عند الحديث عن إنجازات الإمام الخميني(قدس سره)، يحتاج المرء الى وقتٍ، ليفهم حجم البصيرة التي كان يتمتع بها هذا القائد الفذ. فالإنجازات كثيرة وتحتاج للكثير من الدراسة. لكن المقاربة الموضوعية للأمور، تُعتبر اليوم أسهل بسبب أننا يمكن أن نحكم على النتائج وليس النوايا. وبالتالي فيمكن ومن خلال قراءة التاريخ السياسي المعاصر، تبيان الحقائق وتقييمها. وهنا يأتي الحديث عن أهم إنجازات الإمام الخميني، لا سيما الإستراتيجية وذات المنطلق السياسي. وهي مسألة يوم القدس العالمي، والذي يصادف بعد أيام. وهو اليوم الذي شكل بحد ذاته بوصلةً للشعوب على مدى التاريخ المعاصر. الى جانب أنه أعاد الإعتبار للقضية الفلسطينية، التي تجاهلها ونسيها العرب. فكيف يمكن توصيف الإنجاز؟ وكيف حدد الإمام الخميني توقيت يوم القدس؟ وما هي الأسباب التي ساعدت على ذلك؟
توصيفٌ للإنجاز كما سجل التاريخ:
إستطاع الإمام الخميني وبعد نحو مئة عام، على كسر الصمت تجاه قضية الشعب الفلسطيني. ولم يكن توجه الإمام توجهاً ظرفياً بل كان توجهاً إستراتيجياً طويل الأمد. وهو الأمر الذي إستطاع الإمام الخميني ترسيخه من خلال جعل القدس، محور حركة الصراع. وليُؤَمِّن الإمام الإستمرارية لذلك على مرِّ الأجيال جعل المُنطلق لذلك، الرؤية الواقعية للثورة الإسلامية، والخلفية العقائدية والإسلامية التي شكلت أُسس التحرك لدى الإمام.
وبالتالي فقد سعى الإمام لترسيخ واقعٍ دقيق المعالم واضح الرؤية، يهدف لإحباط مشاريع الصهيونية العالمية، مما يساهم في إستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المُغتصبة، وإعادة إرساء السلام الحقيقي، عبر إعادة الأرض لأصحاب الأرض. وكما سعى الصهاينة لتكريس واقع أن فلسطين لهم بأرضها وخيراتها وعاصمتها، انطلاقاً من إيمانهم بأنهم شعب الله المختار، عمل الإمام الخميني في المقابل من منطلق الوعي الذي تميَّز به، والقدرة على إستشراف المستقبل، في تحديد قضيةٍ ظرفية العنوان إستراتيجية الأهداف، يمكن من خلالها جمع الأمة وتأمين بوصلة الوحدة.
وعلى الرغم من أن العالم حينها رأى في إنتصار الثورة في إيران نموذجاً يمكن الإقتداء به، لم يكن لتفهم الشعوب حينها حقيقة رؤية الإمام الإستراتيجية. إذ لا يمكن تجاهل أن الرجل المتواضع، كان يتمتع بشخصيةٍ فذة، تجمع القدرة على ربط الماضي بالحاضر المُعاش، والتخطيط من خلال ذلك للمستقبل. وهو الأمر الذي تتميَّز به القيادات الحكيمة. وهنا كان مشروع يوم القدس العالمي، مشروعاً إستراتيجياً طويل المدى، لم يفهم أحدٌ حينها أبعاده الحقيقية. حتى أن الصهيونية العالمية، لم تُدرك مخاطر الفخ الذي تغاضت عنه حين تأسيسه. لينجح الإمام في أكثر من قضية. قضية ترسيخ المناسبة، وقضية تأمين إستمراريتها، وقضية أخرى مهمة تتمثل في تدوين التاريخ لأحد أهم الإنتصارات المعنوية على الصهيونية.
لذلك فإن إعلان “يوم القدس العالمي” من قبل الإمام الخميني(قدس سره)، كان قد حدد موقف الثورة الإسلامية كنموذج، في إطار مشروع استراتيجيٍ طويل الأمد، للتصدي لمخططات الصهاينة التي تستهدف القضاء على الشعب الفلسطيني وإزالة كافة المظاهر الإسلامية في هذه الأرض المقدسة.
كيف يمكن فهم توقيت يوم القدس؟
قد يتساءل الكثيرون لماذا كان الإعلان في شهر رمضان، ولماذا حُدِّد اليوم ليكون آخر جمعة فيه؟ وهنا نقول التالي:
أراد الإمام الخميني(قدس سره) أن يجعل القضية قضيةً شعبية، بعيدة عن الحكومات والطبقة السياسية الحاكمة. ولذلك ومن منطلق الأهمية السياسية الإستراتيجية للقضية، سعى الإمام لتكريس واقعٍ شعبيٍ يحتضن القضية. ولهذا بحث عن المعيار الذي يمكن أن يجمع أكبر قدرٍ من المؤمنين المسلمين، للإلتفاف حول القضية.
وهنا ولكي يُخرج الإمام المسألة من زواريب الرؤية الوطنية أو القومية الضيقة لأي طرف، إختار المنطلق الديني ليكون أساس القضية ومبدأها. فجمع بين مكامن القوة من الناحية الكمية والنوعية، ليجمع المسلمين في العالم كافة، ومن خلال المنطلق الديني، وعبر شهر الصيام، تقويم المسلمين. فكان يوم القدس العالمي، رمزاً دينياً مقدساً جديداً يوضع لخدمة القضية الفلسطينية.
وهنا يجب الإلتفات الى النتيجة التي حققها الإمام، والتي تتمثل بأنه إستطاع نقل تسوية الأزمة وإدارتها من المستوى الحكومي والرسمي، إلى أوساط الشعوب والجماهير. ليستحوذ على توجهات الرأي العام العالمي. فأصبحت قضية يوم القدس قضيةً عالمية.
أهمية الواقع الذي أعده الإمام كأرضيةٍ، دعماً للقضية الفلسطينية:
لا شك أن انتصار الثورة الإسلامية في إيران شكل منعطفاً في تاريخ الصراع السياسي المعاصر. وقد استطاع الإمام بالنتيجة، خلق ظروفٍ سياسيةٍ وترسيخ واقعٍ سليمٍ كان يشكل بحد ذاته وما يزال، ظروفاً صعبةً للكيان الإسرائيلي.
فكيف كانت القدس في عين الإمام الخميني منذ البداية؟
لقد رسخ الإمام الخميني في فكر الشعوب حقيقةً تاريخيةً مفادها، أن المطالبة والإعتراف ودعم الشعب الفلسطيني، هو الخيار الوحيد والحصري، لتسوية الأزمة التاريخية الفلسطينية. ولم يُبق الإمام وعيه لهذه الحقيقة في الإطار النظري، بل ساهم وسعى لترجمتها الى الميدان العملي. كيف؟
بدأ الشعب الفلسطيني متأثراً بتوجيهات الإمام، في العمل على تعبئة فئات المجتمع الفلسطيني، من خلال تنظيم التظاهرات وإقامة المسيرات الضخمة بمشاركة كافة الفئات الإجتماعية، من النساء والأطفال وعلماء الدين والمثقفين. وانطلقوا جميعهم متسلحين بقبضاتهم وبالعصي والحجارة في صف واحدٍ يواجهون رصاص الإسرائيليين. وبالتالي استطاع هذا الشعب تغيير أشكال النضال إلى حد كبيرٍ وانطلاقاً من المسجد وصلاة الجمعة. مما أدى الى توالي الإنتفاضات حينها وبالتحديد الكبرى عام ١٩٨٧.
وتزامن ذلك كله مع تجاهل الدول العربية لحقوق الشعب الفلسطيني، كما المقدسات. وهو الأمر الذي أدى الى ترسيخ قناعة هذا الشعب، برؤية الإمام الخميني، وتوجيهاته. ولعل التاريخ يذكر أن القمة العربية التي تم عقدها في الأردن في كانون أول ١٩٨٧، تجاهلت القضية الفلسطينية حينها.
وهو الأمر الذي أدى الى ترسيخ واقعٍ من الجهاد والثورة، لدى الشعب الفلسطيني. فدعم الإمام الخميني ومساندته الفلسطينيين، علّمهم بأنه بوسع الشعوب القيام والنهوض، إذا ما استلهمت حركتها وجهادها من تعاليم الإسلام. فالنصر لا بد أن يكون النتيجة ولو إحتاج الى وقت ليس أكثر.
إننا اليوم أمام إنجازٍ يُعتبر أساساً في حركة المستضعفين في العالم. إنطلق فيه الإمام من مبادئه وليس من مصالحه. وأعطى العالم بأسره دروساً كثيرة، كان أبرزها أن الواقع هو الذي يجب أن يحتضن حراك الشعوب، وليس الشعارات فقط. فكان يوم القدس العالمي، قبل تحديده وبعد ذلك، مشروع نهضة المقاومات المحوري، والبوصلة الأساسية في تحديد وحدة الأمة وصون حقوقها. فهل يعرف العالم اليوم، حقيقة المنطلق السياسي الإستراتيجي للإمام الخميني؟