الرئيسية / زاد الاخرة / تذكرة المتقين للشيخ مجمد البهاري

تذكرة المتقين للشيخ مجمد البهاري

المراسلة الاولى للشيخ البهاري

إن ما يجب عليك أن تتأمل فيه هو : أنك حرٌّ أم عبد ، فإن كنت حراً فاعمل ما تشاء ، وإن كنت عبداً معترفا بمولاك ، فعليك أن تستعدّ للجواب يوم ينادي : {وقفوهم إنهم مسؤلون} . الصافات/24 ، ولو كان السؤال عن تحريك جارحة من جوارحك !.. وعليه فلا بد من أن يكون سعيك في تحصيل رضا المولى وإن لم يرضَ عنك الآخرون ، ومن الواضح أن رضاه لا يتحصل إلا بتقواه .
واعلم أن الغرض الأصلي من الخلق ، لا يتم إلا بتحقق علاقة الحب والمعرفة بين العبد ومولاه ، وموجبهما هي التقوى وتحصيلها يحتاج الى أمور:

الأول : اجتناب المعاصي ، وذلك بمعرفتها بتفاصيلها ومنها ترك الواجبات ، وهو يستلزم أيضا معرفتها بتفاصيلها بمقدار وسعه فيما يُبتلى به.
فإن قلت : كيف لي بترك المعصية رأساً ، فإن العبد في معرض الابتلاء بالمعصية دائماً ؟.. قلت: نعم ، ولكن يمكنك التوبة بعد كل معصية فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، فإن من قتل سبعين نبياً يمكن أن تُقبل توبتُه ، والمولى الحليم قادر على أن يُرضي الخصماء بما شاء ، وذلك من معدن جوده وكرمه.

الثاني: اجتناب المكروهات والعمل بالمستحبات بما أمكن ، ولا ينبغي التذرّع بالقول أن كل مكروه جائز ، إذ لعل ترك مكروه واحد أو العمل بمستحب كذلك يقع موقعاً بليغاً عند المولى فيقرّبك إليه زلفى .. وهذا ما نلاحظه في العرف أيضاً ، إذ قد يسدي أحدهم إليك معروفاً يقع منك موقعا لا تنساه أبد الآباد.

الثالث: ترك المباحات الزائدة عن مقدار الضرورة .. فإن الشارع المقدس وإن أباح الكثير من المباحات لأهل الدنيا إلا أنه – يريد في الباطن – أن لا ينشغل العبد بغيره ، ولذا يحسن بالعبد اجتناب هذه الزخارف – وإن لم تكن حراماً – عملاً بميل مولاه واقتداء بالمعصومين (ع).

الرابع: إخراج ما سوى الله تعالى من قلبه ، إذ القلب حرم الله فلا تُسكن حرم الله غير الله . البحار 67/25.. فإن قلت : كيف يتيسر لي ذلك مع الانشغال بالأهل والعيال فهو كالمحال عرفاً ؟!.. قلت : إن من ينبغي الاجتناب عنه هو من يصدّك عن ذكر الله تعالى ، وحينئذ ينبغي التعامل معه بالمقدار الواجب، وأما من يذكرك بالله تعالى رؤيته فلا منع عن مجالسته ، بل قد ورد الأمر به كما روي عن المسيح عيسى (ع) . المستدرك 12/203..

والحاصل أن على طالب الكمال أن يقطع أنسه بما سوى الله تعالى واحداً تلو الآخر ، إلى أن يصل إلى مرحلة الذكر الدائم ، وهي مرحلة لا تنافى معاشرة الصالحين بمقدارٍ ينتفع بتلك المعاشرة ، لأن محبتهم والأنس بهم فرعٌ لمحبة الله تعالى .

فإن قلت : إن هذا كله حقٌّ ، ولكن كيف لي بتحقيق هذه المرحلة من الانقطاع ، والحال أن شياطين الجن والإنس يحيطون ببني آدم ، بالوساوس تارة ، وبالتدخل والمنع تارة أخرى ، أضف إلى اختلال أمر المعاش عند الوصول إلى هذه الدرجات؟..فأين نحن وهذه الدرجات العليا من الكمال ؟.

قلت : إننا لو أُمرنا بهذه الدرجات دفعة واحدة لكان الأمر كما قلت ، فيكون كالجبل الذي يراد نقله من مكانه دفعة واحدة.. ولكن من منن الله تعالى علينا أننا لم نُؤمر بالمشاق من الأعمال ، فإن أوامر المولى الحكيم مبنيّة على التدرّج والاستطاعة .. فإذا لاحظت تدريجية المراحل ارتفعت الإشكالات كلها.. فترويض النفس كترويض الحيوان المتوحش الذي يُروّض تدريجياً ، ليتحول إلى حيوان أليف.

فاغتنم في كل مرحلة ما أُعطيت من الحول والقوة في تلك المرحلة ، فإنك إذا عملت بما علمت ، أُعطيت قوّة مرحلة أخرى بمقتضى الحديث القدسي الوارد :
من تقرّب إليَّ شبراً تقرّبت إليه ذراعاً. البحار 84/189.. وأما مع التقصير والتواني ، فقد تسلب منك قوة المرحلة الأولى أيضا.

فمثلاً لو فاتك شرف قيام الليل ، فإياك أن تفوّت على نفسك فرصة الاستيقاظ بين الطلوعين ، فهذا فيض مستقل يغاير الفيض الفائت ، ولا تلتفت إلى تسويل الشيطان الذي يدعوك لتضييع فرصة لاحقة استمراراً لضياع فرصة سابقة .
وكذلك لو تورّطت في مجلس لغوٍ أو غيبة ، ورأيت قساوة قي قلبك ، فبادر إلى قطع ذلك المجلس بأية حيلة يمكنك الاعتذار بها ، ولا تلتفت إلى من يقول :
(أنا الغريق فما خوفي من البلل) ليوقعك في المزيد من الحرمان .
وعليه فعليك بما أوصيك به :

استفرغ وسعك في أن لا تضيّع فرصة من حياتك ، واجعل لكل عملٍ وقتا لا يتجاوزه إلى غيره ..
و قسّم أوقات عمرك إلى أوقات عبادة ومعاشرة واستجمام ..
ولا تُشغل نفسك في حاضرك بما سيستقبلك من الأمور..

اجعل نومك في أول الليل لئلا يفوتك قيام آخره ، متأثراً بما اشتغلت به من لغوٍ في أول الليل .. ثم نم متذكراً متطهراً تالياً للأدعية المأثورة، وخاصة تسبيحات الزهراء (ع) مهيئاً أسباب اليقظة لقيامك في الليـل ..
وإياك أن تُجْنب نفسك ببطن ممتلىء .!.

وابدأ صلاة الليل بسجدة الشكر ، ثم التأمل في السماء والتدبر في قوله تعالى :
{ إن في خلق السموات والأرض ….إنك لا تخلف الميعاد }.. آل عمران/194.. ثم تطهر وتعطّر واستاك ، ثم اجلس على مصلاك تالياً لدعاء : إلهي غارت نجوم سماواتك…. البحار 46/81

ثم ابدأ بنافلة الليل مراعياً ما بقي من الوقت ، كما ذكرها الفقهاء ، ومنهم : الشيخ بهاء الدين العاملي في مفتاح الفلاح ، والشيخ في المصباح ..

وابقَ مستيقظا ذاكراً لله تعالى إلى طلوع الشمس ، ولا تقم بأي عملٍ في هذا الوقت غير قراءة الأوراد والأذكار المشروعة ، وأما إذا سنحت لك الأفكار والخواطر الرحمانية ، فاستغرق في متابعتها بدلاً عن تلك الأوراد والتعقيبات ..

واختر من بين الأعمال العبادية أشدها تأثيراً على نفسك ، فهو المقدم من بين تلك الأعمال ، سواء كانت تلاوةً لكتاب ربك ، أو مناجاة بين يديه ، أو قياما لصلاة ، أو تذللاً في سجود.

وبعد ذلك تبدأ بأداء حق المخلوقين كالأهل ، فتجالسهم بمقدار ما تلزمه المعاشرة بالمعروف ، ثم تتوجه إلى عملك مشتغلاً بالأذكار المأثورة كأدعية الدخول في الأسواق.. ثم ابدأ بعرض ما لديك من متاع ، متذكراً الله عز وجل ، فإنه بمثابة النور في ظلمات الحياة ومنها الأسواق.. واحرص على أن لا تتدخل في شؤن الخلق إلا بما يقتضيه التكليف ، كالنهى عن المنكر وبالطريقة التي أمر بها الشارع ، من الحكمة والموعظة الحسنة فيما لو احتملت التأثير وإلا فلا تكليف في البين ..

وعليك أن لا تغفل عن قراءة سورة القدر بعد العصر عشر مرات ، مع الاستغفار المأثور ..

واحرص على أن تكون على طهارة دائمة ، صائماً ما أمكنك ذلك وخاصة في الأيام الثلاثة من كل شهر ، بشرط موافقة المزاج ، وإلا فإن مراعاة المزاج أولى ، إذ البدن مركوب العبد لا ينبغي أن يُنقص من حظه فيكلّ ويملّ ، ولا يعطيه أكثر من حقه فيطغى ويزل ، وخير الأمورأوسطها وهذه قاعدة في كل الأمور وقد قيل : (عليكم بالحسنة بين السيئتين).

ويحسن بك في أية ساعة من ليل أو نهار ، القيام بسجدة طويلة تُكثر فيها من قول : (سبحان ربي الأعلى وبحمده) وليكن سعيك في استحضار قلبك عند كل ذكر ووِرْد ، مقترنا بالمداومة ليتحول عملُك إلى مَلَكة وعادة.

(حرره محمد البهاري الهمداني )

شاهد أيضاً

الشيخ جعفر الابراهيمي ليلة 20 شهر رمضان