أصدقاؤه. 
مكث سماحته أكثر من ساعة في منزل الشهيد، وكان ذلك لافتاً لمرافقيه، لأنّ زياراته الأخرى كانت أقصر. وكأنّ صفاء نيّة الشهيد وإخلاصه أضفيا أثراً معنويّاً على الأجواء، فانحنى 
الوقت أمام المعنويات. 
– كيف حالكم؟ 
– الحمد لله.
 
 
 
 
392

337

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 – كيف حال السيّدة؟

– الحمد لله. شكرًا لكم. شرّفتمونا.
الأب والأمّ حاضران في هذا اللّقاء، إضافة إلى الإخوة والأخوات وأولاد عمّ الشهيد. اجتمعوا جميعًا ليرووا قصّة عشق عزيزهم في محضر رجل من سلالة الأطهار. اللّيلة نستلهم دروساً في الحرّية ومحاربة الظلم تزامنًا مع اقتراب ميلاد السيّد المسيح الّذي وقف في وجه الظلم حتّى الجلجلة. ما أعظم هذا المعلِّم وما أوفى هؤلاء الأتباع! فالله وحده يعلم كم يُباهي بعباد أمثالهم. 
يسأل سماحته العائلة كيف استشهد ولدها، ويستفسر عن المكان والزمان. فيقول الوالد: إنّه استشهد في منطقة سربل ذهاب: أصرّ الجميع على الانسحاب، لكن ابني قال لهم: “بحوزتي 
أربعة صواريخ، يجب أن أُصيب الطائرة”، كان يُطلق صواريخ “سهند”. 
تعجّب سماحته، فلم يكن يُجيد أيّ كان استعمال هذا الصاروخ. يفتخر والد الشهيد بصلابة ابنه ويتباهى. كان عروج الشهيد في عمليّات مرصاد سنة 89، وكان قد مضى اثنان وعشرون ربيعًا من عمره.
 
 
 
 
 
393

338

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 يدعو سماحته للعائلة ليكون دعاؤه بلسماً لجراح قلوبهم المولعة. هذا الجرح وإن كان مبعثًا للفخر، لكنّ جرح فقدان قرّة العين صعب جدًّا. 

– هل هم أولادك؟ 
– ذاك ابني. وهذا أيضًا. هاتان ابنتاي وهذا ابن أخي. 
– متى استشهد هذا الشاب؟ 
– في هجوم على منطقة سربل ذهاب. كان في قوّات الدفاع. طلب منه رفاقه أن ينسحب معهم لكنّه أبى وقال لهم بحوزتي أربعة صواريخ. يجب أن أُصيب بها الطائرة. كان متخصّصًا بإطلاق صواريخ سهند في الجبهة. 
– عجبًا! كان رامي صواريخ سهند؟
– نعم! صمد ولذلك استشهد. 
– كم كان عمره؟ 
– اثنَيْن وعشرين عاماً
– أي سنة؟ 
– كان ذلك في عمليات مرصاد.
 
 
 
 
394

339

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 – آجركم الله. 

– شكرًا.
– فليحفظ الله باقي أولادكم ولتقرّ أعينكم وقلوبكم بهم. وليعوّضكم الله خيرًا. أتمنّى أن تكون السنة الجديدة مباركة عليكم، وكذلك ميلاد السيّد المسيح. 
– شكراً جزيلاً. سلّمكم الله.
ما زال اللّقاء حميماً والحديث حول السنة الجديدة والعبادة في الكنيسة. ما أدفأ هذا اللّقاء في الشتاء البارد! دفءٌ مصدره حضور عباد الله الصالحين. 
الحديث عن نخوة الشهيد وشجاعته يُضفي رونقًا على اللّقاء. كان واهيك شابّاً عاطفياً ومحبّاً لعائلته. لم يكن يتقبّل الظلم وأخلاقه شبيهة بأخلاق “بوريا الولي”1، ولم يكن ليبخل ببذل مهجته في سبيل مساعدة المحتاجين. كان شهماً. 
– أتمنّى لكم سنة جيّدة. لم تحن ولادة المسيح على رواية مذهبكم بعد؟ 
– لا.
– تُصادف السادس من كانون الثاني؟ 
– نعم ميلاد المسيح يأتي بعد أسبوع من السنة الجديدة. 
– أين تقع كنيستكم؟ هل يوجد كنيسة في جواركم؟ 
– نعم. كنيسة كريم خان هنا. 
– هل أنتم مجاورون لها؟ 
– نعم.
– تذهبون إليها؟ 
– نعم.
– تذهبون باستمرار؟ أليس كذلك؟ 
– نعم.
 
 

1- پوريا ولي: أحد أبطال إيران القدماء والمشهورين بالشهامة والفتّوة.
 
 
395

340

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 – ماذا عن الشباب؟ هل يذهبون أيضًا؟ 

– نعم، طبعًا.
– قطعًا تذهبون عندما يسمح الوقت؟ 
– أحياناً نقصدها أيّام الأحد. غالباً نكون في أشغالنا. 
بمجرّد أن طُرح موضوع العمل، يُشير سماحة القائد إلى اختصاص الأرمن في الحرب في صيانة السيارات، وكيف أنّهم تطوّعوا أوائل الحرب وعرضوا مهاراتهم بكلّ إخلاص. وهذا ليس غريباً، فالنخوة في إيران لا تعرف مسلماً أو مسيحياً، أرض إيران ملك للجميع وحفظ ترابها واجب عليهم. ما يجمع المسلمين والمسيحيين هو الله أولاً وعزّة إيران ثانياً، وما أحلى هذا العشق للوطن حيث تروي العائلة مهنتها والخدمات التي قدّمتها أيّام الحرب، وما أجمل أن يؤيّد هذه التضحيات قائد عسكر الأمس وقائد السياسة اليوم. 
– ما هي مهنتكم؟ 
– أملك محلاًّ لصيانة براثن (دبرياج) السيارات. 
– لقد عمل الأرمن منذ القدم في صيانة السيارات وما شابه. في بداية الحرب، أظنّ بعد أربعة أو خمسة أشهر من بدء الحرب. كنتُ أذهب باستمرار إلى الأهواز. في إحدى المرّات، تقدّم منّي شاب أرمني. قال لي: هناك جمع من الشبّان الأرمن الذين يعملون في صيانة السيارات، الأرمن يريدون أن يُقدّموا المساعدة في صيانة الآليات في الجبهات. الأرمن معروفون في هذا المجال.
 
 
 
 
396

341

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 – هم معروفون بجدّهم. 

– إضافة إلى جدّهم، هم بارعون في الميكانيك خاصّة صيانة السيّارات والآليّات، وبارعون في صيانة السيّارات ومجالات أخرى مشابهة. فحضرتك متخصّص بصيانة الدبرياج. 
– عذرًا يا حاج! لست أتملّق أو أتباهى إنْ قلتُ: إنّه في كلّ مرّة كان يتجمّع أربعون أو خمسون شخصًا من أصحاب المهن عندنا، منهم من هو متخصّص في البطاريات وفي صيانة البراثن (الدبرياج) أو صناعة الديناميت تطوّعوا خلال سنوات الحرب وذهبوا إلى الجبهات بالتنسيق مع السيّد وارطان. 
– هذا ما أشرت إليه. فقد رويت لكم ما رأيته بنفسي. فقد جاؤوا بداية الحرب وأعلنوا استعدادهم للمساعدة. فكلّفت شخصاً وطلبت أن يستفيدوا منه في مطار الأهواز في محطة الآليّات المدرّعة. كان الأرمن يتردّدون إلى الجبهات، كلّ من يُجيد حرفةً عمِل فيها هناك، وقد استشهد منهم عددٌ كبير. 
بينما يروي الأهل قصّة عشق ولدهم، يُعرّج سماحة القائد إلى قصص كلّ من عشق هذا الوطن. يحكي عن شاب شهمٍ من الديانة المسيحيّة، كان يحمل إنجيلاً صغيراً ويضعه دائماً في جيب قميصه. وعندما أصابته الشظايا تمزّق الإنجيل ليُحافظ على قلب صاحبه المفعم بحبّه. لقد وهب هذا الإنجيل صاحبه المعرفة. والمعرفة هي الاشتياق إلى المعبود ونيل رضاه. 
المعرفة إنّما هي الحفاظ على العرض والشرف. 
– كان هناك جنديّ أرمنيّ يضع إنجيلاً صغيراً في جيبه. عندما تطايرت الشظايا أصابت إحداها الإنجيل وعلقت بداخله. فجاء مندوبهم وأراني الإنجيل. لم يستشهد صاحبه! إنّما يحكي حمله والمواظبة على تلاوته، أنّ الشاب متديّن ويتحلّى بروح الإيمان. 
يا له من محفل ودود وحميم وبعيد عن التكلّف. وطبعاً هذا ما يليق برجال الله. وكأنّ كلّ الحاضرين قد نسوا أنّهم في محضر مقام سياسيّ ودينيّ رفيع المستوى، فهو سيّد وسبط من أسباط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. يسأل سماحة القائد بحنان أبويّ عن دراسة الأولاد وأشغالهم، من بينهم الشهيد واهيك. أليس أنّ الشهداء أحياء؟ وماذا أبهى من أن يختتم كلّ حديث بوصف بطولاته وسيرة حياته واستشهاده المشرِّفتَيْن؟ كأنّ الشهيد جالس أيضًا إلى جانب الآخرين ويستمتع بهذه الجلسة الملكوتية والودودة التي أُقيمت على شرفه. هو أيضًا يفتخر بنفسه
 
 
 
 
 
397

342

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 وعائلته وقائده وبلده قطعاً.

– حسناً. وأنت يا سيّد ماذا تعمل؟ 
يقول أخو الشهيد: أنا أبقى بجانب والدي. 
– ولمَ لا تُكمل الدراسة؟ 
فيُجيب والد الشهيد: يا حاج! قلتُ له أن يذهب إلى الجامعة. فقال لي: إنّه ليس مستعدّاً لها ويريد العمل. 
– لا فرق في ذلك. فالشغل مهمّ أيضًا. والمهن مهمّة جدّاً في مجتمعنا. ماذا عن ابنتكم؟ هل تدرس؟ 
– نعم.
– في أيّ مرحلة أنت؟ 
تُجيب أخت الشهيد: السنة الثانية من المرحلة الثانوية. 
يُشير سماحته إلى الأخت الكبيرة مستفسراً عن عملها قائلاً: وماذا عن الآنسة؟
ويُجيب والد الشهيد: تُكمل دراستها في كلّية الصيدلة في جامعة أصفهان. 
– ممتاز، وفّقكِ الله إن شاء الله. 
– وتُتابع أيضًا اختصاص الإنجيل والإلهيّات بسبب وجود كنيسة قديمة في أصفهان. لقد بدأت متابعة هذه العلوم بعد انتهائها من مرحلة الثانويّة العامّة. وكذلك الشهيد – رحمة الله على جميع الشهداء – فهو ذهب لفترة وجيزة إلى الجامعة، لكن عندما أعلنوا عن اسمه للخدمة العسكرية (خدمة العلم) ذهب إلى الجبهة. لقد اختار ذلك بنفسه، ترك الجامعة ليذهب إلى الجبهة بحجّة الخدمة العسكريّة. 
– الأمّة الّتي لا تملك شباباً مضحّين ومؤمنين بواسل تُصاب بالضعف مع الوقت. مثل هذه الأمّة كمثل العائلة المحاطة بالأعداء ولا تملك بين أعضائها أفراداً أكفاء ورجالاً أقوياء. فتضعف بعد فترة وتصبح مهانة وذليلة. وهذا هو حال البلدان الّتي تعيش التبعيّة في أيّامنا. بلادنا اليوم تُعاني من مشاكل كثيرة في التجارة والإنتاج، لقد فُرِضَ ذلك علينا منذ عشر سنوات، وقبل ذلك كانت البنى والأسس مهترئة أيضًا، مع ذلك نحن أمّة عزيزة ولسنا أذلّاء لأحد. أعني أنّه لا يوجد بلد على وجه الأرض أو تحت هذه
 
 
 
398

343

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 السماء يستطيع أن يدّعي أن له سلطة على إيران. بلدنا ليس منقاداً لأحد، ولا توجد دولة في هذه الدنيا لها نفوذ علينا، هذه هي العزّة. وهذا الوضع لا ينطبق على أيّ بلد آخر سوى تلك الدول القوية المعدودة، أمّا ما تبقّى فهي تابعة لدول عظمى أخرى لأسباب اقتصاديّة أو تهديدات عسكريّة أو قضايا إيديولوجيّة. 

ثم يدعو سماحته لأمّ الشهيد قائلاً: 
– أسعد الله قلبكم وبارك في عمركم وحفظ أولادكم. 
– شكراً جزيلاً. 
– الموت آتٍ لا محالة يا سيّدتي! الكلّ يموت، حتى الشباب. ما أكثر الشبّان الذين يقضون إمّا في حادث سير أو بمرض عضال، وموت هؤلاء ليس فيه مفخرة، لكن هذا النوع من الموت (الشهادة) مدعاة للفخر حقّاً. 
– نعم هو كذلك، وأنا فخورة أنّه اختار هذا الطريق. فهو كان مدعاة للفخر في حياته أيضاً. أقصد قبل أن يذهب إلى الخدمة، حتى عندما اختار الخدمة العسكرية كان يشعر بالفخر.
– الحمد لله. 
– هذه ابنتي الصغيرة يا حاج.
 
 
 
 
 
399

344

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 – ما شاء الله. في أيّ مرحلة أنت يا آنسة؟ 

– الصف الخامس. 
يظهر أنّ أجواء اللّقاء قد جذبت أخت الشهيد أيضاً. فهي قد شغفت بأخيها المتّصف بالكمال لدرجة أنّها بدأت تُغرّد بأوصافه وتضحياته وتقول إنّها هي أيضاً تفتخر به. تقول إنّ هذا الفخر 
هو الذي يهب الصبر على ألم فراقه. فهي أخت الشهيد، والأخت بلسم جراح الأخ!
تستذكر الأمّ في هذه الأثناء ذكريات ولدها وهي غارقة في صمتها. وهي بالتأكيد لا تدري أيّ الذكريات تحكيها عن ولدها العزيز. هي أمّ! والأمّ تحفر في قلبها ذكرى كلّ لحظة من حياة 
أبنائها. وهل يُمكن في سهرة واحدة أن تقصّ كلّ تلك اللحظات؟ لكن يظهر أنّ صلابة ابنها الرشيد شيء لا يُمكن أن تتغاضى عنه. 
فبدأت الحديث عن شجاعته واهتمامه برقّة قلب أمّه وعن الفخر الذي خلّفه لها بعد غيابه. ويأتيها الجواب أنْ لا شيء يُضاهي استقلال إيران وعزّتها، على الرغم من كلّ المشاكل التي يُعاني منها هذا البلد، ولا توجد أيّ دولة تدّعي أنّها ذات نفوذ علينا. فافخروا بابنكم، إنّ إيران وشعبها مدينان لدماء الشهداء إلى الأبد.
 
 
 
 
400

345

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 يقول “فاروج” أخو الشهيد: “أوصاني أخي في آخر مأذونيّة بوالدينا، وقال لي: عليك الاهتمام بهما جيّداً إن لم أعد أنا. وكأنّه كان يعرف أنّه لن يرجع ثانية. أمّي أيضًا كانت تعلم. رأت في منامها واهيك يقول لها لا تقلقي عليّ فأنا بخير”. 

أليس جوار الحقّ هو الخير كلّه؟ أليس الشهداء ﴿أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾1 فلا مجال للشكّ أنّه عرج إلى جوار ربّه؟! 
تقول أخت الشهيد: يا سيّد خامنئي! لا أدري أسمعتم بهذا الكلام أم لا! 
– أيّ كلام؟ 
– أخي كان يُعطي مأذونيّاته للآخرين. كانت المأذونيّة تُعطى كلّ خمسة وأربعين يوماً. كانت أمّي تشتاق إليه، لكنّه كان يقول لها: إنّ لي صديقًا في الجبهة كانت أمّه تنتظره أيضاً. كان مضحّياً إلى حدّ الموت ولم يقبل الانسحاب. موته كان فخراً كبيراً، فعلًا إنّه فخرٌ كبيرٌ لنا. 
– الحمد لله. صحيح ما تفضّلتِ به! هذا فعلًا يدعو إلى الفخر والاعتزاز. 
تقول أمّ الشهيد: صحيح ما قالته ابنتي. كان الضابط يُعطيه المأذونيّة فيُعطيها واهيك لصديقه. كنتُ أقول له: يا ولدي! منذ خمسة وأربعين يومًا وأنت هناك في الجبهة. هل أعطيت المأذونيّة لصديقك أيضاً؟ فيقول: صديقي كان هنا قبلي. هو أيضاً له أمّ تنتظره. كنتُ أقول له: ما هذه الأفكار التي تراودك؟ فيرد: لا يا أميّ. فكلّ الأمّهات مثلك ينتظرن رؤية أبنائهنّ بفارغ الصبر. 
– هذه الصفات نادراً ما توجد في الإنسان. إنّ هؤلاء الشباب كالأنوار تشعّ في هذه الحياة المظلمة. 
– صدقًا يا حاج! هذا الولد كان يشعّ نوراً حقّاً. 
– نعم. حتى لو لم تقولوا ذلك فهذا واضح جليّ. ما دام أنّه كان يذهب بإرادته ويبقى باشتياق فهذا يجعله مشعّاً بالأنوار.
– عندما كان يذهب والصليب في عنقه قال لأمّه: “هذا يحفظني”. وآخر مرّة أتى قال: “سأعود إن شاء الله، وهذا الصليب في رقبتي، إذا استطعت الرجوع انتظريني، وإلّا فلا”.
 

1- سورة آل عمزان، الآية 169.
 
 
 
 
401

346

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 قالها في آخر لقاء، وقلت له: انتبه لنفسك يا ولدي، فأجابني: “أنا جنديّ مدرّب يا أمّي. أمضيت سنتَيْن في الخدمة العسكريّة، كما إنّهم عندما يبدؤون الهجوم لا يرسلونني إلى الخطوط الأماميّة”. كان يقول ذلك ليُطمئنني. طلبنا من أحد أصدقائنا برتبة عقيد أن يفعل شيئاً فوعدنا أن يسحبه إلى الخلف، وفعل كلّ ما بوسعه جزاه الله خيراً، لكنّ ابني قال: إنّه سيبقي حيث هو ولن يتراجع. 

كان يُحبّ أن يبقى في الصفّ الأمامي، ولم يكن يفصح عن ذلك أمامنا كما لم يكن ليتذمّر. لم يطلب منّا أن نفعل شيئاً ليجعلوه في الخطوط الخلفية. وكان قد قال للعقيد عندما سأله عن مكانه وأحواله إنّ كلّ شيء جيّد، وإنّه على ما يرام. 
أوصى أخاه بأن لا تعرف أمّه أنّه في المقدّمة. كان يقول إنْ رجعت فلا مشكلة، أمّا إذا استشهدت فقولوا لأمّي أن لا تجزع. 
– عليكِ أن تتحلَّي بالصبر وتفتخري. فولد شجاع وقويّ وخلوق كهذا، مدعاةٌ للفخر. 
– أفتخر به لأنّه استشهد بكلّ اعتزاز وفخر. فأينما أذهب أُقابلَ بالاحترام لأجل ولدي.
– الاحترام المعنويّ الذي نلتموه أكبر من الاحترام الّذي يُقدّمه النّاس. بعض الأمور تحتاج للتأمّل. هي أمور لا تُقال على الألسن1. فابنكم كالحجر الّذي وضع في جسم البيت
 

1- قلّما يتحدّث بها الناس.
 
 
402

347

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 وهو حاضر دائماً. وهو إشارة لما قام به من أجل بناء المجتمع الإيرانيّ واستحكامه وعزّته. وستبقى آثار الشهداء وبطولاتهم خالدة في حياتنا، وهذا يعني الكثير. 

ثمّ تحدّث سماحة القائد هنا عن مقاومة وبطولات رجال إيران قياساً بالذلّ الّذي برز بين سكّان أفريقيا خلال عشرات السنين التي خلت. 
– إذا ألقيتم نظرة إلى تاريخ الدول العظمى أو أيّ دولة تحظى بقدرات معيّنة سترون أنّ لها تاريخاً حافلاً من البطولات. اليوم تُعاني الدول الإفريقيّة من الضعف والذلّ، والسبب أنّها نكّست رؤوسها يوم دخل عليها الاستعمار من أوروبا، فحلقوا لهم رؤوسهم وامتطوهم كالدواب. يومها لم يجرؤوا أن يقاوِموا الاستعمار ولو بكلمة. فكانت النتيجة ذلًّا عانت منه أفريقيا لعقد أو عقدَيْن. أفريقيا بلد غنيّ جدّاً. وغالبية أراضيها خضراء ومثمرة أكثر من أراضي إيران. لا تتصوّرا أنّ أفريقيا كجهنّم، لا! فهي من أجمل بلاد الدنيا وأكثرها خضاراً. فماذا فعلوا بها؟ 
أسقطوا عليها الصواريخ ومات الآلاف والآلاف من شعبها جوعاً. السبب أنّهم لم يُظهروا الشجاعة المطلوبة. ولكن، الحمد لله، شعبنا أظهر الشجاعة المطلوبة. الثورة أحيت الناس، وجرى حبّ الحياة والحميّة وحبّ الوطن في عروقهم. أصبحت إيران عزيزة ببركة وجود هؤلاء الشباب الأبطال ولولاهم لما كانت هذه العزّة. لا تخالوا أنّ العزّة تأتي بالكلام فحسب، لا أحد يتقدّم ويعلو بالوقاحة. الحلّ هو الاستقامة وهو الفخر والاعتزاز. وفّقكم الله. 
وهذه تذكار منّا للسيّدة بمناسبة هذه اللّيلة. 
– شكراً جزيلاً، سلمت يداكم. 
إنّه لمن الصعب مغادرة هذا المحفل النوراني وليلة شعر العشق هذه وهذا الجمع البعيد عن الرياء. فأيّ مكان للشوق؟ فقد طغت الطمأنينة على أجواء مبشّرة بالخير ورضى الله والفوز في الآخرة. وهل خير العاقبة شيء غير هذا؟ الخير هو هذه الأرض الخصبة وهذا البيت المعطاء، والجمع التقي الّذي استمدّ ثقافته من أشعار العشق الّتي نظمها شبان هذه الأرض. 
شباب ليس من المستبعد أن نجد أمثالهم إلا أنّه لن يكون سهلاً أن يلد التاريخ أمثالهم. هنا تأتي عظمة الرسالة الملقاة على عاتقنا لننقل قصصهم وأشعارهم من جيل إلى جيل كي لا يُخفيها غبار النسيان، أو يأتي يوم ننسى فيه أنّ وجودنا وبقاءنا مدين للدماء
 
 
 
 
 
403

348

الرواية الواحدة والعشرون: سهرة شعر العاشقين

 الزكية في كلّ عطاءاتهم. تعالوا نستلهم من “علي” زماننا كيف تُكرّم أرواحهم الطاهرة ونحييّ أرواحهم المقدّسة ونتلو ترانيم العشق في وصف بطولاتهم.

ومن اللّه التوفيق. 
هملت تومانيان
 
 
 
 
 

شاهد أيضاً

الزهراء الصديقة الكبرى المثل الأعلى للمرأة المعاصرة / سالم الصباغ‎

أتشرف بأن أقدم لكم نص المحاضرة التي تشرفت بإلقائها يوم 13 / 3 في ندوة ...