كتاب معرفة الله – السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني قدّس سرّه
ساعتين مضت
زاد الاخرة
6 زيارة
قاعدة: لا يعرف شيء شيئاً إلاّ بما هو فيه منه
لاَ يَعْرِفُ شَيْءٌ شَيْئَاً إلاَّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْهُ.
فحين أعلَمُ بوجود حيوان، كالخروف مثلاً، فما مقدار ما أستطيع الحصول عليه من المعرفة بهذا الخروف؟! بنفس الكمّ الموجود من الخروف في ذاتي شخصيّاً. فما الموجود من الخروف في ذاتي؟ هل هي الحيوانيّة، أم الإحساس؟ هل هي الحركة بالإرادة، أم الجسميّة أم الجوهريّة؟ أم هل هي الآثار والخواصّ ولوازمها (كالقوّة المغذّية أو النامية أو الدافعة أو المُوَلِّدة وغير ذلك) وإدراك الجزئيّات؟ ربّما كان ذلك الحسّ المشترك ومعرفة الصديق والعدوّ (بما يتناسب وحصول المنفعة واجتناب الضرر)؟ كلّ تلك الاُمور هي خواصّ وعلائم مشتركة موزّعة بين شخصي وبين الخروف بالسويّة، وقد استفاد كلٌّ منّا مشتركاً من تلك الخواصّ والعلائم.
وعلی الرغم من ذلك، فلا سبيل أمامي علی الإطلاق للعِلم بالخروف من خلال الخصائص والمميّزات التي تفصلني عنه وتميّزني منه. لا نّه، وعلی افتراض حصولي علی علم بالخروف، سواء كان ذلك العلم في «ما به الاشتراك» معه أم في «ما به الامتياز» عَنه، فعلی أساس تلك الفرضيّة، وجب أن أكون أنا الخروف عينه والخروف هو عيني، وهذا ما يدعي بالخُلف.[8]
إنّ العلم بأيّ موجود والاطّلاع عليه من قِبَل موجود آخر والتعرّف عليه يتأتّي من طريق معرفة الخواصّ المشتركة فيما بين هذين الموجودين وليس من الامتيازات بينهما، فطريق العلم والعرفان مفتوح فقط في بيان المشتركات (أو الخواصّ المشتركة)، في حين أنّ الطريق نفسه مسدود عند البحث في المتميّزات، وإلاّ كنّا جميعاً متشابهين، ولتشابهت كلّ الموجودات كذلك مع بعضها البعض. أي لو كان المجال (مجال العلم والمعرفة) مفتوحاً للبحث في جميع الجزئيّات والكثرات، لاصبحت كلّ الموجودات بالضرورة موجوداً واحداً. ولكان الحصان والبقر والجَمَل والخروف والطيور والزواحف والحيوانات البحريّة والجوامد والنباتات وقبائل الجِنّ والملائكة، موجوداً واحداً لا اختلاف يُذكَر بينها، فتزول بذلك الاسماء عن المسمّيات وتدعي كلّها باسم واحد.
والآن، وجب أن نسأل أنفسنا نحن الذين نريد التعرّف علی الله عزّوجلّ، مَن هو الله الذي نروم التعرّف عليه؟! أين الله عزّوجلّ وأين نحن؟ فنحن مخلوقون وهو الخالق، ونحن مرزوقون وهو الرازق، ونحن معلومون وهو العالِم، ونحن مقدور علينا وهو القادر، ونحن محكومون وهو الحاكم، ونحن مملوكون وهو المالك، وهكذا دواليك.
قابليّة الإنسان في الخلقة لا متناهية
الله عزّوجلّ هو خالقنا، وهو الذي وهب لنا الجسد والفكر والعقل، ومنحنا الروح والنفس، وتلك كلّها مجرّد مظاهر من لدن الله. والله ظاهر في ذاته عزّوجلّ، وهو الذي فرض لنا الظهور ووهبنا إيّاه، لكنّ هذا الظهور إنّما هو ظهور مستند إلی ظهوره هو عزّوجلّ.
ما مقدار القوّة والاستطاعة التي نملكها حتّي نعرف الله بواسطتها؟! إنّ ذلك المقدار هو مقدار وجود الله سبحانه في ذواتنا. وما هو المقدار الموجود من ذات الله عزّوجلّ فينا؟! ما المقدار من ظهور الله؟! ما المقدار من علم الله؟! ما المقدار من قدرة الله؟! وأخيراً، وليس آخراً، ما المقدار من حياة الله؟!
لقد خلقنا الله عزّوجلّ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[9] وأودع فينا من جميع الاسماء الحسني والصفات العليا، وجعل أنفسنا من الهيولي (أي قابليّة محضة لايّة فعليّة متصوّرة في طريق التقدّم والكمال والتخلُّق بأسمائه وصفاته). ولم يجعل لنا حدّاً ولا حدوداً من جهة الاستعداد والقدرة علی التقدّم والتكامل والارتقاء في سُلّم اليقين والوصول إلی العرفان والتوحيد والفَناء في ذات الله المقدّسة والرُّسوِّ عند صفاته الحسني. فكما أ نّه عزّوجلّ غير متناهٍ ذاتاً ووجوداً وفعليّة في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، فقد جعلنا نحن كذلك لا متناهين قابليّة وإيجاداً واستعداداً.
وعلی هذا، فبإمكاننا التقدّم إلی قمّة درجات صفاته وأسمائه من جهة الإمكان والاستعداد، وبإمكاننا أيضاً التخلُّق بجميع ذلك كلّه. أمّا من حيث الفعليّة وتحقّق تلك القابليّة وتمركزها حول الحياة والصفات والافعال، فإنّ ذلك منوط بالحركة والجهاد مع النفس وسلوك الطريق الواصل إلی الله سبحانه.
فإذا ابتعدنا في مسيرنا عن جلاله ونأيْنا بأنفسنا عن مسلكه، وخُضنا في هوي النفس الامّارة بالسوء، وأعْتَمتِ الطبيعة والكثرة أبصارنا، وأغشَت أَدْنَي العَوَالِم نواظرنا، ولم نُعِر أهمّيّة تُذكَر لنور الوجود والبساطة في الإطلاق والتجرُّد، وصار جلُّ سعينا هو الإستمرار في السّير في طريق الابتعاد والعزلة، ففي هذه الحالة علينا أن نعترف أ نّنا لم نعرف الله إلاّ النزر اليسير، وأ نّنا هدرنا قابليّاتنا وإمكاناتنا تحت شعار الجهل والحماقة والكسل، لا نّنا، ومع الاسف، لم ننتفع من وجود الآصرة بيننا وبين خالقنا علی الوجه الصحيح.
وأمّا إذا صعد البشر سُلّماً أفضل، ورقي فيه درجة أعلی، وأبصر العالَم ببصيرته من زاوية أوسع، وجهد في إصلاح نفسه مُخلّصاً إيّاها من الكثرات والموجودات المختلفة والمتفرّقة والمتشتّة والمتبدّلة، فيكون بذلك قد عرف الله عزَّ وجلّ بنفس ذلك المقدار، لانّ الله العلی الاعلی مثله كمَثَل الشمس الساطعة في كبد السماء التي تُضيء العوالم كلّها، ولو أطرقنا برؤوسنا إلی الاسفل وأرخينا عيوننا إلی الارض، فإنّنا لن نري إلاّ نور تلك الشمس في هذا الرفّ أو ذاك، أو في هذا البستان أو ذاك. وأمّا إذا رفعنا رؤوسنا قليلاً إلی الاعلی وتخلّلت أبصارنا الغيوم واخترقت ركام السحاب، فلا ريب في أ نّنا سنري قدراً أكبر من نور الشمس لم نكن لنراه ونحن مطرقي الرؤوس، وسنبصر الاُفق بقعة منيرة ومكاناً ساطعاً بسبب ذلك النور. ولو عرجنا من هناك إلی مرتبة أعلی فسيكون بإمكاننا مشاهدة قرص الشمس المتوهِّج المُشِعِّ بنوره علی وجه الارض. ولو حالفنا الحظُّ وقدرنا علی الصعود أكثر فأكثر فإنّنا سنري بعض الكريّات التي تُدعي بالكواكب والسيّارات في منظومتنا الشمسيّة. وإن استمرّينا في العلوّ حتّي اقتربنا من قرص الشمس فإنّنا سنطّلع علی خصوصيّات أكثر لها كلّما سنحتْ لنا الفرصة من الاقتراب نحوها أكثر.
كذلك الحال مع الإنسان، فلا نّه موجود يعكس كلّ الصفات الجماليّة والجلاليّة الربّانيّة، وهو أيضاً يمثّل الظهور التامّ والمظهر الاتمّ للّه عزّوجلّ، فهو يمتلك قابليّة المرونة والمسير معاً. لكن، ما هي قابليّة مرونته وما هو مسيره؟ هي تجاوزه للموجودات الباعثة علی التفرّق والفرقة، للهواجس النفسانيّة الباطلة التي تحيط بعقيدته، للخيالات والاحلام المُمَوَّهة والافكار المُشوَّهة التي تذهب به بعيداً عن عالم القرب، فليست قابليّة المرونة إلاّ مجموع ذلك، ولا شيء غيرها.
يتحتّم علی الإنسان أن يترفّع بمنزلته وينأي بها عن ما يقتاته الحيوان في زريبته، ويأنف عن الناسوت والمادّة ويتنزّه عن أصالة الطبيعة. عليه أن لا يعير كلّ ذلك اهتماماً استقلاليّاً أو أهمّيّة كبيرة، وأن يتوجّه نحو عالم الملكوت ويوجّه فطرته إلی الوجهة الربّانيّة وملكوتها، وأن يذوب وينصهر فيها، وأن يصرخ بأعلی صوته:
وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَـ’وَ تِ وَالاْرْضَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، إنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. [10]
فحينئذٍ، وكلّما كانت وجهة القلب تزداد ميلاناً إلی هذا النحو، سيقترب أكثر من عالَم القدس الذي هو عالَم الطهارة والتجرّد والنقاء والقدس، وسيزداد اتّصافاً بالصفات الإلهيّة، حتّي يوفَّق بعد ذلك إلی لقاء حقيقيّ بربّه فيصبح حقّاً وواقعاً من العارفين بالله عزّوجلّ. وهو لن يُوَفَّق للّقاء بخالقه وحسب، بل وكذلك سيتخلّق بأخلاق الحقّ تعإلی بكلّ وجوده من قمّة رأسه حتّي أخمص قَدَمَيْهِ.
2024-11-07