الرئيسية / زاد الاخرة / الإنفاق في سبيل الله \عز الدين بحر العلوم

الإنفاق في سبيل الله \عز الدين بحر العلوم

ب ـ التأنيب على عدم الإنفاق :

ومن التشويق إلى الإنفاق ينتقل القرآن الكريم إلى الطريق الثاني في سلوكه مع الذين لا ينفقون من أموالهم في سبيل الله وبه يتوخى أن يستنهض هممهم لهذا المشروع الإجتماعي الحياتي ، وهو الإحسان بالبذل.

والآيات في هذا الخصوص تبدأ بفتح حوار مع الموسرين ومُناقشتهم في عدم استجابتهم لنداء الضمير ، وإسعاف المعوزين وتنبيههم إلى أن ذلك لا يضر بالله وإنما تعود آثاره وخلفياته السيئة على أنفسهم ، وعليهم أن يتبدروا حالهم ما دامت الفرصة مواتية وقبل أن يبعد الزورق عن الساحل وبذلك يتلاشى الضوء الأخضر ، وحينئذ فلا ينفع الندم.

( ها أنتم هؤلاء تُدعون لتنفقوا في سبيلِ الله فمنكم من يبخَلُ ومن يبخل فإنما يبخلُ عن نفسهِ والله الغنيُ وأنتم الفقراءُ ) (١).

حوار هادئ يتضمن مناقشة دقيقة يجريه الله مع من يشح على نفسه يمنعها من فعل الخير فلا يساعد من هو في حاجة إلى المساعدة.

__________________

(١) سورة محمد / آية : ٣٨.

٩٥

( ها أنتم هؤلاء تُدعونَ لِتُنفقوا في سبيلِ الله )

من خلال هذا المقطع تتجلى روعة الحوار في تعبير الآية بقوله ( تدعون ) ولم يقل ليفرض عليكم ، يكلفكم ، أو يأمركم ، وما شاكل من هذا النوع من العبارات التي تدل على الاستعلاء ، بل افتتح الله وهو العالي الحوار معهم بهذه الدعوة المفتوحة والأسلوب الهادئ الرقيق وبدلاً من أن تكون التلبية لهذه الدعوة بالإيجاب والإسراع لكسب الخير ونيل الجزاء فإن الاستجابة منهم كانت عكسية ، وإذا بالواقع العملي لتلك الدعوة يتضح من خلال الفقرة التالية :

( فمنكم من يبخلُ ) :

ومن خلال بخله يتوقف عن تلبية هذه الدعوة الخيرة بجمع الشمل وبث روح التعاون بين الجميع.

ويبدأ الحساب :

( ومن يبخلْ فأنما يبخلُ عن نفسه ).

لا على الله فأن عدم الاستجابة معناها الحرمان من الأجر والثواب في الآخرة وبذلك يخسر الصفقة وتفوت منه الفرصة.

أما الله فلا يفوته بهذا الامتناع شيء ذلك لأنه يصرح قائلاً :

( والله الغنيُ ) :

فلا حاجة له بالمال ، وهل يحتاج إلى المال من كان مصدر العطاء إلى الناس ؟

وما يأتي على لسان الآيات الكريمة عندما تصرح بأن الله

٩٦

يستقرض من الناس أو يطالبهم بالإنفاق ، فإنما هو لإيصال النفع اليهم قبل الفقراء نظراً إلى أن ما يصل إلى المحسن يضاعف أجره ، ويزيد على مقدار ما ينفعه ، وهذا اشارة إلى أن معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ فبخله بخل على نفسه ، وذلك أشد البخل قال مقاتل : إنما يبخل بالخير والفضل في الآخرة عن نفسه (١).

( وأنتم الفقراءُ ) :

الفقراء إليه سبحانه في كل صغيرة ، وكبيرة في الدارين الدنيا والآخرة.

في الحياة الدنيا : إلى مقوماتها.

وفي الآخرة : إلى ثوابها وجزائها.

وإذا كان الغني هو الله ، وهو القادر ، والرازق ، والقابض ، والباسط , والناس هم الفقراء إليه فعندما يطلب الغني الواقعي ـ الله ـ من الغني الصوري ـ المعطي ـ فإن هذا الطلب لا يعود بالنفع إلى الأول بل إلى الثاني لاحتياج هذا إلى الجزاء والثواب دون الأول إذ من الواضح أن فاقد الشيء لا يعطي كما تقرره القاعدة المعروفة.

وقد أكد القرآن الكريم على هذا المعنى في آية أخرى قال فيها :

( يا أيّها النّاسُ أنتمُ الفقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحميدُ ) (٢).

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية ـ ٣٨ من سورة محمد.

(٢) سورة فاطر / آية : ١٥.

٩٧

ومرة أخرى تؤكد هذه الآية ما افادته الآية السابقة من غنى الله وفقر العبد اليه ، ولكن في التكرار معنىً جديد تفيده الآية وقد نبهت عليه وبه تمتاز هذه الآية عن سابتقها.

ان هذه الآية أعطت صورة مميزة لغنى الله عن غنى البشر ، وقد جاء بذلك بوصف الغني بأنه ( الحميد ).

« أن تذييل الآية بصيغة الحميد للإشارة إلى انه غني محمود الأفعال إن اعطى وإن منع لانه اذا اعطى لم يعطه لبدلٍ لغناه عن الجزا ء والشكر ، وكل بدل مفروض.

وإن منع لم تتوجه إليه لائمة إذ لاحق لاحد عليه ولا يملك منه شيء » (١).

وهذا بعكس ماعليه الغني من بني الإنسان فإنه ان أعطى فإنما هو لبدل ليشكر وليمدح ، وإن منع توجه عليه اللوم اذ في أمواله حق معلوم للسائل والمحروم ، فبتقصيره وعدم الإنفاق يتوجه عليه اللوم.

وفي تأنيب آخر ضمن آية كريمة أخرى عرضت لنا صورتين لشخصين منفق وبخيل ، وما يجري على كل منهما :

( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغنى عنه ماله إذا تردى ) (٢).

من خلال هذه المقابلة الدقيقة التي يجريها القرآن الكريم بين

__________________

(١) الميزان في تفسيره لهذه الآية الكريمة.

(٢) سورة الليل / آية : ٥ ـ ١١.

٩٨

شخصين :

أحدهما : أعطى واتقى.

والآخر : بخل واستغنى.

وما لكل منهما من أجر وما سيجري عليه.

نرى الأول : فقد وعده الله بقوله ( فسنيسره لليسرى ) ، وسيجعل له حياة هادئة رغيدة ميسرة واليسر هنا عام لا يقتصر على شكل خاص في الحياة بل يشمل جميع مراحل حياته الجانب المالي وغيره نتيجة لاستجابته لنداء الله وقيامه بما تفرضه عليه الوظيفة الإجتماعية.

وأما الثاني : فقد وعده الله على العكس مما وعد به الأول ( فسنيسره للعسرى ) حياة معسرة ومعقدة يجد فيها أنواع العسر والضيق والكمد يتلكأ فيها :

يقول الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام :

« فأما من أعطى مما آتاه الله واتقى وصدق بالحسنى أي بأن الله يعطي بالواحد عشراً إلى كثير من ذلك ، وفي رواية أخرى إلى مائة ألف فما زاد فنيسره لليسرى قال لا يريد شيئاً من الخير إلا يسره الله له ، وأما من بخل بما آتاه الله واستغنى وكذب بالحسنى بأن الله يعطي بالواحد عشراً إلى أكثر من ذلك ، وفي رواية أخرى إلى مائة الف فما زاد فنيسره للعسرى قال لا يريد شيئاً من الشر إلا يسره الله له ، وما يغنى عنه ماله إذا تردى أما والله ما تردى من حبل ولا تردى من حائط ، ولا تردى في بئر ، ولكن تردى في نار جهنم » (١).

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآيات من سورة الليل.

٩٩

أما ترديه في نار جهنم فإن الله سيخلي بينه وبين الأعمال الموجبة للعذاب والعقوبة وحينئدِ فلا بد من ترديه وسقوطه بالأخير في جهنم.

وأخيراً نقف بين يدي آية ثالثة نستعرض من خلالها تأنيباً وتوبيخاً يشتمل على نوع من التصحيح لمفاهيم البعض الخاطئة حيث ينظرون إلى المال باعتباره المقياس لكرامة الإنسان وإهانته يقول تعالى :

( فأمّا الإنسانُ إذا ما ابتلاهُ ربُّهُ فأكرمهُ ونعَّمهُ فيقولُ ربّي أكرمَنِ * وأمّا إذا ما ابتلاهُ فقدرَ عليهِ رزقَهُ فيقولُ ربّي أهاننِ * كلا بلْ لا تُكرمون اليتيمَ * ولا تحاضُّونَ على طعام المِسكينِ * وتأكلونَ التُّراثَ أكلاً لمّا * وتُحبُّونَ المالَ حُبّاً جمّاً ) (١).

وعبر هذه الآيات يقف القرآن الكريم ليصحح للناس مقاييس الاكرام والتعظيم والإهانة والتحقير.

يتصور الإنسان أن المال منعاً وعطاءً من قبل المعطي هو مقياس الاكرام والاهانة ـ وعى سبيل المثال ـ فهو عندما يرى الله ينعم عليه من نعمة يعتبر ذلك مظهراً من مظاهر الأكرام ، وعندما يقتر عليه الرزق تثور ثائرته ويتجهم ، ويعتبر ذلك اهانة له من الله أو من غيره.

المهم هو العطاء والمنع في نظره.

ولكن الحقيقة تأتي مشرقة تتجلى بهذا النوع من التوبيخ والتأنيب تواجه به الآيات الكريمة الإنسان ليبقى درساً على مرور الزمن.

__________________

(١) سورة الفجر / آية : ١٥ ـ ٢٠.

١٠٠

ان القرآن يريد أن يقول لهم :

كلا ليس هذا هو المقياس الحقيقي للأكرام والإهانة كما تتصورونه وان ما تبنون عليه واقعكم الحياتي إنما هو محض اشتباه وخطأ.

فالانسان عندما يرزق أو يمنع في كلتا هاتين الحالتين إنما هو مورد اختبار وامتحان.

يرزقه ليرى شكره.

ويمنعه ليرى صبره.

ومن وراء ذلك وفي كلتا المرحلتين يجازيه بالنعيم أو بالجحيم.

وصحيح ان مظاهر الأكرام بالإنعام والعطاء.

ولكن الاهانة ليست بتقدير الرزق والمنع ، بل الاهانة يستحقها الفرد لعدم قيامه بما يفرضه عليه الواجب الإجتماعي العام اتجاه من هو ضعيف.

وتبدأ الآيات في ختام المطاف تعرض نماذج تتجسد فيها الحاجة إلى الغير والتي بتركها يستحق الإنسان الإهانة وعدم التقدير :

( كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضون على طعام المسكين * وتأكلون التراث أكلا لما * وتحبون المال حباً جما ).

( كلا بل لا تكرمون اليتيم ) :

عدم اكرام اليتيم نموذج من نماذج اهانة الإنسان المتمكن

١٠١

للطبقات الضعيفة المحرومة ذلك الإنسان الذي اعطاه الله وأنعم عليه فلم يراع تلك النعمة ليكفي اليتيم ـ وعلى سبيل المثال ـ من التكفف والتسول.

تقول بعض المفسرين معلقاً على هذه الفقرة من الآية : « والمعنى أن الاهانة ما فعلتموه من ترك اكرام اليتيم ومنع الصدقة من الفقير لا ما توهموه » من ان المقياس هو ما لو قدر الله على أحدٍ من العباد (١).

وقد جاء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة وأشار بالسبابة والوسطى » (٢).

هذا هو الكلام الذي جعل كافل اليتيم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنة ، وطبيعي أن يكون في قباله من ترك اليتيم ولم يرعه ولم يعط حقه.

وقد حث القرآن الكريم في آيات أخرى على اطعام اليتيم وجعله من الأسباب الموجبة لاقتحام العقبة التي تقف بين الإنسان وبين وصوله إلى الجنة فقال سبحانه :

( فلا اقتحمَ العقبةَ * وما أدراك ما العقبةُ * فكّ رقبةٍ * أو إطعامٌ في يومٍ ذي مسغبةٍ * يتيماً ذَا مقربَةٍ ) (٣).

ويوم ذي مسبغة : أي يوم المجاعة فمن أطعم يتيماً من ذي

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية من سورة الفجر.

(٢) مجمع البيان في تفسيره / آية : ١٠ من سورة الضحى.

(٣) سورة البلد / آية : ١١ ـ ١٥.

١٠٢

قرابته ـ وليس معنى ذلك تخصيص الاطعام به ، بل هو من باب الزيادة في الأجر لأنه رفق باليتيم وصلة للرحم ـ كان ذلك موجباً من موجبات اقتحام العقبة الكؤد.

وفي الحديث عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من أشبع جائعاً في يوم سغب ادخله الله يوم القيامة باباً من أبواب الجنة لا يدخلها إلا من فعل مثل ما فعل » (١).

( ولا تحاضون على طعام المسكين ) :

أي لا يحث بعضكم بعضاً على هذا اللأمر ، وهو نموذج ثانٍ من نماذج الأهانة حيث يتركون المسابقة إلى اطعام المسكين المعدم يتركه من عنده ، وفرة من المال يغالب آلام الجوع في يوم مسغبة قال عنه القرآن.

( أو مسكيناً ذا متربة ) :

هذا المسكين الذي لواه الجوع فألصق بطنه بالتراب من شدة جوعه يبقى يتحمل هذه المجاعة وفي نفس الوقت يبيت جار له وقد أتخم من الأكل لا يشعر بما يفرضه الواجب أزاء هذه الطبقات المنكوبة.

وهذا مقياس من مقاييس الفقر.

ونبقى نحن والفقرتين الباقيتين من هذه المقاييس.

( وتأكلون التراث أكلاً لما * وتحبون المال حبا جما ) :

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٠٣

وقد جاء في التفسير أن أكل التراث أكلاً لّماً بمعنى الأكل من غير تروٍ لما يأكل من خبيث وطيب ، أو أنه يأكل ماله ومال غيره.

وتحبون المال حباً جماً شديداً ، ولا تفكرون ان هذا المال سيكون وبالاً عليكم إذا جمعتموه ولم تعطوا حق الفقير منه.

شاهد أيضاً

آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره

المبحث الثاني مقدمة القرآن لمؤلفه دبليو منتجمري واط تعريف بالمؤلف : هو عميد قسم الدراسات ...