لا يختلف عاقلان يفكران بشكل موضوعي على أن منطقة الشرق الأوسط تعيش اشتباكاً غير مسبوق في تاريخ المنطقة والعلاقات الدولية، وهو اشتباك بلغ الذروة والإعداد والاستعداد من قبل جميع القوى والأطراف الفاعلة إقليمياً ودولياً للتعامل مع شتى السيناريوهات المحتملة، وفي الوقت ذاته يدعي الجميع أنهم حريصون على فض الاشتباك ودياً والابتعاد عن الاصطدام المباشر، وكأن الغالبية الساحقة من صناع القرار لدى هذه الأطراف نسيت أو تناست قاعدة رئيسة في الإستراتيجيا العسكرية تقول: “إن تحشيد القوات قد يقود إلى صدام حتى ولو لم يرغب المتحشدون”، والجميع يدعي محاربة الإرهاب في حين معطيات الواقع تؤكد أن الإرهاب الداعشي وباعتراف أمريكي رسمي هو صنيعة الاستخبارات الأمريكية نفسها التي سخرت عائدات النفط الخليجية للوصول بالمنطقة إلى ما وصلت إليه من حرائق متنقلة تأكل الأخضر واليابس لضمان تنفيذ ما تضمنته خطة “خارطة حدود الدم ” لجنرال الاستخبارات الأمريكية “رالف بيترز” التي أعلن عنها في مجلة عسكرية أمريكية متخصصة بالدراسات العسكرية والإستراتيجية عندما كان الكيان الصهيوني يعد العدة للقضاء على حزب الله قبيل حرب تموز وآب 2006م.
إلا أن النتائج وحسابات البيدر جاءت متناقضة مع خطط اليمين الأمريكي المتصهين وحسابات حقولهم التي لا تعترف بأن النار إن شبت في بيادر متجاورة فإنها قد تنتقل بالشكل الذي تخرج فيه عن سيطرة مشعليها، وما وصلت إليه الحرب المفروضة على سورية والمنطقة اليوم أقرب ما تكون إلى الحالة التي يرغم فيها اللاعبون الكبار على ليِّ أعناق أحصنتهم المسروجة والمعلوفة منذ عقود، والتفكير الجدي في إيقاف ألسنة اللهب من الامتداد، إلا إنْ كان أصحاب الرؤوس الحامية هم الأقوى والأكثر فاعلية في تظهير الأهداف الإستراتيجية الصهيو ـ أمريكية بالطريقة التي قد تؤدي بالضرورة ـ وليس بالاحتمال ـ إلى احتراق النفوذ الطاغي لبلاد العم سام في المنطقة، ومؤشرات هذا السيناريو يبدو أنها ما تزال حاضرة وبقوة في صفحات كل من يريد أن يقرأ اللوحة بشكل شامل، لا عبر مقاطع منتقاة تتم إعادة هندستها في غرف منتجة السياسة الخاصة بتسويق الاستراتيجية الأمريكية ومحاولة فرض أجندتها على العالم أجمع.
مؤشرات متناقضة ومواقف متكاملة
قد يكون أحد أهم أسباب الضبابية التي تلف حقيقة ما يجري وما تم التخطيط له يكمن في التصريحات المتناقضة التي يطلقها المسؤولون الأمريكيون عن سابق قصد وتصميم، وكأن العالم مطالب بإيجاد تفسيرات تزيل التناقضات التي تبرز وبشكل حاد ما بين التصريحات والممارسات، ولو أخذنا أياً من تلك التصريحات والمواقف وسلطنا عليها أضواء المحاكمة العقلية لتبين لكل من يريد أن يحتكم للعقل أن تلك التناقضات وتسويقها جزء من استراتيجية أصحاب مشروع تشظية المنطقة وتفتيتها بآليات ووسائل قد تختلف، لكنها تتكامل في تنفيذ الهدف الاستراتيجي لما تمت حياكته في الغرف المغلقة لمطبخ السياسة الصهيو ـ أمريكية، لأنه يتعذر الحديث عن سياسة أمريكية صرفة، فالأصابع الصهيونية منتشرة سرطانياً في كل مفاصل صنع القرار الأمريكي، كما يتعذر الحديث عن سياسة صهيونية لا تنطلق من الاعتماد على الدعم اللامحدود والحتمي من الإدارات الأمريكية وكل من يدور في فلكها إقليمياً ودولياً، فالبيت الأبيض يعلن أنه لن يكتفي بضبط إيقاع داعش بل سيعمل للقضاء النهائي عليه بأقصر مدة ممكنة، والبيت الأبيض ذاته أعلن أن داعش صناعة أمريكية بامتياز، ومن السذاجة تسطيح الأمور والانجراف مع تيار الخشية من داعش على الأمن القومي الأمريكي بغض النظر عن عربدة داعشية هناك وجموح هناك لمكون آخر من الجسد الإرهابي المنتشر بمسميات متعددة في المنطقة، وكيف يستقيم تصديق واشنطن أنها مهتمة فعلاً بالقضاء على داعش في حين عملت وما تزال على إضعاف القوة الفعلية التي أثبتت على أرض الميدان أنها القوة الوحيدة القادرة على إنجاز هذا المهمة، أي الجيش العربي السوري وحلفاؤه الذين يقدمون التضحيات بالأرواح والدماء في مواجهة هذا الإرهاب الممنهج؟
وهل القضاء على داعش يكون تحت سقف القانون الدولي وميثاق هيئة الأمم المتحدة الذي يؤكد على عدم جواز انتهاك السيادة للدول المستقلة، أم أن القضاء على الإرهاب يتطلب تحكيم شريعة الغالب والحضور العسكري المباشر دون التنسيق مع الدولة التي تواجه الإرهاب منذ أكثر من ست سنوات؟ وماذا عن التصريحات الرسمية الأمريكية من علا منبر الأمم المتحدة التي تؤكد أن واشنطن ستضرب ب “الكندرة” كل من يعادي “إسرائيل”؟ أهكذا تكون الحرب على الإرهاب والقضاء عليه؟ وهنا لابد من تذكير المندوبة الأمريكية بأن رئيس بلادها هو من ضرب بحذاء من يواجهون “إسرائيل” التي كانت تُعَدُّ “بعبعاً” يرعب الآخرين، أو مكلف بأداء هذا الدور الوظيفي للتأثير الضاغط على أصحاب الهمم والإرادة والمبادئ التي لا تقبل المساومة ولا الاستبدال، كما أن” إسرائيل” تلك غدت اليوم عارية أمام الرأي العام بفضل صمود وإرادة من تهددهم المندوبة الأمريكية، وشتان بين التبجح والتهديد، وبين الفعل المنجز على أرض الواقع، فمن يستطع تنفيذ ما يريد لا يهدد ولا يتوعد بل يفرض ما يريده، لأن إطلاق التهديدات يمنح الآخر فرصة إضافية لتجميع أوراق قوته ومراكمتها ـ ولا بأس من استعراض فاعلية بعضها أحياناً لتذكر الذئاب بما ينتظرهم إن قرروا الاحتكام إلى المراهنات والمقامرات والمغامرات غير المحسوبة بدقة ـ والمايسترو الصهيو أمريكي يدرك هذه الحقيقة، لكن الأتباع والأدوات وأصحاب الأدوار الوظيفية لا يرون أبعد من أنوفهم، ـ الأصح ـ غير مسموح لنظرهم أن يمتد إلى أبعد من ذلك، ولهذا رأيناهم يتقاطرون زرافات ووحدانا حجاجاً إلى واشنطن لتشكيل تحالف خليجي وإقليمي بذريعة محاربة داعش، لكن المستهدف الأول هو الجمهورية الإسلامية في إيران،
والمسؤولون الأمريكيون والإسرائيليون يعلنون ذلك صراحة، ويتسابق أعراب الردة في ممالك النفط والغاز للانبطاح أكثر فأكثر، وإثبات المهارات المتراكمة والمتزايدة في لعق الأحذية الصهيونية والأمريكية لضمان استمرارية تأرجح أجسادهم المأفونة فوق عروش الحكم التي غدت صهيونية التوجه والأهداف سراً وعلانية، ولكيلا يفرح المرجفون كثيراً نذكر أولئك بأن مراكز الدراسات الإستراتيجية الصهيونية، والمسؤولين الأمنيين والاختصاصيين يجمعون على أن الخطر الوجودي الداهم الذي يواجه كيانهم الغاصب يتمثل في انتصار سورية وانتشار المقاومة ” حزب الله” على امتداد الحدود مع الجولان المحتل، مع تنامي الوجود الإيراني الفاعل في سورية بطلب من الدولة السورية، وما أفرزه هذا الوجود من نتائج ميدانية وسياسية ترعب قادة تل أبيب الذين كانوا يراهنون على الاستثمار في الإرهاب، وعلى من يستميت لاستجداء رضا نتنياهو أن يضع في حساباته أن كابوس تجذر المقاومة وانتشارها عموديا وأفقياً مع الإصرار السوري على التمسك بسيادية القرار الوطني أمران خارج طاقة “إسرائيل” وأمريكا معا، وما عجزت عنه واشنطن وتل أبيب لا يمكن لعواصم التبعية والنخاسة أن تنجز ما لم ينجزه سيدها وولي أمرها المشغول بكيفية الاستثمار بها طالما أنها ما تزال ” ظهراً يُرْكَبُ، وضرعاً يُحْلَب”.
الأمر الآخر الذي يستحق التوقف عنده في سياق الحديث عن التناقض الظاهر بين التصريحات والسياسات هو الموقف الأمريكي المعلن من أن “إسقاط” السيد الرئيس بشار الأسد لم يعد أولوية أمريكية، وهنا يمكن التوقف عند العديد من النقاط التي لا يجوز، إغفالها.
* باحث سوري متخصص بالجيوبولتيك والدراسات الاستراتيجية.
للتواصل مع الكاتب:
[email protected]
لاحقا .. الجزء الثاني: النقاط ونهاية المشروع الاميركي
المصدر: موقع المنار
https://t.me/wilayahin