الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١٢١ – ١٤٠
منها: أن المدار في الانتخاب هل هو على الأكثرية الكمية او على الكيفية مما قد يصطلح عليه أهل الحل والعقد، وعلى الفرضية الاولى هل هى مطلق الكثرة النسبية ولا يلتفت الى الطرف المقابل ولو كان بنسبة ٤٠% فما فوق، حتى وإن كان الطرف الأقل أكثر وعيا وأبصر بالأمر.
ثم هل المدار على ما يهوى المنتخبون من دون ملاحظة شرائط ومواصفات في المنتخَب أو أنهم مقيدون في انتخابهم بشرائط خاصة.
وهل عليهم مراعاة توفرها بالنحو الاكمل في المنتخب أم بأي درجة كانت.
ومنها: أن الاساس القانوني او بتعبير آخر شرعية الحاكم في تولي السلطة لم يتم تشخيصه وتحديده.
فهل الحاكم المختار هو وكيل عن الجماعة في ادارة شؤونها العامة، وهذا يعني وجود عقد وكالة بينهم، مع ما يستلزمه هذا من القول بأنه وكالة من نوع خاص اذ لا تسري عليه كل احكام الوكالة.
أو أن سلطة الحاكم المختار هي ولاية على الأمة وهذه يتصور على نحوين:
احدهما: ان تنقل الأمة الولاية التي لديها على نفسها إلى هذا الحاكم.
والاخر: أن يكون له الولاية من قبل اهل الحل والعقد الذين يجعلون الحاكم المنتخب له الولاية، فتكون ولايته طولية كما في ولاية حاكم المدينة المعيّن من قبل الإمام المعصوم.
النطرية الثانية:
ان الولاية تثبت بالنص لشخص الولي إلا أن فعلية ولايته منوطة بالبيعة والشورى، وعند فقد النص يكون الأمر شورى، وبالتعبير الحديث يقال ان السلطة التنفيذية بيد الأمة غايتها يكونون مقيدين بالمنصوص عليه وفي حالة عدمه يختارون من تنطبق عليه المواصفات والشرائط، أما السلطة التشريعية فهي بيد الأمة. فالولاية للمختار بالاصالة لا بالنيابة عمن اختار المنصوص عليه.
النظرية الثالثة:
في حالة وجود النص فهو المتبع ولا دور للشورى، وفي حالة عدمه او غيبة المنصوص عليه، فالأمر يعود للأمة لاختبار الحاكم لكن ذلك مشروط بنظارة أهل الخبرة الشرعية وهم الفقهاء.
وفي عصر الغيبة يكون الأمر للأمة شورى تمارس السلطة التنفيذية والتشريعية غايته يكون ذلك تحت نظارة واشراف الفقيه.
ولهذه النظرية صياغات:
١ ـ ان دور الفقيه يكون كدور المحكمة الدستورية في التعبير الحديث، وهو فصل النزاعات والاختلافات الحاصلة بين السلطات. وامضاء التشريعات التي
٣ ـ ان الفقيه هو المحور في الحكم غايته قد تعوزه الخبرة العملية في تحصيل الموضوعات فيستعين بأهل الخبرة في كافة المجالات التي يحتاجها في تسيير شؤون الدولة من سياسة واقتصاد وقانون وثقافة… وهذا نظير ما طرحه السيد الخوئي في الجهاد من كونه بيد الفقيه غايته يجب ان يستعين بأهل الخبرة من السياسين والعسكريين في اعلان الجهاد.
وهذا التفسير الاخير يباين النظرية المزبورة وقد يتطابق مع النظرية الخامسة الآتية.
النظرية الرابعة:
أن ولاية الأمر هي بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه المنصوص عليه ولا يعود الاختيار للأمة.
غايتها ان كليهما ملزمان في تسيير أمور الأمة بالشورى، ويكون رأي الشورى ملزما لهما ولا يجوز لهما مخالفته.
وطبقاً للتعبير الحديث السلطة التنفيذية بيد المنصوص عليه أو مَن ينيبه والسلطة التشريعية في كلا الفرضين بيد الأمة.
النظرية الخامسة:
أن ولاية الأمر تكون بالنص ولا مناص منه حيث ان الولاية لله عزوجل يجعلها لمن يشاء من خلقه، فهي تابعة للمنصوص عليه أو مَن ينيبه، غايته يكون ملزماً في طريقة تسيير شؤون دولته وأمته بالاستشارة لكنه غير ملزم بنتيجة المشورة فيستطيع مخالفتها.
وتكون فائدة الاستشارة بالنسبة للمعصوم ما سوف نبينه فيما بعد اما بالنسبة لغير المعصوم فهي نوع من الاستعانة الفكرية.
وهذه النظرية هي التي يتبناها فقهاء الإمامية وهي مؤدى نظرية النص، غايته فيها نوع من الاستعانة بالشورى في ادارة شؤون الأمة.
وهناك طرح اخير يتداول بين علماء الامامية وليكن نظرية سادسة حاصله أن الولاية هي بالنص دائماً، غايته في عصر الغيبة جعل المعصوم نيابة عامة ضمن من تتوفر فيهم شرائط خاصة. ويعود للأمة تعيين ذلك المصداق فيمن تتوفر فيهم الشرائط.
وشرعية سلطة ذلك الولي المختار من قبل الامة هي بكون الولاية له من المعصوم لا من الامة، غاية الأمر الاستنابة من المعصوم هي لمن تتوفر فيه شرائط أحدها رجوع الأمة اليه المستفاد من: “فارجعوا فيها الى رواة حديثنا” “اجعلوا بينكم ممن قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته قاضيا” “فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً”.
وهذا الطرح الاخير يكاد يتطابق مع النظرية الخامسة، مع اناطة دور للامة في الاختيار والرجوع الى الفقيه.
وقد خالف الإنصاف من نسب النظريات الاخرى الى الامامية بل هي رأي عدة من المتأخرين، لا المتسالم بينهم المنسوب الى الضرورة عندهم، ومن ثم لم يكن
بخلاف النظريتين الخامسة والسادسة حيث لا يكون لمجلس الشورى ـ مثلاً ـ اي دور تشريعي بل هو اشبه بالمجلس الاستشاري فتحتاج قوانينه الى امضاء الفقيه.
المبحث الثالث
الادلة النقلية التي اقيمت على النظريات المختلفة
وتشترك النظريات الأربعة في اناطة جانب من الحكم ـ التنفيذي والتشريعي.
ـ بالأصالة للأمة، ومن هنا سوف نجعل ذلك هو المحور في البحث، فهل يوجد للأمة مثل هذا الدور أم لا؟
والمستدل بهذه الادلة تارة يستدل على أن الولاية لمجموع الامة وتارة للنخبة وهم أهل الحل والعقد، وقد يستدل بها على أن الولاية ثابتة للامة في عصر الغيبة فقط دون عصر النص.
أولاً:
الادلة المتضمنة للفظ الشورى:
١ ـ الآيات: وقد ورد لفظ الشورى في موضعين من القرآن الكريم:
أ ـ قوله تعالى: {فَبِمَـا رَحْمَة مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}(١).
ب ـ {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}(٢).
فالآية الاولى وردت بصيغة الأمر، والآية الثانية وردت في سياق بيان صفات
اما الآية الثانية فورد فيه لفظان الأول: امرهم والمراد به الشأن او الشيء المهم، وعند اضافته الى المسلمين يكون المجموع دالاً على أن الأمر والشيء المهم هو الذي يرتبط بالمجموع، وهل يوجد ما هو أهم من تعيين الولي الذي يقوم بادارة شؤون المجتمع؟!
اما الشورى فتعني تداول الاراء بين المجموع، وكلمة بينهم تؤكد دخالة المجموع في ابداء الرأي واستقلالية هذا الرأي عن العناصر الخارجة عنهم.
والآية الكريمة تعدد مجموعة من صفات المؤمنين أكثرها الزامي كاقامة الصلاة والانفاق الواجب والاجتناب عن الكبائر، وهذا الوصف طبيعي من حيث تعلقه بالوظائف العامة والامور التي تعني المجتمع لا تقبل الندبية، حيث أن بعض الامور ان شرعت وجبت ولا يمكن أن تكون مشروعة وغير واجبة، وبهذا يستدل على الزامية الشورى الواردة في هذه الآية.
ويلاحظ أن هذه الآية مكية وقد نزلت في وقت لم يكن للمسلمين دولة وكيان بالمعنى المتعارف.
٢ ـ الاستدلال بسيرة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) حيث التزم بالشورى في عدة مواضع:
١ ـ واقعة بدر: حينما نزل الرسول في موقع، قال له الحباب بن المنذر بن الجموح: يارسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلاً انزلكه الله ليس لنا ان تقدمه ولا تتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال: يارسول الله فان هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي اول
٣ ـ غزوة الاحزاب ـ الخندق:
فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق. وقصته معروفة مشهورة.
وموقف آخر حينما أراد الرسول (صلى الله عليه وآله) عقد الصلح مع غطفان، فأرسل الى عيينة بن حصين والحارث بن عوف وهما قائدا غطفان فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن اصحابه، فلما اراد أن يوقع معهما الشهادة والصلح بعث الى سعد بن مُعاذ وسعد بن عُبادة، فذكر لهما ذلك واستشارهما فقالا: يارسول الله، أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك به الله لابد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك الا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب فأردت أن اكسر عنكم من شوكتهم الى امر ما. فقال له سعد بن معاذ: يارسول الله قد كنّا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الاوثان لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قِرىً أو بيعاً. أفحين أكرمنا الله بالاسلام وهدانا له واعزنا بك
وعليه نعود الى الآيتين الكريمتين فان الامر الواردالاستشارة فيه اما ان نعممه الى رأس الهرم السياسي وهو الخليفة والزعيم او لا أقل يستفاد منها الالزام في الوظائف التي تهم المجتمع كالقوة التنفيذية والتشريعية.
٣ ـ الاستدلال بالعديد من الروايات الدالة على وجوب الشورى، ونحن نقسمها الى أصناف:
الصنف الأول:
روايات الشورى: قول علي (عليه السلام) في النهج / قسم الكتب / ٦: “انه بايعني القوم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان، على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، ولا للغائب أن يردّ، وانما الشورى للمهاجرين والانصار فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضى، فان خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه الى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولى، وان طلحة والزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي وكان نقضهما كردهما فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون فادخل فيما دخل فيه المسلمون” وقد ذكر صدرها ابن
ـ النبوي: “لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة” البخاري كتاب المغازي باب كتابه (صلى الله عليه وآله) الى كسرى.
ـ قوله (عليه السلام) عندما اريد البيعة له: “دعوني والتمسوا غيري.. واعلموا ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ الى قول القائل وعتب العاتب، وان تركتموني فأنا كأحدكم ولعلي اسمعكم واطوعكم لمن ولّيتموه أمركم وانا لكن زوير خير لكم من امير”(٢).
ـ تاريخ اليعقوبي ٢: ٩ في احداث غزوة مؤتة قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أن أمير الجيوش زيد بن حارثة فإن قتل فجعفر بن أبي طالب فإن قتل فعبدالله بن رواحة فإن قتل (فليرتضي المسلمون من أحبوا).
ـ وفي الطبري ٦ / ٣٠٦٦ عن ابن الحنفية “كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الامر منك، لا اقدم سابقة ولا اقرب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: لا تفعلوا فاني اكون وزيراً خير من أن أكون أميرا، فقالوا: لا والله، ما نحن بفاعلين حتى نبايعك.
قال: ففي المسجد، فان بيعتي لا تكون خفية ولا تكون الا عن رضى المسلمين”.
ـ وفي الكامل ٣ / ١٩٣: “أيها الناس عن ملأ وأذن إنّ هذا امركم ليس لأحد فيه حق الا من أمّرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم فأبيتم الا أن اكون عليكم، ألا
ـ قوله (عليه السلام) لطلحة والزبير: “ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما”(١).
ـ سنن أبي داود ج ٢. كتاب الجهاد باب القوم يسافرون يؤمرون أحدهم.
عن النبي (صلى الله عليه وآله) اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمر أحدهم. وفي مسند أحمد بن جنبل ج ٢ / ١٧٧ لا يحل لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة، إلا أمروا عليهم أحدهم.
ـ في كتاب الوثائق السياسية ص ١٢٠ الوثيقة ٣٣ معاهدته مع أهل ومضمون المعاهدة هو أنه ليس عليكم أمير إلا من انفسكم او عن أهل رسول الله والسلام.
ـ في خطبة الإمام علي (عليه السلام) رقم ٧٣.
“ولعمري لأن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامة الناس فما الى ذلك بسبيل، ولكن أهلها يحكمون على مَن غاب عنها ثم ليس للشاهد أن يرجع ولا للغائب أن يختار”.
وفي الخطبة ١٢٧: “والزموا السواد الاعظم فإنّ يد الله مع الجماعة واياكم والفرقة”.
ـ وفي وقعة صفين عندما كان القرّاء يتوسطون بين الامام ومعاوية قال معاوية: إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا، فقال علي (عليه السلام): “انما الناس تتبع المهاجرين والانصار، وهم شهود المسلمين
فهذا الجواب للامام يدلل على مدى قيمة رأي النخبة في المجتمع أو أهل الحل والعقد.
وأمر الإمام معروف عندما أقبل عليه الثائرون من الامصار بعد مقتل عثمان وارادوا مبايعته فقال: انما ذلك لاهل الشورى وأهل بدر.
ولا يتصور أن اجوبة الامام هي في مقام المحاجة فقد ورد عن الإمام الرضا (عليه السلام) عن ابائه (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): “من جاءكم برأيه يفرّق الجماعة ويغصب الامة امرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه”(٢).
فهي ليست في مقام المحاجة بل ذكرها ابتداءً وتأسيساً لقانون وجوب اتباع رأي الامة وهو الشورى وعدم جواز الخروج عن رأيهم.
الصنف الثاني:
روايات الاستشارة: وهي روايات كثيرة متظافرة من جهة المعنى تؤكد على ضرورة المشاورة والاستشارة في كافة الامور نحو قوله (عليه السلام): “لن يهلك امرؤ عن
أ ـ ان التأكيد الوارد في هذه الروايات يدلل على محبوبية الاستشارة ولزوم اتباع نتيجتها، ولو كانت نتيجتها غير واجبة الاتباع لكان الامر بها والحث عليها بهذا النحو لغوا وعبثاً.
ب ـ انه قد ورد في بعض الروايات على نحو القضية الشرطية من لم يستشر هلك. فقد يقول قائل ان الوقوع في الهلكة في بعض الحالات قد يكون له وجه لكن اذا عممنا الامر بالاستشارة للوظائف العامة التي تهم صالح المجتمع فان الوقوع في التهلكة لا يكون جائزاً بأي نحو كان. فهي تدلّ على وجوب الاستشارة ولزوم نتيجتها.
ج ـ بعض الروايات توجب اتباع اراء المستشارين وفي بعضها التحذير “اياك والخلاف، فإن مخالفة الوَرِع العاقل مفسدة في الدين والدنيا”(١). فهذه تدل على لزوم الاخذ بالاستشارة.
د ـ ورد في رواية انه قيل: “يارسول الله ما الحزم؟ قال: مشاورة ذوي الرأي واتباعهم”(٢).
فالاستشارة لها ارتباط بالحزم وهو استجماع العزم والارادة فالارادة في مثل هذه الامور التي تهم المجتمع والتي يجب أن يؤخذ بها بالحزم يجب أن تكون صادرة
وقد يقال: ان الآيات والروايات الواردة في الشورى لا تدل على المطلوب وذلك لانها اكتفت بذكر العنوان فقط مع الاغفال عن ذكر تفصيلات الاستشارة وكيف تكون؟ وما هو دور أهل الحل والعقد؟ وماذا يحصل عند الخلاف؟ وهذا مع عظم أهمية الشورى حسب مدعى القائل ودخالتها في تلك الامور الهامة فلماذا سكت الشارع عن تحديد كل هذه التفصيلات؟
والجواب: انه مما لاشك فيه أن هذه القاعدة تدخل في تنظيم شؤون المجتمع فهي تتأثر بظروف المجتمع الخاصة، فلو كان الرسول (صلى الله عليه وآله) قد اتخذ عدداً معيناً للمشورة فهو عدد يتلائم مع تعداد المسلمين في ذلك الزمان ومع ذلك فانه سوف يتمسك بهذا العدد حتى مع بلوغ عدد أفراد المجتمع الآف الاضعاف، فلذلك لم يشأ الرسول (صلى الله عليه وآله) أن يجعل هناك ضوابط جزئية لهذه المسألة الهامة حتى يكون لكل مجتمع في كل زمان ما يرتأيه طبقاً لظروفه الخاصة وحتى يكون الاسلام متلائماً مع التطورات الحاصلة في كل مجتمع.
هذا تمام ما يمكن الاستدلال به من الطائفة الاولى وهي أهم الطوائف، يبقى كيفية الاستفادة من الشورى في اتخاذ الاراء والقرارات هل يتبع الكم ام الكيف؟
فمن جهة يقال انه من اجل حفظ النظام واستقامة الامر لا يمكن طرح رأي
فذهب كثير الى محاولة التلفيق بين هذين الرأين:
ـ فقال البعض إن الامة يجب أن تقوم بانتخاب النخبة وهؤلاء ينتخبون الولي.
ـ أن توضع حدود لانتخاب واختيار الامة اي لا تكون الامور مطلقة على عنانها بالنسبة للامة بل يجب أن يتقيدوا بقوانين وأحكام اسلامية.
التقييم:
أولا: رأي آخر في فهم الأدلة:
في مقام تقييم هذه الادلة من آيات وروايات وقبل أن نبدأ بالاجابة على كل نقطة من النقاط السابقة فانا نذكر ان نفس الآيتين اللتين استدل بهما على الشورى يوجد لهما تفسير آخر وهو مشهور وشائع بين المفسرين والمفكرين وحاصل ذلك:
ان المستفاد من الآيات والروايات هو حث المكلف ـ الذي هو في موضع المسؤولية عن الامة وادارة شؤونها بل حتى في اموره الخاصة ـ على الاستشارة وتوسعة افق التفكير ومنابعه، وعدم التعنت برأيه والتوحد به بل يلزم الانسان بفحص اراء الآخرين مع تمسكه بأن يكون الرأي النهائي له والا يكون متحركاً تبعاً لارادة المجموع.
بيان ذلك:
ذكرنا سابقاً في الفصل الاول عن وجود قوتين مفكرتين في النفس البشرية أحدهما النظرية والاخرى العملية فالاولى تقوم بدور البحث بين المعلومات المتوفرة لأجل تهيئة مقدمات استكشاف المجهول وادراك النتيجة.
والاخرى عملية تقوم بدور الاذعان والتسليم والجزم بتلك النتيجة وتسيير القوى السفلى وممارسة دور الامير والتوجيه لها.
وبتعبير آخر ان الانسان في منهجية تفكيره يتبع ما هو متداول في العصر الحديث من سلطات الشورى والتشريع حيث دور البحث والتنقيب، ثم دور القضاء القانوني الذي يقوم بالاذعان والجزم بهذه النتيجة وعدمها ثم دور التنفيذ وتوجيه القوى العمالة.
فالانسان في تفكيره ينطوي على تلك السلطات التي تدير شؤون المجتمع المدني. لذلك عبر عن المجتمع بالانسان المجموعي، وكلما دققنا النظر وتأملنا في سير عملية التفكير في الانسان الصغير سوف يتضح لنا حلاً لملابسات كثيرة في الانسان المجموعي.
فالمدعى هو أن الشور والتشاور فعل ومادة وعنوان لفعل القوى الفكرية النظرية، وليس عنواناً لفعل القوى العملية وسلطتها العمالة على القوى النازلة وهي الارادة، ثم ترد مرحلة الجزم والتسليم والاذعان وهي مرحلة قضائية اذ تكون فيصلاً بين التسليم بتلك النتيجة وعدمها وهو فعل مزدوج بين القوة الفكرية والعملية فالقضاء يقوم بتحديد الكبرى وهو عمل فكري وليس بعملي ثم تطبيق الكبرى على النزاعات والموارد الموجودة والمعروضة امامه.
وعلى كل حال فالمشورة والتساؤل يقابله الفعل الاول من افعال العقل وهو البحث والتنقيب، والفعل الثاني هو ادراك النتيجة فهو أمر غير مسألة البحث وان
واذا عدنا الى مفسري العامة في القرون الاربعة الاولى لا نلاحظ وجود نظرية معينة حول الشورى أو تفسير كلا الآيتين بمعنى ولاية الشورى، بل على العكس تراهم يذهبون في تفسيرها الى معنى المشورة اللغوية ويشكك الطبري انه كيف يؤمر النبيّ باتباع الشورى مع انه (صلى الله عليه وآله) غني عن المسلمين بالوحي(١). ويذكر فوائد الشورى من اقتداء الامة به، وتأليف قلوبهم وينقل ذلك عن قتادة وابن اسحاق والربيع والضحاك والحسن البصري، والسيوطي في الدر المنثور يورد روايات كثيرة في ذيل الآية الكريمة على حسن الاستشارة واستحبابها، وان المشاورة من الامور الموصلة للحق ومنها ما عن الامام علي (عليه السلام): يارسول الله اذا نزل بنا الأمر من بعدك وليس فيه قران وليس فيه من قولك ومن سنتك فماذا نصنع؟ قال: اجتمعوا وليكن فيكم العابد فترشدون الى أصوب الآراء.
فالجزم والرأي النهائي يكون للرسول (صلى الله عليه وآله) وهو قد يخالف اكثرية الاراء.
وما نلاحظه من استدلال العامة بالآيتين على ولاية الشورى بدأ في العصور المتأخرة بكتابات الآلوسي ورشيد رضا وابن الخازن.
اذن خلاصة ما يذهب اليه هذا الرأي انه يوجد منحى في فهم هاتين الآيتين غير ما استدل به اصحاب ولاية الشورى، وأن أوائل المفسرين لم يجعلوا هذه الآية دليلاً على ولاية الشورى.
مضافاً الى أن مبدأ ولاية الشورى يقترب من مبدأ سيادة الامة، وهو المصطلح الحديث في النظم السياسية المعبر عن حكم الامة، وتدخل الامة في ادارة شؤونها بنفسها، وهذا المبدأ من المبادئ الحديثة التي ظهرت في القرنين الاخيرين وما زالت تتدخل فيه يد القانونيين حتى يسدوا الثغرات التي تظهر بين آونة واخرى، فلا نجد مظهراً واحداً معبراً عن هذا المبدأ مع أن اغلب دول العالم تتمسك به وان الديمقراطية هي الاساس الذي تستند عليه الدولة الحديثة إلا ان الثغرات والعيوب الكثيرة التي ظهرت في هذه الممارسة للسلطة دعتهم الى أن يعيدوا النظر مرة وثانية
ثانياً: الجواب عن تلك الأدلة:
بعد استعراض السير التأريخي لنظرية الشورى والرأي الآخر في فهم الآيتين الشريفتين وهو الحق فإنا نذكر الجواب عن الأدلة السابقة وهي في نفسها تكون دليلاً على الفهم الآخر الذي ذكرناه وقويناه.
الوجه الاول:
وهو العمدة حيث أن المعنى اللغوي لمادة الشور والمشاورة معاً هو الموضوع لهذا المصطلح.
ـ الراغب الاصفهاني فسر الشورى بأنها من التشاور والمشاورة والمشورة وهي استخراج الرأي بمراجعة البعض الى البعض الآخر. وقولهم: شرت العسل اذا أخذته من موضعه واستخرجته منه(١).
ـ وابن منظور في لسان العرب يذكر ان الاصل اللغوي هو من شار العسل اي استخرجه من الوقية واجتناه. ويقال: شرت الدابة اذا أجريتها لتعرف قوتها. وحمله البعض على قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} بمعنى لتعلم الامين والمخلص من غيره واستشاره اي طلب منه المشورة.
فالمدار في الاشتقاقات تشير الى عملية الفحص والبحث الفكرية عن حقيقة