الرئيسية / بحوث اسلامية / عوامل التربية (3) التفكير ـ محبة الأولياء ـ الزواج ـ الجهاد – اية الله مرتضى مطهري

عوامل التربية (3) التفكير ـ محبة الأولياء ـ الزواج ـ الجهاد – اية الله مرتضى مطهري

كان بحثنا حول العوامل التي أكدت عليها التعاليم الإسلامية لإصلاح النفس والتربية. وإن للدين طرقاً للتربية لا توجد في غيره من المبادئ. وقد بحثنا موضوعاً اهتمت به التعاليم الإسلامية كثيراً وهو محاسبة النفس. وقد رأينا تأكيد المصادر الإسلامية من القرآن وأقوال الرسول وكلمات أمير المؤمنين (ع) وسائر الأئمة عليهم السلام. بحيث أصبح هذا الأمر بارزاً بين الصالحين من المؤمنين والمسلمين. وعندما نراجع الكتب الأخلاقية الإسلامية من قديمها وحديثها. نرى أنهم اهتموا بمسألة المراقبة والمحاسبة.

والأمر الآخر الذي تناولته التعاليم الإسلامية بكثرة وله تأثير تربوي كبير هو التفكير والتفكر فيذكر في كثير من الموارد ان التفكر عبادة وأن: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة” و”تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة” و”تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة” وان الاختلاف الموجود راجع إلى التفاوت الموجود في التفكير والتفكر.

ثلاثة أنواع للعبادة

ان التفكير بنفسه عبادة. وعليه هناك ثلاثة أنواع للعبادة: العبادة الجسمية كالصلاة والصوم. والعبادة المالية كالزكاة والخمس. أو الإنفاق بشكل عام. والعبادة الفكرية “الروحية المحضة” والتي تسمى بالتفكر. والتفكر أفضل أنواع العبادة. وحين يقال: “تفكر ساعة خير من عبادة سنة أو ستين سنة أو سبعين سنة” يتبين أن قيمة التفكر أكثر من قيمة باقي العبادات. فساعة من هذه العبادة تعادل ستين سنة من تلك العبادة البدنية من غير تفكر، فلا يشتبه بأن المقصود هو البدلية وترك تلك العبادة والالتزام بهذه فقط. فكل منهما ضرورية وواجبة في محلها والمقصود هو بيان ضرورة هذا الأمر.

أنواع التفكير

هناك أنواع للتفكير اهتمت بها التعاليم الإسلامية، ونحن لا نحدد ولا نقيد التفكير.

التفكير في عالم الخلقة

أحد مجالات التفكير هو عالم الخلقة. وكشف العالم لأجل معرفة الله. وقد تكرر هذا الأمر في القرآن الكريم مراراً: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)[1] .

ولاشك أن الإنسان لو تأمل في العالم ونظامه، وفي دقائق المخلوقات وكان هدفه من كشف أسرار العالم هو الوصول إلى الحقيقة وإلى معرفة الله. فإن ذلك علم وعبادة معاً.

التفكير في التاريخ

ومن أنواع التفكير المذكورة في القرآن، التفكير في التاريخ، وفي حياة ومصير الأمم السابقة، ويشير القرآن إلى القصص والحكايات وكل ما نسميه “تأريخاً”، ويؤكد كثيراً الأمور التربوية من خلال تلك القصص، ويشير إلى أنه لا يذكر القصص لقضاء الوقت، بل يقول: (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (سورة الأعراف، من الآية: 176). فهذا من مجالات التفكير أيضاً ويعتبر عبادة في رأي الإسلام.

تفكير الإنسان في نفسه

والمجال الآخر للتفكير الذي يعتبر عبادة، وهو المراد من بحثنا هذا هو تفكير الإنسان في نفسه؛ أي أن نفس الإنسان تكون موضوعاً لتفكيره، وذلك بنحوين: فمرة تكون نفس الإنسان موضوعاً لتفكيره بحكم أنها موضوع علمي. فيكون هذا من القسم الأول، ومرة تكون أعمال الإنسان ذاتها موضوعاً لتفكيره، فيفكر في انه كيف يصمم وكيف يعمل، ولا يستسلم إلى الحوادث استسلاماً أعمى، والمقصود هنا هو القسم الثاني.

الإنسان محكوم بجبرية الأعمال

تحصل للإنسان أحياناً حالة يكون فيها كأنه نشارة خشب أو قش في وسط سيل يقذفه في كل جانب. ولاشك أن المجتمع هو بحكم السيل، يقذف الأفراد هنا وهناك. ولكن ليس الأمر كذلك دائماً، وليس المجتمع والأوضاع الاجتماعية حاكمة على اتخاذ أي قرار لنفسه، وتغيير مكانه، واختيار مسير مخالف لمسير هذا السيل، بل يمكنه أن يسير مخالفاً للسيل الجارف الذي يحرك الأفراد لا إرادياً. ويمكنه أحياناً أن يؤثر في مصير هذا السبيل ويحوله إلى مسير آخر.

ان التعاليم الإسلامية تقوم على أساس هذه النظرة. وإلا فلا معنى للمسؤولية والتكليف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد وأمثالها. بل لا معنى للعقوبة والمثوبة والجزاء. فلو كان الإنسان مجبراً مطلقاً، وكل فرد مقيداً أمام المجتمع، فلا معنى للإساءة والاحسان والجزاء والعقاب ـ في الدنيا أو في الآخرة ـ ان التعاليم الإسلامية لهذه الفكرة.

التفكير شرط أساسي للسيطرة على مصير النفس والمجتمع

ان الشرط الأساسي لتسلط الإنسان على مصيره وعلى مجتمعه ـ وفي الأقل عدم استسلامه للأوضاع المحيطة به ـ هو التفكير والتفكير الأخلاقي هو نظير محاسبة النفس أي أن على الإنسان أن يفرغ نفسه في اليوم والليلة وينقطع عنه كل شيء ويختلي بنفسه، يغور فيها ويتفكر بها وبأحواله، وما يجب عليه أن يقرره ويفعله في جميع ما يلاقيه من أحداث ويفكر في تقييم أعماله الماضية وفي أصدقائه، وفي الكتب التي قرأها، ويفكر في كل شيء، فلو قرأ كتاباً ـ مثلاً فعليه أن يفكر في ما استنتجه من ذلك الكتاب. وما هو أثره في نفسه؟ وهل ترك أثراً حسناً أم سيئاً؟ ثم يدقق في اختيار كتاب آخر: فليس للإنسان أن يقرأ جميع الكتب؛ بل يجب عليه أن يختار بعضها.

يقول أمير المؤمنين (ع): “العمر قصير والعلم كثير، فخذوا من كل علم ظروفه ودعوا فضوله”[2] .

ولهذا يجب الإختيار والانتخاب حتى في المطالعة أيضاً، وفي الصديق والمعاشر، ولا معنى للإختيار دون تفكير. فينظر ماذا يستفيد من معاشرة أصدقائه؟ ويفكر في أعماله وما هي آثارها فيه سلباً وإيجاباً؟ والأهم من ذلك أن يفكر في العمل الذي ينويه ويصمم عليه. إن أكثر تصميماتنا لم تسبق بالقدر اللازم من التفكير؛ أي لو فكرنا جيداً لم نقرر ما قررناه فعلاً. ومعنى التفكير في العمل الذي يريد انجازه هو التفكير بردود فعل ذلك العمل وملازماته. وما هي الآثار التي يخلفها؟ وإلى أين سيجره؟ وبتعبير الرسول (ص): ما هي عاقبته؟

بعد النظر

جاء رجل إلى الرسول (ص) وقال: يا رسول الله: انصحني. فقال (ص): هل تعمل بما اقول لك؟ ويقال أنه كرر سؤاله ثلاثاً. (إن التكرار هو لأجل رسوخ الجملة في ذهنه وعلمه بأنها جملة قيمة لا يحسن نسيانها) فقال: نعم، فقال الرسول (ص): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته”[3]

إن التدبر الذي هو من مادة (دَبَرَ) له مفهوم “النظر في عواقب الأمور” التدبر والإدبار من مادة واحدة، فكل فعل له وجه وظهر، وغالباً ما يرى الإنسان وجه الفعل لكنه لا يرى ظهره. إلا بعد أن يجتاز الفعل، فعند ذلك ينظر ويرى خلفه، فكم من عمل لوجهه ولظهره شكل آخر. والتدبر في العاقبة هي أن يقلب الإنسان العمل من وجهه وظهره ويفكر فيه قبل الاقدام عليه.

يقول الإمام علي (ع) عن الفتنة بأن وجهها بشكل وظهرها بشكل آخر “إن الفتن إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت نبهت”[4] انها جمل عجيبة، فإن “الفتنة” إذا أقبلت وحصلت تكون بحكم غبار في الفضاء، أو ظلام لا يرى فيه الإنسان، فيظهر الكذب، والشائعات وتظهر الأحاسيس والعواطف الكثيرة. وفي الحقيقة يعجز الإنسان عن إصدار الحكم الصحيح ويقع في الفتنة. ولكن كأن الظلام والغبار ينجلي بهدوء الفتنة. وعند ذلك ينظر الإنسان، فيرى شيئاً آخر؛ فما رآه في الظلام هو غير ما يراه الآن في النور.

التعود على التفكير

من عوامل التربية للنفس واصلاحها في التعاليم الإسلامية التعود على التفكير قبل أي عمل ينويه الإنسان ويريد انجازه، وهذا كمحاسبة النفس في النظرة الأخلاقية، وبغض النظر عن التفكير قبل أي عمل، يجب أن يخصص الإنسان ولو عدة دقائق في اليوم ليفكر في نفسه وأعماله. ولنا كثير في هذا المجال.

جاء في الحديث عن أبي ذر (رض): “كان أكثر عبادة ابي ذر التفكر”[5] فالتفكر هو الذي يمنح الإنسان نوراً، وقد تكون العبادة بدون التفكر لغواً لا معنى لها.

معاشرة الصالحين

والعامل الآخر من عوامل التربية هو معاشرة الصالحين والمحسنين. في المتون الإسلامية باب بعنوان (المجالسة وتأثيرها في الاتجاه الموجب والسالب) فان لمجالسة الصالحين آثاراً حسنة جداً، ولمجالسة الطالحين وأهل السوء آثاراًٍ سيئة جداً، وهذا ما لا يمكن تجنبه، اي أن الإنسان كلما أراد أن يضبط نفسه ويمسكها عن التأثر بمن يعاشره فإنه لابد وأن يتأثر به بنسبة ما.

قال الرسول الأكرم (ص): “المرء على دين خليله”[6] والمقصود من ذلك هو أن عليكم أن تصادقوا من ترضون دينه.

وجاء في نهج البلاغة: “مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان” فلو كانت كلمة (منساة) مصدراً فيكون معنى (منساة للإيمان) هو نسيان للإيمان، وان كانت اسم مكان ـ وتطلق كثيراً بهذا المعنى ـ فسيكون التعبير جميلاً أي محل نسيان الإيمان، ودار نسيان الإيمان. قال تعالى والظاهر أن الخطاب لموسى ابن عمران (ع): (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى) [7] فهو سبحانه يحذر موسى بأن لا يمنعه الناس ولا يصدوه. فهذا المنع غير المنع الإجباري كمنع فرعون وصده لك عن قيامك بالعمل، لأن هذا المنع يتبعه كلام آخر: “واتبع هواه فتردى” أي لا يصدنك عنها متتبع الهوى فتهلك أنت أيضاً.

يستنبط من هذه الآية أن موسى أمر بأن يراقب نفسه وينتبه إلى تأثير أهل السوء عليه. وليس المعنى أن يعتزل أهل السوء بل معناها التحذير من آثار معاشرة أهل السوء. وإلا فمن سيدعوه موسى إلى الإيمان.

لذلك يجب أن يكون الإنسان اختيار وانتخاب في المعاشرة أيضاً. فالمعاشرة الأخلاقية غير معاشرة المعلم والمتعلم، ولا معاشرة المربي مع من هم تحت امرته. والمقصود هو اختيار الأنيس، فلكل إنسان في هذه الدنيا صديق ورفيق، الرفيق الذي يأنس به ويعاشره. فلأجل تربية النفس والأخلاق يجب اختيار الصديق والأنيس الحسن.

جاء في أحاديثنا: أن جماعة (قد يكونون هم الحوارين) سألوا عيسى (ع): يا روح الله، من نجالس؟ فأجابهم: من يذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الخير عمله”[8] .

فقسم من الناس تؤدي رؤيتهم إلى غفلة الإنسان عن الله، وبعض آخر يكون عملهم وسلوكهم وهيأتهم وخصوصياتهم بنحو يخرج الإنسان من الغفلة. فجالسوا من يزيد منطقه في علمكم، أي أن كل أحاديثه حقائق جديدة عليكم وانكم تستفيدون من حديثه، وقد يجالس الإنسان بعض الأفراد وحينما يغادرهم يحس بأنه قد تعلم شيئاً جديداً. “ويرغبكم في الخير عمله” اي أنه يسلك طريقاً خاصاً لعمل الخير بحيث يشوقكم ويرغبكم فيه.

قلنا: إن للمعاشرة أثراً حتمياً واقوال أيضاً إن ما ذكرته من الفرق بين معاشرة المعلم والمتعلم وغيرها، هو أن للإنسان نوعين من المعاشرة: نوع يخفي فيه الإنسان نفسه ولا يظهر، اي شيء لصاحبه ويكون غير مستعد لتقبل صاحبه في نفسه. فنرى ان الإنسان عندما يلتقي بشخص لأول مرة، فانه يستعمل أسلوباً خاصاً أمامه، وكذلك يتخذ المقابل هيئة مصطنعة أمام صاحبه، ولا يظهر له أي شيء. ولكن بمجرد أن يصبحا صديقين حميمين ومخلصين فسوف تنفتح أبواب قلوبهم، وسوف يظهر كل واحد منهما ما أضمره لصاحبه. فالمعاشرة التي لها آثار هي المعاشرة الصحيحة. وان الوصايا تؤكد هدف المعاشرة. فان الإنسان يتأثر بها لا إرادياً.

يقول مولوي: “يخرج الصلاح والبغض من الصدور إلى الصدور، بطريق خفي”.

فمجالسة الصالح تصلحك، ومجالسة الفاسد تفسدك”.

المحبة والاخلاص والتعلق

إن مما له أثر كبير في باب المعاشرة هو حصول حالة التعلق والإخلاص بشخص معين أكبر الأثر في تغيير الإنسان؛ ولو حصلت هذه الحالة في حينها وبالشكل الصحيح فسوف تؤدي إلى صلاح الإنسان، ولو حصلت بشكل غير صحيح فهي نار تحرق الإنسان.

والتعلق من أقسام المحبة والعشق. فلو وجد الإنسان شخصاً كاملاً ونموذجياً فعشق أخلاقه وروحه، فانه يقع تحت تاثيره بشدة ويتغير كثيراً.

ولهذا اهتم العارفون كثيراً بمسالة التعلق والإخلاص للمعلم والمرشد. وتوجد في الإسلام (وصايا) بحب الأولياء.

ان حب الرسول (ص) والأنبياء وحب أمير المؤمنين (ع) وكل إنسان متكامل هو أكبر عامل لاصلاح وتربية الإنسان وهم واسطة لإيصال الإنسان إلى الله تعالى.

محبة الأولياء في زيارة أمين الله

في زيارة أمين الله. وهي من الزيارات التي وصلتنا عن الأئمة (ع) ولا يبعد أن تكون أكثر اعتباراً من باقي الزيارات من حيث السند؛ إذ أنها سند قطعي يصل إلى الأئمة” ومن حيث المضمون، هي أفضل الزيارات، وهي زيارة قصيرة وردت في كتاب “مفاتيح الجنان” وغيره ضمن زيارات أمير المؤمنين (ع) وهي من الزيارات المطلقة، أي أنها ليست مخصوصة بيوم أو أيام معينة. فيمكن زيارة الأمير (ع) بتلك الزيارة في أي وقت كان، وهي كذلك ليست مختصة بأمير المؤمنين (ع)، بل هي لسائر الائمة (ع) مع وجود فارق هو رفع كلمة (السلام عليك يا أمير المؤمنين) عند زيارة غيره من الأئمة “ووضع جملة مناسبة”.

وبعد ذلك تأتي عبارات مختصرة من السلام واظهار العلاقة والمحبة للإمام، والشهادة بأني أشهد أنك جاهدت في الله حق جهاده وأديت ما عليك، وفيه ثلاث عشرة جملة دعائية؛ اي بعد زيارة الإمام نطلب هذه الأشياء في مشهده:

“فاجعل نفسي مطمئنة بقدرك، راضية بقضائك، مولعة بذكرك ودعائك، محبة لصفوة أوليائك، محبوبة في أرضك وسمائك، صابرة على نزول بلائك، شاكرة لفواضل نعمائك، ذاكرة لسوابغ آلائك، مشتاقة غلى فرحة لقائك، متزودة التقوى ليوم جزائك، مستنة بسنن أوليائك، مفارقة لأخلاق أعدائك، مشغولة عن الدنيا بحمدك وثنائك”.

وفي هذه الجمل، جملتان تتعلقان بالمحبة: إلهي أريد أن أكون محباً ومحبوباً؛ ولكن من أحب؟ “محبة لصفوة أوليائك” فمحبة خلص الأولياء هو كالمغناطيس الذي يجذب الإنسان. وهذا غير مسألة التفكر ومحاسبة النفس. فهذه أعمال فكرية وضرورية أيضاً، لكن تأثير محبة الأولياء أكثر منها، ويمكن تشبيه الأمر ببرادة الحديد المخلوطة بالتراب، فمرة نريد جمع الحديد ذرة ذرة بأيدينا؛ ومرة نستخدم مغناطيساً قوياً، فيجذب جميع الحديد إليه.

فلو أراد الإنسان بالاعتماد على التفكر والتذكير ومحاسبة النفس والمراقبة وغيرها أن يصقل نفسه ويطهرها ويتخلص من سجاياه السيئة. فهذا أمر عملي طبعاً لكنه كمن يريد جمع برادة الحديد بيده ذرة ذرة. ولكن لو وفق الإنسان ووجد إنساناً كاملاً يعشقه ويحبه، فسيرى أن هذا الفرد يستطيع أن ينجز في يوم واحد ما كان يعجز عن إنجازه طوال عدة سنين.

أسلوب الملامية

ليس من التقوى والقدسية أن يكون الإنسان بنحو يعاديه فيه الآخرون. وهذه كانت طريقة الملامية من المتصوفة. والاسلوب الذي اختاره هؤلاء لجهاد النفس هو أن يقوموا بفعل يجعل الناس تنفر منهم وتظن بهم سوءاً. مثلاً أن الفرد منهم لا يشرب الخمر ولكنه يتظاهر بشربها، فيحمل معه زجاجة الخمر، أو يضعها في بيته. أو يصلي بنحو لا يعلم به أحد، ليقال أنه لا يصلي.

قصة الأديب النيسابوري

كان في مدينة مشهد رجل يسمى الأديب النيسابوري. وجاء بعده شخص آخر يسمى الأديب الثاني وهو موجود الآن. رأيت الثاني مرات عديدة وهو إنسان طيب حقاً، وهو رجل مؤمن وكان هذان الشخصان: الأديب الأول والثاني، يسعيان ضد المرائين. فالمراؤون يتظاهرون بالعبادة ولكنهم لا يعبدون، أما هذان فبعكسهم كانا يتظاهران بعدم العبادة ولكنهما يعبدان في السر والخفاء، بنحو لا يشاهدهما أحد. وكانا يذهبان لزيارة الإمام الرضا (ع) ولكن الشواهد لا تدل على ذهابهما إليه (ع). وهذا رد فعل لرياء المرائين إلى حد ما.

ويتحدث الشعراء كحافظ في بعض تعابيرهم عن المكر والحيلة، اي التظاهر بعكس ما يتظاهر به المراؤون. وهذه هي طريقة هؤلاء. ولكن هذا تظاهر أيضاً. وكان رجل من تلامذة الأديب الأول أديباً أيضاً، ثم اصبح من المعلمين الكبار في وزارة المعارف ذلك الوقت. وكان رجلاً فاضلاً. يقول كنت أخدم في العتبة المقدسة وكنت تلميذاً للأديب أيضاً، وكنت غالباً ما اقوم بأعماله، كأن أحضر له الشاي وغيره.

وذهبت مرة إلى الصحن الشريف وقت السحر وشعرت بكنسة وتنظيفه. وفجأة رأيت الاستاذ قد وضع عباءته على رأسه كي لا يعرفه أحد، فعندما دخل الصحن الشريف عرفته من شكله ومشيته في ذلك الظلام. فتعجبت من أمره وقلت: أين يريد في هذا الوقت من الليل؟ كان يمشي بسرعة وكانت عصاه في يده. وعندما وصل مقابل شباك الضريح وقع على الأرض بهيئة السجود وظل فترة على هذه الحال، ثم أخذ عصاه مرة ثانية ووضع عباءته على راسه بحيث لا يرى أحد وجهه وخرج. وكان هؤلاء طائفة من الناس.

شرف الإنسان محترم

ولكن هذا لا يوافق الموازين الإسلامية. فلماذا يكون الإنسان هكذا؟ جاء في الحديث: إن الإنسان مختار في كل ما يملكه، وغير مختار في شرفه واعتباره. فلا يحق لأحد أن يحط من شرفه ويذل نفسه أمام الناس، ويقول هو ملكي، وأنا أريد أن افضح نفسي، فما عليكم؟ وخصوصاً سمعته الدينية. فرأس مال الإسلام هو المسلم. فلو كان زيد مسلماً حقيقياً فليعرفه المجتمع بذلك، لا للرياء بل لله فقط. أي يتظاهر بما يعتقد به ليعلم المجتمع أن فيه هكذا أفراد. فلا معنى لكون المسلم مسلماً والمجتمع لا يعلم بأنه مسلم فيحبه ويخلص لهن ويبقى المسلمون الحقيقيون مجهولين فيقول الذين يحكمون على الظاهر بأنه لا يوجد مسلم. وقد جاء في الدعاء: اللهم فاجعلني محبوباً في أرضك وسمائك. ولو كان الإنسان محبوباً في الأرض وملعوناً في السماء كان إنساناً مرائياً ومتظاهراً.

العامل الآخر للاصلاح والتربية هو الجهاد، والشدائد والمشقات بشكل عام يشمل الشدائد التي يبتلى بها الإنسان دون اختيار. وان الجانب الاختياري منها يرتبط برد فعل الإنسان أمام تلك الشدائد، وأكثر من هذا الشدائد التي يختارها الإنسان بنفسه.

والإنسان موجود عجيب. ومن الخطأ ان نتصور أن هناك عاملاً واحداً فقط لإصلاحه فللإنسان جوانب مختلفة، ولإصلاح كل جانب عامل خاص. فمثلاً محبة أولياء الله هي عامل عجيب جداً. ولكن هل يمكن وضع هذا العامل مكان جميع العوامل الأخرى؟ في الإنسان براعم لا يمكن لهذا العامل أن يبدلها إلى ورود وزهور، وتحتاج إلى عامل آخر لنضجها وتفتحها.

الأثر التربوي للزواج

لماذا اعتبر الزواج أمراً مقدساً وعبادياً في الإسلام. مع أنه من اللذات والأمور الشهوانية؟ إن أحد الأسباب هو أن الزواج الخطوة الأولى التي يخطوها الإنسان للخروج من عبودية النفس وحبها إلى حب الآخرين. فإلى مرحلة ما قبل الزواج، كانت (الأنا) واحدة، وكان كل شيء لهذه الأنا. فأول مرحلة يحطم فيها هذا الحصار هي الزواج، فيستقر موجود آخر إلى جانب هذه الأنا. فيعمل الإنسان ويتعب ويخدم ليس (للأنا) بل لذلك الموجود الآخر. وبعد أن يكون له أطفال، لتصبح (هي) و”هم” وقد يكثر الأطفال بحيث تنسى ـ الأنا ـ تدريجياً.

وكل شيء يصبح “هي” و”هم”. وهذه هي الخطوات الأولى التي يخرج بها الإنسان من حالة الأنانية والعجب إلى حب الآخرين.

واثبتت التجارب القطعية أن أغلب الأفراد المنزهين الذين لم يتزوجوا بقصد التفرغ لإصلاح أنفسهم. ندموا في آخر عمرهم وقالوا للآخرين: اننا فعلنا ذلك فلا تفعلوه أنتم. وبما أنهم كانوا علماء عارفين وكان أغلبهم من الفلاسفة والحكماء، فقد وجدت فيهم في السنين المتأخرة من أعمارهم حالات صبيانية كحالات المراهقة وعدم النضج. إن هناك نوع من النضج لا يحصل إلى في ظل الزواج وتشكيلة العائلة. فلا يوجد في المدرسة ولا في جهاد النفس، ولا مع صلاة الليل، ولا في الحب والتعلق بالصالحين، بل يجب الحصول على هذا النضج من هذا الباب فقط. لذا فلا يعد القسيس المسيحي إنساناً كاملاً أبداً وإن كان صادقاً في عبادته وزهده.

لقد سمى القرآن النبي يحيى (ع) بأنه حصور، قال تعالى: (إن الله يبشرك بيحيى مصدقاً بكلمة من الله وسيد وحصوراً) (سورة آل عمران، من الآية: 39). ويصرح بعض بأن عيسى (ع) كان أفضل وارفع من كثير من الأنبياء في بعض الجوانب ولكنه يختلف عن النبي الحصور، فذلك النبي هو أكمل منه.

إن عامل تكوين الأسرة، الذي هو عامل أخلاقي ـ وهذا أحد أسباب تقديس الزواج في الإسلام ـ وهو عامل لا يقبل التبديل والتغيير أبداً.

الجهاد عامل الإصلاح والتربية

الجهاد عامل لا يقبل التبديل أبداً. اي لا يمكن أن يكون المسلم المؤمن المجاهد والمسلم المؤمن الذي لم ير الجهاد بمستوى واحد. ولو أصبح الإنسان في حالة مواجهة مع عدو قد شهر السلاح في وجهه، يجب عليه أن يقرر في لحظة واحدة أن يبقى ثابت الإيمان ومستقيماً بحيث يواجه الموت من أجل دينه وإيمانه، فالشيء الحاصل من هذا العامل لا يمكن الحصول عليه من العوامل الأخرى. وللرسول (ص) حديث في هذا المجال ـ في سنن أبي داود يقول: “من لم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق”[9] .

وهذا من النفاق غير المحسوس الذي لا يشعر معه الإنسان بأنه منافق، ولكنه منافق حقاً.

قصة الزاهد والجهاد

ينقل مولوي قصة في (المثنوي) هي قصة جميلة جداً، يرويها بأسلوب رائع. يقول: كان رجل زاهد وورع يؤدي كل العبادات ـ من الواجبات والمستحبات ـ وتنبه فجأة أنه أتى بجميع العبادات وبقيت واحدة وهي الجهاد في سبيل الله فذهب إلى أحد المقاتلين وقال له: لقد حرمنا ثواب الجهاد، فهل يمكن أن تخبرني إذا حاد وقت الجهاد لأني أريد المشاركة فيه لأجل الثواب قال المقاتل: لا مانع من ذلك. فجاءه يوماً وأخبره أن يستعد للجهاد، لأن الكفار قد هجموا واحتلوا بلاد المسلمين وأسروا نساءهم وقتلوا رجالهم. فحمل العابد سلاحه وركب جواده وذهب معهم.

ونزلوا ذات يوم في مكان نصبوا خيمة وجلسوا تحتها، وفجأة جاء النداء للحرب، فتحرك الجنود المدربون كالبرق الخاطف، وحملوا السلاح، ولم تمض دقائق حتى ركبوا خيولهم وهجموا على الأعداء. أما الزاهد فقد استغرق وقتاً طويلاً إلى أن تحرك وحمل سلاحه وسيفه وركب جواده واستعد. فما لبث أن جاء الجيش من الحرب وقد وقد انتهت المعركة وقتل من قتل وأسر من أسر. فحزن هذا المسكين كثيراً على ما حدث وقال: لقد حرمنا من ثواب الجهاد مرة ثانية، وإننا لم نوفق للجهاد. فدفع الجيش للزاهد أسيراً مقيداً من أسرى الأعداء وقالوا له: هل ترى هذا؟ إنه مجرم، قتل الكثير من المسلمين والأبرياء. لقد أسرناه. والآن نسلمه لك، فخذه واقتله لتنال ثواب المشاركة في الجهاد. فأخذه وذهب ليقتله. ولكنه تأخر كثيراً ولم يعد. فقال أصحابه: إن قتل واحد لا يحتاج لكل هذا الوقت! لنذهب ونرى ماذا حدث. وحين ذهبوا رأوا الزاهد ملقى على الأرض مغشياً عليه، وقد ارتمى عليه الأسير بيديه المقيدتين يريد قتله. فأخذوا الأسير وقتلوه، وحملوا الزاهد إلى الخيمة وأيقظوه. فقالوا له: ماذا حدث؟ قال: والله لا أعلم؛ فما إن ذهبت حتى قلت له: أيها المعلون! لماذا قتلت كل هؤلاء المسلمين؟ فصرخ في وجهي صرخة لم أدرك بعدها شيئاً.

سؤال وجواب

هل التفكير بالذنب ذنب أم لا؟ إن ما سمعته هو أن التفكير بالذنب إذا لم يصل إلى مرحلة العمل، فليس بذنب. كأن يفكر الإنسان بالقيام ببناء سينما لعرض الأفلام المحرمة، ولكنه لم يطبق ذلك على الصعيد العملي.

والسؤال الآخر: هل التفكير بعمل ما يجلب الثواب، إذا لم يدخل مرحلة العمل، كأن يفكر في تقديم مساعدة إلى جهة معينة ثم لم يستطيع القيام بذلك. فهل نستحق الثواب على التفكير أم لا؟

الجواب: إن الإنسان يريد مرة تأسيس سينما محرمة بنفسه لا سمح الله، ثم لا ينفذ هذه الفكرة، فليس ذلك بذنب. أي أنكم لو صممتم على الذنب وأعددتم مقدماته ولكنكم تندمون في اللحظة الأخيرة أو يحصل مانع من الخارج يمنعكم من القيام بذلك العمل، فلا يكتب ذلك ذنباً عليكم. ولكن لو أن شخصاً آخر يريد تأسيس “السينما” وأنتم تعينونه في مرحلة التفكير، إن عملكم ذنب، وان لم تقوموا انتم بتنفيذ المشروع، بل قام هو بذلك. فقد ساعدتم على ارتكاب الذنب والمعصية، وهذا كمساعدة الظالم التي هي نوع من الاعانة والتقوية على الإثم. والفرق بين عمل الخير وعمل الشر هو: أنه لو صمم الإنسان على عمل الخير ولكنه لم يوفق للقيام به فيكتب له ثوابه مع أنه لم يقم به. وهذا تفضل إلهي. فقد تصممون على القيام بفعل خير ولكن يحدث مانع يحول دون إنجازه. فهنا يكتب الثواب لكم. أما عمل الشر، فلو كنتم في مرحلة التصميم ولكن العمل لم يقع فلا يسجل اثمه عليكم، وهذا عفو من الله.

وما قلناه أن التفكير بالذنب ليس ذنباً، يقصد منه أن التفكير بأي ذنب هو ليس الذنب نفسه. مثلاً جعل لشارب الخمرة عقاب في الدنيا والآخرة. فلو صمم الإنسان والعياذ بالله على شرب الخمر ولكن حدث له مانع من شربه. لا يحق لنا أن نجلده عقاباً على ما فكر فيه. ولا يستحق العقاب في الآخرة أيضاً.

لكن عمل الخير ليس كذلك. فلو قصد الإنسان عمل خير، فانه وعد بثوابه يوم القيامة؛ وان لم يفعله، وهذا من فضل الله. ولا نزاع في أن نية الشر تسر بذاتها. بغض النظر عن ارتكابه.

ورد في أحاديثنا أن عيسى بن مريم قال: أيها الناس: إن الناس قالوا لكم لا تعصوا، وأنا أقول لكم، لا تفكروا بالمعصية.

أما في رأي الإسلام فلا شك أن كل فكرة تؤدي إلى غفلة الإنسان عن الله فهي شر، فكيف لو كانت تلك الفكرة تفكير بالذنب والمعصية؟ فهنا مسألتان:

الأولى: هي هل أن التفكير بالذنب شر أم لا؟ والجواب بالإيجاب. والأخرى هي: هل ان التفكير بالذنب وإن لم يقع قهراً ولا إرادياً هو نفس الذنب والمعصية؟ والجواب بالنفي.

أما في عمل الخير فالأمر مختلف فلو عزم الإنسان على عمل الخير، ولكنه لم يوفق لفعله كأن اعتراضه مانع، فإن الله تعالى سيعامله كما يعامل [فاعل الخير] ولنا أدلة كثيرة في هذا المجال.

جاء في نهج البلاغة: الخطبة: 12. عندما كان أمير المؤمنين (ع) عائداً من حرب الجمل، قال له رجل: “يا أمير المؤمنين، وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا” قال (ع): “أهوى أخيك معنا؟” أي هل كان يتمنى أن يكون معنا حقاً لكنه لم يوفق أم لا؟ قال: نعم كان يتمنى أن يكون معنا، ولكنه ويا للأسف لم يكن حاضراً، قال (ع): “فقد شهدنا”. ثم قال (ع): لم يكن هو معنا فحسب، بل كان معنا أفراد هم في أصلاب آبائهم وبطون أمهاتهم بعد، وأفراد سيرعف بهم الزمان. أي كان معنا افراد سيأتون بعد زمن طويل، ولكن قلوبهم معنا، ولو كانوا معنا لشاركونا حقاً؛ ولو كان خطابنا لسيد الشهداء (ع) وأصحابه: يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً حقيقياً وليس تعارفاً وعادة فإن فيه من ثواب تلك المجاهدة والمقاتلة مع الأعداء.

لقد سمعتم قصة مجيء جابر إلى كربلاء، والزيارة الأولى في الأربعين. كان جابر أعمى، يقول عطية الذي كان يرافقه وهو رجل محدث: قال جابر ضمن خطابه للشهداء: “لكننا كنا معكم، ونحن معكم شركاء” قلت لجابر: هل إننا شركاء لهؤلاء الذين تقطعت أبدانهم إرباً إرباً هنا ولم نكن معهم، فكيف نكون لهم شركاء؟ قال: نعم، والله لقد كنا، لأنني لو كنت حاضراً لكنت معهم حتماً، ولا شك في ذلك، فكانت روحي معهم. ففي مقام الأجر والثواب لو قصد الإنسان فعل خير ثم منعته موانع خارجية ولا إرادية، فإن الله تعالى يمنحه ثواب ذلك العمل تفضلاً منه تعالى، أما في المعصية فلو حدث مانع خارجي فلا يكتب ذنب ذلك الفعل عليه. وأما التفكير بالذنب فإنه شر وهو نوع من أنواع الذنوب.
——————————————————————————–

[1] سورة آل عمران، الآيتان: 190 ـ 191.

[2] البحار، ج1، ص219 باختلاف في العبارة.

[3] البحار، ج71، ص339.

[4] نهج البلاغة، الخطبة: 92.

[5] البحار، ج71، ص323.

[6] الكافي، ج2، ص375.

[7] سورة طه، الآية: 16.

[8] الكافي، ج1، ص39 وفيه: في الآخرة عمله.

[9] كنز العمال، ج4، ص293.

شاهد أيضاً

عوامل التربية (2) الإحسان – اية الله مرتضى مطهري

عوامل التربية (2) الإحسان ـ تقوية شعور البحث عن الحقيقة ـ المراقبة والمحاسبة من المسائل ...