الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ٢٦١ – ٢٨٠
ثامناً: تحليل الإقتداء
وقد يطرح هاهنا إشكال حاصله:
إن اثبات المقامات الغيبية للنبي والأئمة وتعميق هذا الجانب في شخصيتهم البشرية يتنافى مع جعلهم قدوة للبشرية ولا يتلاءم مع أمر الله عز وجل باتباعهم واتخاذهم أسوة.
بيان ذلك: أن طبيعة الاقتداء والإتباع أن يأمل المقتدي من الوصول إلى مرتبة المقتدى،وأن يجعل همه الأول هو الوصول إليه والسير على هداه، وهذا يعني أن يكون المقتدى بمرتبة ومقام يمكن الوصول إليه، أما إذا كان مقامه مما لا يمكن الوصول إليه بل هو ممتنع المنال فكيف يجعل قدوة ونؤمر باتخاذه أسوة! فعليه يجب حصر الجانب الغيبي في ما يظهرونه من معجزة لاثبات الرسالة والإمامة فقط.
وقد يطرح الاشكال بنحو آخر أن تعميق هذا الجانب الغيبي في أحكام الدين سوف يبعد الدين عن الجوانب الاجتماعية والمادية التي جعلها ضمن اهتماماته، وبتعبير آخر أنه لو قلنا أن ملاكات الأحكام أمور غيبية بعيدة عن تأثيرات وضعية دنيوية سوف يفقد المكلف الدافع المحرك للسعي وتحصيل تلك الملاكات.
وفي الواقع ليس هذا الاشكال بصياغتيه شيئا جديدا مبتكرا بل هو اشكال يعود في جذوره إلى ما قبل الاسلام،حيث كان الناس يعتقدون أن الوصول والاتصال
أولا: أن طبيعة الاقتداء تقتضي أن يكون هناك فارق بين المقتدي والمقتدى، فإذا كان المقتدى مساويا للمقتدي، فإن الإقتداء يكون ممتنعا، إذ لا توجد مزية للمقتدى حتى يقتدى به، فالسعي والحركة والانبعاث الذي يحصل للمقتدي إنما هو من أجل تحصيل أمور وكمالات هو فاقد لها لكنها متوفرة وحاصلة في المقتدى، إذن يجب أن يكون المقتدى غير مساو للمقتدي.
ثانيا: كما أن الحاصل لا يسعى الإنسان إلى تحصيله، كما أن الممتنع أيضا لا يسعى الانسان إلى تحصيله، فيجب أن يكون المقتدى له مرتبة بين هذين الأمرين، وفي نفس الوقت يجب أن يكون هذا الاقتداء ملازماً للانسان في كل مسيرته بمعنى أن المقتدى يجب أن يكون متفوقا دائما على المقتدي، وإلا لو فقد هذا التفوق لتوقف الاقتداء في فترة من فترات حياة الإنسان، وذلك فيما إذا نال كل كمالات المقتدى، وحينئذ لا يكون هناك سعي ولا يكون هناك هدف يحرك هذا الانسان، فيجب أن يكون هناك باعث ومحرك دائمي للانسان وللانسانية قاطبة، وفي نفس الوقت لا تكون كل درجات كمالات المقتدى ممتنعة، كي يمكن السعي والتحصيل.
وهذا هو معنى الحالة الوسطية بين الأمرين أي لا كمالاته كلها ممتنعة ولا كل كمالاته بكل درجاتها حاصلة، فيسعى الانسان لتحصيل تلك الكمالات فقد يصل بجهده إلى تحصيل بعضها وقد لا يستطيع “ألا أنكم لا تستطيعون على ذلك فأعينوني بورع واجتهاد وعقل وسداد”.
فتحصيل كل كمالات المقتدى أمر مستحيل غير ممكن أما تحصيل بعض
وجوابه: أن الإمام هو الآية العظمى وفي الحديث “ما لله أية أكبر مني”وآيته في الصفات الخلقية، فالسعي إلى الله غير متناه لا في الدنيا ولا في الآخرة ومن رحمة الله بعباده أن جعل لهم إماما يقتدون به يماثلهم في البشرية ومتخلقا بأخلاق الله عزّ وجل، وهذا هو لطف الله بعباده لأن المقتدى أيضا هو في حالة سير وحركة من أجل تحصيل الكمال اللامتناهي، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة.
ونعود إلى محل الكلام فإن هذه الحالة الوسطية دائما هي التي تدفع الإنسان نحو الحركة والعمل وكما في الخوف والرجاء، فلا هو حصر في حالة الخوف فقط لأنه يأس من رحمة الله، واليأس عدم اعتقاد برحمته تعالى فهو كفر، والرجاء المطلق كفر أيضا لأنه عدم اعتقاد بعقاب الله.
فالإمام ليست صفاته كلها قابلة للمنال ولو كانت كذلك لما كان الانسان متحركا نحوها بحركة مستمرة دائمة لا تقف عند حد، ولا هي حاصلة للانسان حتى لا يكون هناك دافع نحو السير والسعي الحثيث. وسوف نشير في بحث الفقه العقلي للإمامة إلى أن الوسيلة الصحيحة للتوحيد هي الإمامة.
ثالثا: ذكرنا أن كمالات الإنسان تشمل جنبتيه البدنية المادية و الروحية المعنوية، وكمالات الجنبة الأخيرة على قسمين: منها ما له ارتباط بالبدن كالشجاعة فهي كمال روحي إلا أن له ارتباطاً بالبدن. والقسم الآخر: كمالات روحية لا ارتباط لها بالبدن بل ترتبط بعوالم الغيب و الآخرة والعوالم المجردة،
خامسا: نحن نسائل المستشكل الذي لا ينفي الغيبيات في المقتدى، بل يحصرها في اثبات المعجزة للرسالة والنبوة والإمامة، نقول: لماذا في هذا الجانب نثبت الأمر الغيبي؟
والجواب: أن هذا هو الكاشف عن اتصال هذا الشخص بالغيب وأنه مبعوث وسفير من قبل الله سبحانه وتعالى، فالمعجزة هي المثبتة للاتصال والسفارة الإلهية وأن هذا الاتصال غير موجود في بقية أفراد البشر، ونحن نقول أن هذا الاتصال الغيبي هو المقام الغيبي نفسه،بمعنى أن هذا الاتصال يكشف أن لهذا الشخص درجة وجودية معينة، وهذه الخصوصية مَنّ الله تعالى بها عليه وهي التي مكنته من الإتيان بالمعجزة حتى يثبت لبني البشر أنه سفير من قبل الله تعالى.
ومما لا شك فيه أن تصحيح محل النزاع بما ذكرنا سوف يهئ لنا الأرضية والذهنية المطلوبة للتعامل مع الأدلة العقلية والنصوص الشرعية، حيث أن طائفة كبيرة سوف تدخل في ضمن نطاق التحليل والاستنطاق بخلاف ما إذا كان
المبحث الأول
تعريف الإمامة
الجهة الاولى: التحليل اللغوي:
إنا لا نهدف من بحثنا استعراض المعنى اللغوي الذي يسطره اللغويون في كتبهم، بل مرادنا هو الوصول إلى ماهية وحقيقة الإمامة وبتعبير اصطلاحي رفع الستار عن ما الشارحة وما الحقيقية. وإذا ما استعرضنا كلمات اللغويين فما ذلك إلا توطئة للوصول إلى التعريف الماهوي واستخلاص المعاني العقلية التي تنطوي عليها اللفظة.
ومن خلال ما يذكره اللغويون يمكن ذكر بعض الملاحظات التالية:
١ ـ أن اصطلاحات الامام والأمة والمأموم كلها تعود إلى جذر لغوي واحد هو أمّ يؤم.
٢ ـ أن المراد من يؤمه أمّ إذا قصده، والأمّ هو القصد المستقيم والتوجه نحو المقصود(١) ففي هذا الأصل الاشتقاقي جنبة السير والسلوك.
٣ ـ أن المراد من الأمة هي الجماعة الذين يكون لهم مقصد واحد.
٤ ـ أن الإمام هو كل من ائتم به قوم كانوا على الصراط المستقيم أو كانوا ضالين، وعلى هذا يكون معنى إمام بمعنى المقتدى اسم مفعول، ويكون المأموم اسم فاعل
الجهة الثانية: التحليل العقلي
إنا إذا قمنا بتحليل أعمق لماهية الامامة وكيفية أخذ الامام بيد الأمة لتحقيق الغاية القصوى، فإنه يجب أن تكون هناك طاعة ومتابعة وانقياد من قبل المأموم للامام، مع المحافظة في نفس الوقت على الاختيار والارادة التي للمأموم، وهذا يعني وجود نوع من السلطة والولاية من قبل الامام على المأموم مع المحافظة على اختياره وهو أنه إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
فالامامة متقومة بطرفين الامام والمأموم وفي كل طرف منهما يكون لها معنى; ففي الاول له التسلط والولاية، وفي الثاني له الاختيار بمعنى أن الامام لا يلجأ المأموم على التصرف المعين ولا يقوم بتسخيره أو قهره بل يجب أن يقوم المأموم بذلك طواعية واختيارا، ونستطيع تشبيه ذلك بالانجذاب الحاصل بين المحب ومحبوبه وسيطرة الأخير على الأول لا بنحو يقهره ويسلبه وهذا لا ينافي اختياره.
ومن هنا نستطيع القول أن الإمامة ليست علة تامة للهداية بل هي مقتض لحصولها إذا ارتفع المانع وهو إرادة نفس المأموم واختياره،إذ بيده أن يتبع هداية الأمام حتى يوصله إلى الغاية وان يسلم له القيادة، وله أن لا يستجيب له فلا تؤثر عليه هداية الامام.
فالتحليل الماهوي للإمامة يقوم على حيثيات; حيثية الاقتداء، وحيثية الهداية الايصالية، وحيثية السير السلوك والحركة، وحيثية الولاية والسلطة والجذب.
وإذا أردنا أن نتلمس بنحو أفضل فما علينا إلاّ التأمل في هذه الامثلة الثلاثة والموازنة بينها: الانسان الصغير وهو ذلك المخلوق الذي كرمه الله تعالى بالعقل. والإنسان المجموعي وهو المجتمع البشري، والإنسان الكبير وهو عالم الخلقة. فنتناول دور الهداية في هذه العوالم الثلاثة.
– أما الانسان الصغير: فهو ذو جنبتين أحدهما البدن والاُخرى الروح، ولكل
والقوى العقلية على نحوين: العقل النظري والعقل العملي. والأول وظيفته الادراك. والآخر وهو العقل العملي ووظيفته الادراك والعمل والتأثير على القوى المادون التي تتبعه في الحركة،فيكون أميرا لها وتكون أسيرة له، وفي اتباعه لا تكون ملجئة بل يبقى للقوى الاخرى الاختيار في اتباع العقل العملي، فإذا ما تسلطت القوى المادون على قوة العقل العملي فتكون إمام ضلال وباطل، وقد ورد في حكمة لأمير المؤمنين (عليه السلام): “كم من عقل أسير تحت هوى أمير”(١).
أما إذا أذعنت لقوة العقل العملي فإنه يصبح إمام هدى، فالعقل العملي هاد ومرشد لقوى الانسان المختلفة، ووجود هذه القوة امر لا بد منه وإلا لسعت كل قوة إلى ما يؤدي إلى تكاملها وأدى الصراع بين قوى الانسان إلى فنائه، فيحتاج إلى ما يكون هاديا وموصلا للكمال وهو العقل العملي، وزود هذا العقل بسلطة اخضاع القوى المادون مع احتفاظ النفس الانسانية بالاختيار، والاختيار حيثية نفسانية توظفه النفس – التي هي غير القوى العملية والادراكية – في يد القوى الفوقانية أو القوى المادون، ولو كان العقل العملي ملجئا وسالبا للاختيار لما صدرت المعصية من أحد لأنه موجود في كل إنسان.
والخلاصة:
أ – أن قوى الإنسان تهتدي إلى الكمال بواسطة العقل العملي.
ب – أن العقل العملي يقوم بدور إمام هدى، وهذه الهداية ايصالية وليست مجرد إراءة وإلا لاكتفي بالعقل النظري، فهذا يدل على الحاجة الفطرية داخل الانسان لوجود ما يقوده إلى الكمال.
ج – أن العقل العملي استحق هذا المقام بسبب العلم الذي لديه.
د – أن العلم الحصولي لدى العقل العملي يعتمد على أساس العلم الحضوري الذي لا خطأ فيه.
هـ – أن العقل واسطة لتنزل العلوم من العوالم الغيبية العلوية إلى العوالم المادون، ولا يمكن للقوى المادون (الغضبية والشهوية…) أن تتصل بتلك العوالم إلا
ز – أن الرسول الباطن وحي فطري إنبائي، والامام الباطن وحي فطري ولوي.
أما كونه وحيا: فلأن العقل قوامه بالعلم، لكن العلم الذي في الوحي النظري غير عمّال أي علم باطني غيبي أما في العقل العملي فهو علم عمّال ومستند للعلم الحضوري، والعلم الإنبائي الذي في العقل النظري أيضا مستند للعلم الحضوري إلا أن تكامل العقل النظري يكون فيما إذا وجد العقل العملي، وعندما نقول أن العلم فيه حيثية ولوية فلا نقصد بذلك تعبيرا أدبيا بل إشارة إلى عمّاليته ومحركيته وقدرته.
أما سبب اطلاقنا عليه بالوحي(٢) فلأن حقيقة الوحي هي الارتباط بالغيب، والانسان لوجود حيثية التجرد فيه فهو مفطور على الارتباط بعالم التجرد بواسطة
ط – أن تصرف الامام الباطن في القوى المادون يكون بقدرة ملكوتية ونعني بها القدرة التجردية التي ليس فيها تدريج وتدرج بل على نحو كن فيكون، وهذه القدرة لا تحتاج إلى شرائط عالم المادة و لا شرائط في فعله وتأثيره، وإنما مجرد الاذعان يحرك النفس تحريكا اختياريا، فلو أن المحرِّك لم يختر التحريك فلا يتحرك، وليس معنى (كن فيكون) الجبر.
وبيان أخر للملكوتي: أنه اصطلاح يطلق على القدرة النابعة من العلم محضا في مقابل القدرة التي تتوقف على العلم والآلة المادية وتسمى القدرة المادية، وهذا أمر متفق ومبرهن عليه في علوم المعارف العقلية والنقلية نذكره كأصل موضوعي. فالعلم الحصولي وهو مرتبة ضعيفة من العلم يحتاج إلى الآلة كما في قدراتنا المعتمدة على العلم الحصولي. أما إذا كانت القدرة نابعة من العلم الحضوري فإنها لا تحتاج إلى شرائط المادة لشرافة و قوة العلم المعتمدة عليه.
فإمامة الامام الباطن وعمّاليته بتوسط قدرة ملكوتية وهداية الامام الباطن بأمر ملكوتي ويسمى أمر إلهي، والإلهي اشارة إلى عالم التجرد، وقد يطلق على عالم الملكوت بعالم الامر فتسمى القدرة الأمرية.
فتبين أن الامام الباطن تكون له نحو إحاطة وقيمومة على من دونه، وهذه ليست كإحاطة واجب الوجود ببقية الممكنات بل هي كإحاطة العلة بمعلولها،
وبناء على كل ما مضى نقول في تعريف الامام الباطن في الانسان الصغير: انه يكون هاديا وموصلا للنفس إلى كمالاتها بأمر ملكوتي.
ي ـ نقطة أخيرة; نضيفها أن التسلسل في تنزل الفيوضات يكون من القلب للعقل النظري الذي هو الرسول الباطن ومن ثم للعقل العملي الذي هو امام باطن، وقد ذكرنا ان العلم الذي في الثاني أشرف من الأول لكن إذا جمع الأول بين الرسالة والامامة فإنه ينال الشرف العالي، وقد ورد في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) عن الذين ابتعدوا عنه “احتجوا بالشجرة وضيعوا الثمرة”، وهذا قريب مما ذكرنا أن كمال العقل النظري هو بالعقل العملي فالامامة هي ثمرة النبوة، وذلك لأن مجرد العلم ومجرد التمييز بين الحسن والقبيح من دون ترجيحها إلى إعمال وإثارة القوى المادون لا يكون ذا أثر، والأثر الوحيد هو في الاستفادة من العلم الذي يتوصل إليه العقل النظري لوصول الانسان إلى الكمال وتجنب الوقوع في المفاسد والقبائح، ومن هنا تكون الامامة ثمرة النبوة والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) قد حاز شرف النبوة والإمامة وكما أنه امام للخليقة فهو إمام للأئمة كما أن القلب امام للعقل العملي الذي هو إمام لما دونه من القوى.
الانسان المجموعي:
وهو مجموع المجتمع بما فيه من اركان وهي الدولة والحكومة، فإنا نشاهد انها تتألف من فقرات متعددة منها القوة التنفيذية، ومنها القوة التشريعية، ومنها القوة القضائية، كما أن كلا من تلك القوى الثلاث تتشعب إلى أقسام.
والقوة التشريعية وظيفتها الهداية الارائية، والقوة التنفيذية وظيفتها الهداية الايصالية، والقوة القضائية وظيفتها كوظيفة الوجدان في الانسان الصغير، وهي لتعديل الاشياء لكي لا تستعصي في قبول الهداية الارائية الايصالية والسير نحو التكامل وعدم التخلف عن ذلك،ويمكن المطابقة في التفاصيل الاخرى بين الانسان المجموعي والانسان الصغير فمثلا وزارة الجيش والدفاع توازي القوى الغضبية، ووزارة الرياضة والتربية البدنية أو السياحة ونحوها مما يغطي جانب اللهو واللعب توازي القوى الشهوية، وإلى غير ذلك من التطابق إلا ان اهم ركن في الانسان المجموعي هو ما يقوم بالهداية الارائية والهداية الايصالية إلى الكمالات المنشودة.
الانسان الكبير:
ونقصد به عالم الخلقة وما يحويه من عوالم ونشآت في قوس النزول وقوس الصعود، وذلك لنتعرف على دور الامامة وحقيقتها في هذا العالم الكبير، وهذا الانتقال طبقا لما هو المسلم به في المعارف أن “من عرف نفسه فقد عرف ربه”، أي أن معرفة آيات الله وأفعاله جل وعلى يكون عن طريق معرفة الانسان نفسه وهذا يقتضي موازاة الانسان الصغير للانسان الكبير، وأن فعل الله وهو الخلقة تكون
والمهم لدينا هو استكشاف موقع الامامة في الانسان الكبير وأنها مرتبة تكوينية ومقام وجودي في ضمن المراتب الوجودية المختلفة، وهذا هو محل النزاع مع الآخرين والذي أردنا إثباته، فهم قد جعلوا محور البحث في الانسان المجموعي ونحن ننقل ذلك إلى الانسان الكبير أيضا.
ولا ندعي أنا قد توصلنا إلى معرفة كنه وحقيقة الامامة في هذا الموقع بل تمكنا من وضع تصور اجمالي يرفع الغموض واللبس وإن بقيت جوانب مجهولة،وهذا المقدار لا يمنع من ثبوت المعرفة وتحققها.
ونبدأ بحديث هشام بن الحكم مع عمرو بن عبيد المعروف والمشهور حيث قال له: ألك عين؟ قال: نعم، قلت: ما ترى بها؟ قال: الألوان والاشخاص، قال: قلت: فلك أنف؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: اشتم به الرائحة، قلت: فلك فم؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أذوق به الطعم. قلت: ألك قلب؟ قال: نعم، قلت: فما تصنع به؟ قال: أميز به كل ما ورد على هذه الجوارح، قلت: أليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ قال: لا، قلت: وكيف ذلك وهي صحيحة سليمة؟ قال: يا بني الجوارح إذا شكت في شيء شمته أو رأته أو ذاقته ردته إلى القلب فيتيقن اليقين ويبطل الشك، قلت: وإنما أقام الله القلب لشك الجوارح؟ قال: نعم، قلت: فلا بد من القلب وإلا بم تستيقن الجوارح؟
الجهة الثالثة: التعريف النقلي
يلاحظ أن هذه الكلمة وردت في القران في موارد عدة هي: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً}(٢)، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}(٣)، {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ}(٤)، {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ}(٥)، {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}(٦).
والعلامة الطباطبائي يتعرض لتفسير مقام الامامة الذي أُعطي لابراهيم وأنه مغاير لمقام النبوة والرسالة، ويأتي بشواهد عدة:
١ ـ أن هذا المقام أعطي لابراهيم على كبره و بعد تولد ذريته اسماعيل واسحق، وقد كان قبلها نبيا بلا شك.وذلك لأنه لو لم يكن لديه ذرية لما كان سؤاله الله تعالى {وَمِنْ ذُرِّيَتِي}.
٣- السجدة ٣٢: ٣٤.
٤- الانبياء ٢١: ٧٣.
٥- الاسراء ١٧: ٧١.
٦- القصص ٥: ٢٨.
٤ ـ أن لفظ الهداية قُيد بالأمر في آية السجدة، والأمر هو الذي يبين حقيقته ما ورد في قوله تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}(١)، وقوله {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْح بِالْبَصَرِ}(٢)، فهذا الأمر هو أمر ملكوتي ليس فيه تدريج بل يحصل دفعة واحدة بمجرد إرادته بعيداً عن شرائط المادة والآلة وهذا الملكوت قد حاز عليه ابراهيم كما ورد في {وَكَذلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}(٣)، فإراءة الملكوت لابراهيم كانت مقدمة لافاضة اليقين عليه، وأهل اليقين لا يحجبهم عن ربهم حجاب قلبي من معصية أو جهل أو شك أو ريب، بل يكون لهم شهود حضوري على الأعمال أي أعمال البشر.
فالامام هاد يهدي بامر ملكوتي يصاحبه، والامامة بحسب الباطن نحو ولاية على الناس في أعمالهم، وهدايتها ايصالها إياهم إلى المطلوب بامر الله دون مجرد اراءة الطريق الذي هو شأن النبي والرسول(٤).
٣- الانعام: ٧٥.
٤- الميزان ١: ٢٧٤.
فالمخلوق يكون ذا جهتين فإذا لحظناه بما هو في نفسه فإنك تلحظه من جهة المخلوقية، أما إذا لحظته بما هو دال على خالقه تكون جنبة ملكوتية، ومن هنا كان النظر في ملكوت الأشياء يهدي الانسان إلى التوحيد هداية قطعية، فإراءة ابراهيم ملكوت السماوات والأرض هو توجيهه تعالى نفسه الشريفة إلى مشاهدة الاشياء من جهة استنادها ووجودها إليه(٢).
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ}(٣)، فالملك هنا يشمل الحقيقي والاعتباري، بل قد يقال بالأول فقط وهو قد يعطيه من
٣- آل عمران: ٦.
– وقوله تعالى {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ}.
يذهب العلامة إلى أن المراد من الامام هنا هو إمام الهدى، إذ ان الآية تدل على أن لكل زمان إمام، ولا يخلو أناس في عصر من العصور من إمام فيكون المراد من الإمام هنا هو إمام الهدى، نعم الروايات دالة على وجود إمامين هدى وضلال، واستظهار العلامة وإن خالف ظاهرها لكن لا مخالفة حقيقية عند التدبر في الروايات، وذلك لان الروايات المفسرة للقران على نحوين:
أحدهما: أنها تقوم بمعالجة ظاهر القران الكريم بحيث تبين المراد من الآية
نعود إلى الآية الكريمة: فعلى فرض كون المراد من الامام هو إمام الضلال أيضا لا الامام الذي اجتباه الله، فإن إمام الهدى هو من البشر، وقد عرفته آيات أخرى من أن هدايته تكون بأمر ملكوتي خلاف إمام الضلال الذي لم تعرفه الآيات بهذا السنخ،وسيأتي مزيد تفصيل لهذا المعنى في فقه الآيات.
وقد ذهب البعض إلى أن المراد من الامام هوا لكتاب التشريعي كالتوراة والانجيل والقرآن، وهذا غير صحيح لأن المراد من كل أناس أنه يعم كل الناس من الأولين والآخرين،وليس مختصا بفئة معينة، ويلاحظ أن القرآن إذا أراد تخصيص فئة معينة من الناس لها هدف معين فإنه يعبر عنهم بالامة وعدم استخدامه لهذا اللفظ هنا يدل على إرادته كل الناس في مختلف الأزمنة.
ونعود إلى إمام الهدى والضلال; فإن امام الهدى هو الذي تكون هدايته بأمر ملكوتي بخلاف إمام الضلال الذي تكون هيمنته على مستوى الشيطنة، وهذه