ثلاثون أدباً للمتعلّم
10 فبراير,2017
فقه الولاية
1,501 زيارة
ما هو المراء؟
إنّ حقيقة المراء الطعن، والاعتراض على كلام الغير، وإظهار ضعفه, لغير غرض دينيّ أمر الله به، فتجده يعترض على كلّ كلام يسمعه، ويهزأ به، ويُضعّفه، وترك المراء يحصل بترك الإنكار والاعتراض على كلِّ ما يسمعه، فعليه أن يقف ويتأمّل في الكلام، فإن كان حقّاً وجب التصديق به بالقلب،
وإظهار صدقه حيث يُطلب منه ذلك، وإن كان باطلاً فعليه أيضاً أن يتركه، ولا يتسرع إلى الاعتراض إلّا إن كان متعلِّقاً بأمور الدِّين، واكتملت فيه شرائط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
علامة المراء
قد يتعلّم الإنسان كلَّ هذه الأمور ويعرفها نظريّاً، ولكن هناك مرحلة ثانية قد تكون أصعب من المرحلة الأولى، وتتلخص في الإجابة عن السؤال التالي:
كيف نُميِّز بين الطعن الصحيح الذي هو لله تعالى والطعن الفاسد الذي هو من المراء؟
إنّ التمييز بينهما عملياً صعب على الإنسان الذي تعوّد على تبرئة نفسه الأمّارة بالسوء ورفض إدانتها، ولكن مع ذلك هناك علامات يُمكن للإنسان أن يُميِّز حقيقة عمله من خلالها: فعلامة فساد مقصد المتكلِّم، تتحقّق بكراهة ظهور الحقّ على غير يده, ليتبيّن فضله ومعرفته للمسألة، والباعث عليه الترفع بإظهار الفضل، والتهجُّم على الغير بإظهار نقصه، وهما: “إظهار فضل النفس، وتنقيص الآخر“، شهوتان رديئتان للنفس: وأما إظهار الفضل، فهو تزكية للنفس، وهو من مُقتضى ما في النفس من طغيانِ دعوى العلوّ، والكبرياء، وقد نهى الله تعالى عنه في محكم كتابه،
فقال سبحانه: ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾[1].
وأما تنقيص الآخر، فهو مقتضى طبع السبعيّة، فإنه يقتضي أن يمزق غيره، ويصدمه، ويؤذيه، وهي صفة مهلكة.
انتبه:
قد يقع الإنسان في المراء، والطعن دون أن يلتفت إلى ذلك بسبب غفلته، وعدم معرفته بتفاصيل المراء، والطعن، وجهاته التي قد يكون بعضها خافياً عليه، فالطعن في الكلام يمكن أن يكون في جهات ثلاث:
1- في لفظه، بإظهار خلل فيه من جهة النّحو، أو اللغة، أو جهة النّظم والترتيب بسبب قصور المعرفة، أو طغيان اللسان.
2- في المعنى بأن يقول: ليس كما تقول، وقد أخطأت، فيه لكذا وكذا.
3- في قصده، مثل أن يقول: هذا الكلام حقّ ولكن ليس قصدك منه الحقّ، وما يجري مجراه.
4- عدم التكبُّر عن طلب العلم:
أن لا يتكبّر على التعلُّم، والاستفادة ممن هو دونه في منصب، أو سن، أو شهرة، أو دين، أو في علم
آخر، بل يستفيد ممّن يُمكن الاستفادة منه، ولا يمنعه ارتفاع منصبه، وشهرته من استفادة ما لا يعرفه، فتخسر صفقته، ويقلّ علمه، ويستحقّ المقت من الله تعالى، وقد ورد عن النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها فهو أحقّ”[2].
وأنشد بعضهم في ذلك:
وليس العمى طول السؤال وإنّما تمام العمى طول السكوت على الجهل
ومن هذا الباب أن يترك السؤال استحياء، ومن هنا قيل: من استحيا من المسألة لم يستحِ الجهل منه. وقال أبو عبد الله عليه السلام: “إنّما يهلك الناس, لأنّهم لا يسألون”[3].
وعنه عليه السلام: “إنّ هذا العلم عليه قفل، ومفتاحه المسألة“[4].
5- الانقياد للحق والرجوع إليه:
من أهمّ الآداب الانقياد للحقّ بالرجوع عند الهفوة، ولو ظهر على يد من هو أصغر منه، فإنّ الانقياد إلى الحقّ واجب شرعاً، وهو من بركة العلم، والإصرار على ترك الحقّ تكبّر مبغوض عند الله تعالى، يستوجب البعد عن الله والطرد من رحمته،
قال النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: “لا يدخل الجنّة من في قلبه مثقال حبّة من كبر”[5].
6- أن لا يحضر مجلس الدرس إلّا متطهراً
من الحدث، والخبث، متنظِّفاً، متطيِّباً في بدنه وثوبه، لابساً أحسنَ ثيابِه، قاصداً بذلك تعظيمَ العلم، وترويحَ الحاضرين من الجلساء، والملائكة لا سيّما إن كان في مسجد. وجميع ما ورد من الترغيب في ذلك لعامّة الناس، فهو في حقّ العالِم والمتعلِّم آكد وأولى.
7- تحسين النيّة، وتطهير القلب من الأدناس:
أن يُحسِّن نيته، ويُطهِّر قلبه من الأدناس: ليصلح لقبول العلم وحفظه وقال سهل بن عبد الله هو أبو محمّد سهل بن عبد الله بن يونس التستريّ: “حرام على قلب أن يدخله النور، وفيه شئ مما يكرهه الله عزَّ وجلَّ”[6]، وقال علي بن خُشرم: شكوت إلى وكيع بن الجرّاح بن مليح قلّة الحفظ، فقال: “استعن على الحفظ بقلّة الذنوب“.
وقد نظم الشافعي ذلك في بيتين فقال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
واخبرني بأن العلمَ نور ونور الله لا يهدى لعاصي[7].
* مع الإمام الخميني قدس سره:
كان الإمام يعظ تلاميذه عند بدء الدراسة ويقول لهم: “اجتهدوا في تهذيب النفس، فتهذيب الأخلاق ضروريٌّ قبل تهذيب العلم وتنقيحه، وإذا أراد الإنسان أن يستفيد من علمه فعليه أن يُهذّب نفسه أوّلاً“[8].
8- اغتنام التحصيل في الفراغ والنشاط:
أن يغتنم التحصيل في الفراغ، ما دام الله تعالى قد منَّ عليه بهذه اللحظات من الفراغ، ويغتنم النشاط، وحالة الشباب، وقوّة البدن قبل أن يُصاب بالضعف والوهن، ويغتنم نباهة الخاطر، وسلامة والحواس، وقلّة الشواغل الفكريّة قبل أن يُصاب ذهنه بالبلادة، وحواسه بالخمول، وقبل ارتفاع المنزلة، والاتسام بالفضل، والعلم، فإنّه أعظم صاد عن درك الكمال، بل سبب تامٌّ في النقصان والاختلال. إنّ هذه النعم الإلهيّة هي أمانة أودعنا الله إيّاها, لنستفيد منها ونصرفها في محلِّها، وعن ابن عباس (رضي
الله عنه): ما أوتي عالم علماً إلّا وهو شاب. وقد نبّه الله سبحانه وتعالى على ذلك بقوله: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾[9].
فغالباً ما يكون التحصيل في هذه الأعمار، ومن كبّر لا ينبغي له أن يُحجم عن الطلب، فإن الفضل واسع، والكرم وافر، والجود فائض، وأبواب الرحمة والهبات مفتحة، فإذا كان المحلُّ قابلاً، تمت النعمة وحصل المطلوب، قال الله تعالى: ﴿وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ﴾[10].
[1] سورة النجم، الآية 32.
[2] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2, ص99.
[3] الشيخ الكليني، الكافي، ج1, ص40.
[4] م.ن، ص40.
[5] م.ن، ج2، ص310.
[6] شهيد الثاني، منية المريد، ط 1، تحقيق: رضا المختاري، 1409هـ، ص 224.
[7] الألوسي، تفسير الألوسي، ج 6، (د. م)، (د. ن)، (د. ت)، ص 90.
[8] قبسات من سيرة الإمام الخميني قدس سره في ميدان التعليم الحوزويّ والمرجعيّة، ص136.
[9] سورة مريم، الآية 12.
[10] سورة البقرة، الآية 282.
9- قطع العوائق الشاغلة عن طلب العلم:
هناك عوائق في هذه الدنيا قد تمنع الإنسان من الانصراف إلى العلم، وحتّى من يوفّق إلى العلم قد يبقى ذهنه مشغولاً ومتعلقاً بأمور كثيرة تشغله عن الاستفادة الحقيقية ومن تحصيل العلم، فعلى الإنسان أن يقطع ما يقدر عليه من العوائق الشاغلة، والعلائق المانعة عن تمام الطلب وكمال الاجتهاد، وعليه أن يكون مجدّاً في التحصيل، ويرضى بما تيسّر من القوت وإن كان يسيراً، وبما يستر مثله من اللباس وإنّ كان خَلِقاً بالياً، ولا يتطلّب أو يتوقّع الكثير عن طلب العلم، فبالصبر على ضيق العيش تنال سعة العلم،
ويُحقِّق القلب آماله، والعقل نصيبه, ليتفجر عنه ينابيع الحكمة، والكمال. قال بعض السلف: لا يطلب أحد هذا العلم بعزِّ النفس فيُفلح، ولكن من طلبه بذل النفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح، وقال الخليل بن أحمد: العلم لا يُعطيك بعضه حتّى تُعطيه كلّك.
10- ترك عشرة من يُشغله عن طلب العلم:
إنّ الصديق والخليل هو نعمة إلهيّة، يُساعد صديقه وخليله على الدنيا وعوارضها، ويُعينه على آخرته إذا كان صديقاً وخليلاً صالحاً، ولكن قد يُبتلى المؤمن بصديق بعيد عن العلم، مُنصرف عن التعلُّم، فعلى المتعلِّم ترك العشرة مع من يُشغله عن مطلوبه، فإن تركها من أهمِّ ما ينبغي لطالب العلم، وأعظم آفّات العِشرة ضياع العمر بغير فائدة. وينبغي لطالب العلم أن لا يُخالط إلا لمن يُفيده أو يستفيد منه، فإن احتاج إلى صاحب، فليختر الصاحب الصالح الديِّن، التقيّ، الذكيّ، الذي إن نَسي ذكره، وإن ذكر أعانه، وإن احتاج واساه، وإن ضجر بّره، فيستفيد من خُلُقه ملكة صالحة، فإن لم يوفّق لمثل ذلك، فالوحدة أفضل من قرين السوء.
أدباً ثلاثون للمتعلّم 2017-02-10