الرئيسية / من / قصص وعبر / المسيح في ليلة القدر 25

المسيح في ليلة القدر 25

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة – رواية زيارة آية الله الخامنئي دام ظله إلى منزل الشهيدة جيرمن بور غورغيس وزوجها الشهيد آغاجان أوديشو وابنتهما الشهيدة رامينا أوديشو بتاريخ 25/12/1991م

 
الشهيد آغاجان أوديشو
شهيد الغارات على طهران
تاريخ الشهادة: 11/03/1988م
 
الشهيدة جيرمن بور غورغيس
شهيدة الغارات على طهران
تاريخ الشهادة: 11/03/1988م
 
الشهيدة رامينا أوديشو
شهيدة الغارات على طهران
تاريخ الشهادة: 11/03/1988م
 
 
 
 
 
346

294

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 كانت ليلة عيد الفصح، وكنتِ صائمة، بل كان الجميع صائمين. البعض يصوم الأيام الأخيرة فقط. أما أنتِ فقد صمتِ كلّ الأيام التسعة والأربعين، أي أنّك لم تتناولي سوى الخضار، ولم 

تتذوّقي اللحمة أو الحليب والبيض. كان كلّ شيء جاهزًا للعيد غدًا، البيت مرتّب ونظيف، وتمّ شراء الحلوى والفاكهة. منذ الصباح جاءت ابنتك “جرمن” وابنتها “رامينا” لمساعدتك، وذهب صهركِ أيضًا لشراء الحاجيات. عند المساء، كنتِ متعبة لدرجة أنّك غفوتِ قبل الجميع. كما نامت “جيرمن” وزوجها وابنتها هنا، وليتهم ذهبوا!
كانت “جيرمن” ابنتكِ البكر، وكنتِ تفدينها بروحك. وكان زوجها رجلًا شهمًا يُدعى آغاجان1. لم يكن يعرف الناس أنّ اسمه هو “آغاجان”، وكلّما كنتِ أنت وجيرمن تُناديانه، كانوا ينظرون إليكما بما يعنيه “لمَ هذا الدلال؟ لماذا لا يقولون له سوى “السيّد العزيز”!”. وكانت جيرمين تُحبّ تعجّبهم هذا، فيزداد إصرارها على مناداته “آغا جان”، ولكي يردّ لها الجميل، كان آغاجان يُناديها “خانم جان”2، ثمّ كانا يُغمى عليهما من الضحك. كنتِ عاشقة لهذَيْن الزوجَيْن العاشقَيْن، إلى أن ولدت حفيدتك وسلبتكِ قلبك. ما زلت تذكرين كيف كبرت يومًا بيوم وشهرًا بشهر، وسنة بسنة. في ذلك العيد، قاربت رامينا السادسة عشرة من العمر، صبيّة جميلة وحيوية.
كان سمعكِ ثقيلًا قليلًا، وكذلك نومكِ. كنتِ متعبة لدرجة لم تسمعي صوت الانفجار والصراخ والآهات. وما كنتِ لتستيقظي لو لم تُصابي بالسعال بسبب اختناقك من الدخان والغبار. 
كان كلّ شيء مظلمًا أسود. ناديتِ جيرمن كي تسأليها ما الذي حصل، ولتأتي وتُساعدك على الوقوف وفتح الشبابيك، لكنّها لم تُجب. للحظة، خطرت على بالك فكرة مشؤومة
 
 

 1- في اللغة الفارسية آغا جان تعني السيّد العزيز.
2- السيّدة العزيزة.
 
347

295

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 ومخيفة، ترافقت مع رائحة الدخان والنار، وأشعرتكِ بالاختناق. بدأت يداك وقدماك بالارتجاف، صرختِ “جيرمن”.. “جيرمن”.. “رامينا”.. “رامينا”! ولكن لم يعلُ أيّ صوت من داخل البيت.

إنّما صوت الصراخ والعويل كان في الخارج.
وقفتِ بصعوبة، وقد أخذ السعال منك كلّ مأخذ. كنتِ تبحثين في الظلام عن ملابسك لترتديها وتخرجي إلى الزقاق لكنّك لم تجِدي، وسألت من دون قصد: “جيرمن! لم ترَي ثوبي؟”.
ومرّة ثانية، خطرتْ على بالك تلك الفكرة المشؤومة والمخيفة. وضعتِ الدثار على رأسك وجسمك وخرجتِ من البيت، وكأنّ القيامة قد قامت في الحيّ، صرختِ: يا عيسى المسيح!
كان الصاروخ قد هدم نصف بيتك ونصف بيت الجيران. كنتِ مصدومة للحظات، تنظرين فقط إلى الدمار الذي أصاب جزءًا من بيتك وجزءًا من بيت الجيران. كان الدخان والتراب قد ملآ المكان، ولم يكن معلومًا ما الخبر. أسرعت السيّدة “سولماز” جارتك من جهة اليمين، نحوك. أحضرت لك ثوبًا وحجابًا. نظرتِ إليها فقط، لم تستطيعي الكلام، ألبستك الثوب والحجاب بنفسها وركضت مبتعدة، ثمّ عادت وفي يدها نعلين “مشاية” وكوب ماء مع السكّر. أحنيتِ رأسك، كانت قدماك حافيتَيْن!
الغارات التي نفّذها النظام البعثي العراقي على منطقة “وحيدية”، 
من الأحياء المسيحية في طهران – آذار 1988م.
 
 
 
 
348

296

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 قرّبتِ الماء والسكّر من فمك، عندما شربتِ رشفة استطعتِ أن تعرفي أين أنت.

عندها صرختِ صرخة، حوّلتِ كلّ الأنظار إليك: “جيرمن”!!، وركضتِ داخل الدخان. تبعتك سولماز وامرأتان أو ثلاث ممّن كنّ هناك. وقفتِ على الردم، هذه هي الغرفة التي كانت جيرمن وآغاجان ورامينا ينامون داخلها. صرتِ تدورين حول نفسك كالمجنونة وتصرخين: جيرمن! جيرمن!
اقترب شخصان بلباس عسكري منك، فأمسكتِ بقميص أحدهما وقُلتِ باكيةً: ابنتي؟ صهري؟ حفيدتي؟
قالا لك: إن كانوا جرحى فبالتأكيد تمّ نقلهم إلى المستشفى. لم تسمعي سوى كلمة مستشفى، فقلتِ له وأنتِ ما زلت تمسكين قميصه: خذني إلى هناك! نظر إلى صديقه وقال: على عيني يا أميّ.
كان المستشفى مزدحمًا ومقلوبًا رأسًا على عقب بسبب الجرحى. مررتِ بجانب عدد من الأسرّة وشاهدتِ كيف يغطّون وجوه الجرحى بالأدثرة. لم تتجرّئي على الاقتراب والنظر إلى الوجوه المغطّاة. كانت سولماز برفقتك. توجّهتِ إلى أحد الأطبّاء الكبار في السنّ وقلتِ له شيئًا، فجاء إليك. سألتِه: ابنتي هنا؟
– ما اسمها؟
– “جيرمن بور غورغيس”.
– هل جُرحت في الغارات الجوية؟
– نعم قالوا إنّها هنا.
– هل كان برفقتها أحد؟
– زوجها وابنتها.
طأطأ رأسه. نظر إلى سولماز التي كانت تشدّ على عباءتها بأسنانها من القلق، ثم قال: “لا إله إلا الله. أنا آسف يا أمّي، لكنّهم ليسوا هنا، يجب أن تذهبا إلى هناك وتبحثا عنهم”.
نظرتِ إليه بتعجّب قائلةً: هناك؟ لماذا؟
بدأت سولماز بالبكاء والعويل وجاءت واحتضنتك. كنتِ لا تزالين مصدومة ولا تريدين أن تُصدّقي ما حصل. في طريق العودة، لم تقولي شيئًا، وحين وصلتِ إلى بيتك المهدوم كنتِ مجبورة على تصديق أنّك بقيتِ، وأنّ كلّ حياتك قد أخذها هذا الصاروخ اللّعين.
 
 
 
 
 
349

297

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 بدأتِ بالبكاء والنواح ودخلتِ وسط الأنقاض.

كنتِ تُزيلين الركام بحثًا عن ابنتك، والدّماء تسيل من تحت أظافرك ولم تلتفتي إلى ذلك، وبعدها فقدتِ وعيك.
حين فتحتِ عينيكِ كانت سولماز بالقرب منك تحاول أن تواسيكِ باللّغة التركيّة. لم تقولي سوى: “جيرمن”. نهضتِ لتذهبي وتبحثي عنها. لكن أمام الباب، وقع نظرك على ابنك إبراهيم الذي غطّاه الغبار والتراب من رأسه إلى أخمص قدميه. كم كان حضوره الآن مهمًّا وضروريًّا لك. حين رآكِ، جثا على ركبتَيْه وناداك باللغة الآشورية: “يمّة”.
تعانقتما وبكيتما وبقيتما على تلك الحال دقائق عدّة، من دون كلام. لم تعرفي إن كان يجب أن تُهدّئيه أو أن يُهدّئك هو. ما كان يلزمه أكثر من هذه اللّحظات في حضنك كي يهدأ، لكنّك بقيتِ أشهر عدّة على حالك هذه. كانت رؤية البيت ثانيةً على هذه الحال أمرًا صعبًا. حين خرجتِ من بيت سولماز رأيتِ العشرات من الآشوريّين الّذين جاؤوا لمساعدتكِ. اجتمعت النسوة الباكيات حولك، وجاء الرجال لتعزيتك. أمّا الشباب فبدؤوا بالرفوش والأيدي، إزالة الأنقاض كي يستطيعوا رفع الأجساد سالمةً من تحتها. كانوا يخافون إذا جاءت الجرّافات لإزالة الأنقاض، أن تتأذّى الأجساد. معهم حق. حين جاءت الجرّافات في الصباح لإزالة أنقاض بيت جيرانك، السيّد يعقوب وزوجته وابنَيْهما، وهم من اليهود وقد استشهدوا جميعًا، تأذّت الأجساد بسبب الجرّافات! أيضًا كان هذا يسيرًا مقارنةً مع ما حصل في الشارع المجاور؟ ما الذي كُنتِ ستقولينه لو رأيتِ ما حصل؟
شابّان وأمّهما، كانا طالبَيْن جامعيَّيْن وبطلَيْ لعبة “تنيس”، سمعوا صوت صفّارات
 
 
 
 
350

298

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 الإنذار، ركض الشابّان إلى الشارع، لكنّ أمّهما لم تكن قد خرجت بعد عندما انفجر الصاروخ وتحطّم زجاج المبنى، فارتمت على الأرض، وعندما نهضت كانت بخير ولم تُصب بأذى، لكن ما إن خرجت من المنزل حتى غابت عن الوعي. لم يُصِب الصاروخ أيًّا من البيوت لكنّه سقط وسط الشارع، فلم يبقَ من أثرٍ للشابَّيْن! وقد جمعوا أيديهما وأرجلهما ورأسيهما من الأزقّة المجاورة. أجل يا أمّي، لقد شهد الحيّ في تلك الليلة العديد من هذه الحوادث المؤلمة. 

مع أنّهم انتشلوا أجساد أعزّائك بدقّة واحتياط كاملَيْن، إلا أنّهم لم يسمحوا لك برؤيتهم، حتى قُبَيْل دفنهم. حين جاءت العديد من العوائل الآشوريّة التي استشهد أبناؤها في الجبهة، لمواساتك وللمشاركة في التشييع قلتِ لهم: “إنّ حرقتي أكبر وأقسى من حرقتكم، حين ذهب أبناؤكم إلى الجبهة كنتم تتوقّعون أن يستشهدوا، كانوا جنودًا، ذهبوا لمحاربة الأعداء وقدّموا أرواحهم بكلّ رجولة فداءً لبلدهم. لكنّ صغيرتي رامينا لم تتعدَّ السادسة عشرة، ليلة العيد ناموا وهم صائمون. وحصل لهم هذا!”.
معك حقّ يا أمّي. قصّتك أقسى، ولذلك صرتِ كالسكارى في تلك الأيام، لم تكوني قادرة على المشي. كنتِ تتكلّمين مع نفسك وتشتمين صدّام. كان الجميع يلعنه ويلعن أصدقاءه وداعميه.
هل تعلمين؟ لا أعتقد أنّك تعلمين، أنّ مدّعي حقوق الإنسان يومها، لم يروا أنّ من مصلحتهم حتى أن يقطّبوا حواجبهم بوجه صدّام بسبب قصفه للمدن وللناس. هم بأنفسهم وضعوا قانونًا يقضي بعدم قصف الناس المدنيّين أثناء الحروب. 
ربما رأوا أنّ سيّدة مسيحيّة وزوجها وابنتها الشابّة، عسكريّون كي لا يرتفع صوتٌ في العالم يُدين قتلهم، حتّى أولئك المدّعون اتّباعهم لدين المسيح. نعم يا أمّي! حين كانت مئات البيوت والعائلات الإيرانيّة – مثل بيتكم وعائلتكم – تُدمّر وتُقتل، أصدر مجلس الأمن بيانًا يطلب من الطرفَيْن عدم قصف المدن والأبرياء! نعم إنّهم المدافعون عن حقوق الإنسان والمحافظون على أمن البشر، لكنّهم يظنون أنّهم هم فقط بشر، إلا أنّهم أكثر ضراوة من الذئاب وأكثر خِسّة من إبليس! ألم يكن لابنتَيْك جيرمن ورامينا حقٌّ من حقوق البشر تلك؟ أنتِ أيضًا ألا حقّ لك؟
 
 
 
 
351

299

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 لكن هنا، تختلف الأمور يا أمّي. لقد رأيتِ كيف جاء إمام الجماعة في مسجد الحي للمشاركة في تشييع أعزّائك، رأيت كيف جاء أهل الحي، وأكثرهم من المسلمين، يُشاركونك البكاء.

هنا، حاكم هذا البلد هو من قِبَل الله، مدافع عن حقوق الإنسان حتّى لو كان دينهم غير دينه. إنّ الإمام الخميني من نسل عليّ عليه السلام، ذلك العظيم الذي قال يومًا: “ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينزع حجلها1.. فلو أنّ امرءًا مسلمًا مات من بعد هذا أسفًا، ما كان به ملومًا، بل كان عندي جديراً”2.
والإمام يُقدّم روحه لكلّ فرد من أبناء إيران الّذين يُقتلون ظلمًا. وهذا أيضًا لم تكوني تعرفينه. حين قصف صدّام مدننا من دون أيّ رادع، طلب الكثيرون من الإمام أن يُجيز لهم قصف المدن العراقيّة، وكان الناس يتظاهرون مطالبين بهذا الأمر: “الصاروخ مقابل الصاروخ”، لكنّ الإمام المدافع عن حقوق الإنسان، حتى لو كان من يسكن في المدن هم الأعداء، لم يُجز القصف إذا كان الناس العاديّون سيتأذّون.
الآن، وقد مضت ثلاث سنوات على تلك الأيام وانتهت الحرب. ما زالت الدنيا هي الدنيا. إلى الآن، لا أحد يسمع صوتك وصوت آلاف الأمهات أمثالك في العالم، ولكن يكفي فقط أن يُعاقب قاتل على عمل شنيع قام به في زاوية من إيران، حتى يرتفع صوت المدافعين عن حقوق الإنسان، وكأنّ مجموعة من أكثر الناس براءة قد قُتلت ظُلما!
لكنّ إيران، إيرانك، ما تزال تدعم الحقّ والحقوق الحقيقية لكلّ البشر. منذ سنتَيْن، رحل الإمام عن هذه الدنيا. لكنّ خليفته من سنخه ومن نسل ذلك الإنسان العظيم في التاريخ، الإمام علي عليه السلام. والآن عيد الميلاد من العام 1991م، هذا الرجل، أي السيّد الخامنئي يريد أن يأتي إلى هنا، إلى بيتك أنتِ أمّ شهيدة، وأمّ زوجة شهيد، وجدة شهيدة. 
لا بأس، حتى لو كان إبراهيم ابنك مسافرًا، فإنّ زوجته كارين وابنهما “رامسي” موجودان وسيساعدانك في استقبال ضيفك وفي الحديث معه. إنّها ليلة عيد الميلاد، وكلّ شيء جاهز ومهيّأ للضيافة واستقبال الضيف.
 

1- أي خلخالها.
2- الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطب الإمام علي عليه السلام، خطبة الجهاد، ص70.
 
 
 
352

 


300

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 دخل قائد ثورتنا المظلومة، والابتسامة تعلو وجهه، وأول من سأل عنه هو أنتِ، سأل عن أمّ الشهيدة. كنتِ تجلسين على كنبةٍ منفردة و”رامسي” الذي صار شابًّا في السابعة عشرة من عمره، والّذي هو كلّ فرحك، جلس على الكنبة المزدوجة، بالقرب من السيّد الخامنئي. هل تُصدّقين؟ “رامسي” بالقرب من قائد الثورة!

عندما علم القائد أنّك من آشوريّي منطقة “أرومية”، سألك عدّة أسئلة عن “أرومية” وعن الآشوريّين هناك، وسألك إذا كُنتِ تتكلّمين التركيّة أم لا؟
– هل تُجيدين التركيّة والآشورية والفارسيّة؟
– نعم.
كنّتك، ما شاء الله عنها، متحدّثة لبقة، وقالت إنّك تُجيدين الأرمنيّة أيضًا.
– هل تعرفين الأرمنيّة؟
– نعم.
– أين تعلمتِ اللّغة الأرمنيّة؟
– حين كنتُ طفلة، في المدرسة.
 
 
 
 
 
353

301

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 – في “أرومية” أم هنا؟

أجبتِ: في تبريز. سرحتِ في أفكارك عن قدَرك، وُلدتِ في أرومية، درستِ في تبريز وها أنت في طهران. والسيّد الخامنئي أيضًا لا يعرف أنّ زوجة ابنك أرمنيّة وليست آشوريّة.
– نعم، في تبريز يعيش الكثير من الأرمن، وفي طهران أيضًا. لكن، لا أظن أنّه في أرومية هناك أرمن.
قالت “كارين”: بلى، في أرومية أيضًا هناك أرمن، وهم كثُر الآن.
– هناك، لأنّ الآشوريين موجودون في الغالب. فآشوريّو أرومية ومنطقة آذربايجان الغربية هم من أهل المنطقة المحليّين، أمّا الأرامنة فليسوا كذلك، بل هم منتشرون في كلّ مكان، في طهران، في تبريز، في أصفهان، هم كثر.
ثم وجّه كلامه إلى “رامسي” وسأله إن كان يعرف اللغة الآشوريّة أم لا. لم تعد “كارين” قادرة على ضبط نفسها فتقول: ابني يعرف اللغة الأرمنيّة أيضًا لأنّني أنا أرمنيّة.
– أنت أرمنيّة؟!
تُجيب كارين بحركةٍ من رأسها، ثم يبدأ “رامسي” في النهاية بالكلام: والدي آشوريّ وأمّي أرمنيّة لذلك أنا أتكلّم الآشوريّة والأرمنيّة أيضًا.
تعجّب السيّد من ارتباط العائلتَيْن الآشوريّة والأرمنيّة. ثمّ دار الكلام حول الكنائس الآشوريّة والأرمنيّة في المنطقة، فتوضح زوجة ابنك “كارين” أنّ كنيسة الآشوريّين تقع في شارع “قوام السلطنة”.
تعجّب السيّد من اسم الشارع، فسأل ما الاسم الجديد لهذا الشارع: “قوام السلطنة قد مات وذهب!”، ثمّ ضحك وضحك الحاضرون. فأجابت زوجة ابنك: “سي تير”1، ما دفع بالسيّد الخامنئي إلى أن يتحدّث باختصار عن تاريخ هذا الاسم.
– لأنّ “قوام السلطنة” قد أوجد “سي تير”، أسموه كذلك تحدّيًا له. إنّ يوم “سي تير” هو اليوم الذي استقال فيه الدكتور مصدّق في العام 1952م. فنزل النّاس إلى الشارع كي يتراجع مصدّق عن استقالته. عيّن الشاه يومها “قوام السلطنة” رئيسًا للوزراء، فتبجّح وهدّد الناس
 

1- 30 تير الموافق ل21 تموز.
 
 
 
 
354

302

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 بالقتل والاعتقال إن بقوا في الشوارع. لم يستجب الشعب له، وبقوا في الشوارع. كما إنّ المرحوم آية الله “كاشاني” وجّه رسالة للشعب للاحتشاد في الشوارع. لم يكمل “قوام السلطنة” الأربع والعشرين ساعة حتى قدّم استقالته، وعاد مصدّق إلى رئاسة الوزراء. لذلك غيّروا اسم الشارع من “قوام السلطنة” إلى “سي تير”. وهذا يدل على ذوق ودراية.

أنت وزوجة ابنك تُفكّران كيف أنّكما تعيشان في شارع “سي تير” منذ سنوات، “قوام السلطنة” سابقًا. لم تعرفا أبدًا هذه الأمور، ما أعجب قصّة هذا الشارع.
كان السيّد يحب اللّغتَيْن الأرمنيّة والآشوريّة ويعرف بعض الكلمات. وبما أنّ هناك الآن ممثلين لهاتَيْن اللغتَيْن فقد سأل “رامسي”: 
– إذًا أنت تعرف اللّغة الآشوريّة واللّغة الأرمنيّة أيضًا. حسنًا يُقال للأمّ باللّغة الآشوريّة “يمَّه”، ماذا يقولون لها باللّغة الأرمنيّة؟
أجابت “كارين” قبل “رامسي”: “مايري” أو “ماما”.
وأنت لأنّك تقليديّة ولا تُحبّين الكلمات الغربية، قُلتِ: يجب أن تقولي “مايري” وليس “ماما”، فكلمة “ماما” إنكليزيّة.
– الكلّ يقول “ماما”، في إيران يقولون ماما. في اللغة العربية يقولون “ماما”. إن “يُمَّة” التي تقولونها هي “ماما” في الحقيقة، العرب يقولون “يُمَّا”.
مع هذه الحوارات صار الجوّ صميميًا وحميماً. كُنتِ تريدين أن تبثّيه حزنك وألمك، في تلك الليلة السوداء. وقد أعطاكِ هو هذه الفرصة.
 
 
 
 
355

303

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 – حسنًا، في أيّ سنة حصلت تلك الحادثة؟

كنتِ تحتاجين فقط إلى هذه الإشارة. لم تذكري السنة. بل أخبرته كلّ القصّة.
أخبرته عن نومكم ليلة العيد مع ابنتك وصهرك وابنتهما وأنتم صائمون، الاستيقاظ والخروج إلى الشارع بقدمَيْن حافيتَيْن، والوصول إلى المستشفى ومعرفة الخبر وصراخك “جيرمن” “جيرمن” في الشارع، إلى تمزّق أجساد جيرانك اليهود. لقد أخبرته كلّ القصّة التي ختمتِها كالتّالي: “والله، يا سيّد خامنئي، لا تعرف ما الذي مرّ عليّ!”.
– نعم إنّه أمرٌ صعب. صعب جدًّا. آجرك الله وأعطاك الصبر. صعب جدًّا. لكن هذه مصائب الدنيا. يا سيّدة.
– المصائب موجودة، ولكن ليس بهذا الشكل.
– نعم، ما جرى معكم أصعب. أصعب بكثير.
– لو نام الإنسان ولم يستيقظ، لكان الأمر أكثر راحة، ولكن شبابًا كهؤلاء رحلوا وبقيت أنا، إنّه أصعب بكثير.
– ليحفظ الله بقيّة أولادك، ابنك وزوجته وابنهما. لعنة الله على صدّام حسين الّذي سبّب هذا.
– نعم، لعنه الله. لم أعرف شيئًا من ذلك العيد. كنتُ أهرول في الشارع كالمجنونة!
– نعم، صعب جدًّا. معك حقّ.
حين كنت تُفرغين ما في قلبك، أحضرت “كنتكِ” الشاي وتناول السيّد كوبًا. وها هو يبحث عن شيء على الطاولة أمامه.
قال ممازحًا: “ألا تعطينا مكعّبات السكّر يا سيدة”.
عضضتِ شفتيك كالحماوات، ضربت يدًا بيد وقلتِ لزوجة ابنك بلغتك الخاصة: “اذهبي وأحضري القند (مكعبات السكر)”.
وقفت “كارين” وقبل أن تدخل المطبخ قالت: اعذرنا، لقد فاجأتمونا، لا نعرف ماذا نفعل.
– لقد كنتم تتجهّزون للعيد، ولديكم كلّ شيء. لا داعي لأن تعرفوا مسبقًا.
كان السيّد يمزح، وابتسم الجميع، إلا أنتِ. كنتِ في أحوال وأجواء تلك اللّيلة وتتلعثمين في الكلام:
 
 
 
 
 
356

304

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 – لقد كنتُ أنتقل في الأحياء هنا وهناك لشدّة الحزن.

حاول السيّد بالمواساة واللطف، أن يُهدّئك مرّة ثانية.
– حسنًا، يجب أن تصبري، إنّ الحياة صعبة. كوني شاكرة لله. في النهاية هذه هي الحال. فالدنيا ليست سعادة مطلقة ولا لذّة مطلقة، وفي زاوية ما تحدث حادثةٌ ما مؤلمة.
– قبل هذه الحادثة، كنت أستطيع مواجهة الرجال. هكذا كنت.
– الآن أيضًا. ما شاء الله أنت بحال جيّدة. قويّة وحيوية.

بدأتِ تتحدّثين عن حياتك في أيّام الثورة، حين تبدأ المظاهرات، كنتِ تأخذين كلّ ما في برّادك من فواكه وماء وثلج لتوزيعها في المظاهرات. ما أجمل ذكراها تلك الأيّام، مع أنّكِ لا تعرفين شيئًا عن السياسة، ولكن حين ينزل جيرانك والشعب كلّه من أجل عملٍ واحد، كان قلبك معهم. بعدها حين رأيتِ خلال إحدى التظاهرات، أمام بيتك قتلى وجرحى من أبناء الناس، تملّكك الغضب والكره للشاه ودولته.

كان القائد يتحدّث مع “رامسي” حول المدرسة. فسأله سؤالًا طرحه كثيرون قبله:
– الآن، بما أنّ أمّك أرمنيّة وأباك أشوريّ؟ هل أنت أرمنيّ أم آشوريّ؟
قال “رامسي” إنّه لا فرق بينهما. لكنّكِ أنتِ تقولين إنّ أصله آشوريّ لأنّ الأصل هو الأب. لكن السيّد الخامنئي قال لـ”رامسي” إنّه لا فرق بينهما:
 
 
 
 
 
357

305

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 – في النهاية، الأب والأم كلاهما أصل، الأب أصل والأمّ أيضًا أصل. 

أجاب “رامسي” وهو جالس بالقرب من قائد الثورة بكلّ ارتياح: “نصفي أرمني ونصفي آشوري”.
نظر السيّد إلى “رامسي” بمحبة وصار يُحدّثه كأنّه بالغ. أمرٌ أدخل الفرح إلى قلبك وقلب كنّتكِ.
– في النهاية، حين تُصبح رجلًا جيّدًا إن شاء الله، متعلّمًا، عاملًا، مفكّرًا ومفيدًا وحين تكون حَسَن السلوك مع الناس، وتكون متواضعًا، عندها لا فرق إنْ كنتَ آشوريًا أم أرمنيًّا.
شعرت “كنّتكِ” بالفرح والانطلاق وهي تسمع النصائح الأبويّة للسيّد الخامنئي، فقالت:
– لحسن الحظ، نحن متزوّجان منذ خمسة وعشرين عامًا، ونعيش معًا، لم نختلف يومًا على الفرق بين لغتَيْنا. بالطبع، إن عرقنا يختلف فالأرمن آريّون والآشوريّون ساميّون. لكنّنا متعايشون معًا.
– كلاكما إيرانيّ.
– نعم نحن إيرانيّون.
– كلاكما إيرانيّ. نحن في إيران لدينا عرب إيرانيّون، أتراك، فرس، أكراد، آشوريون وأرمن إيرانيّون. الآن ما الفرق إن كان الأصل آشوريًا أم أرمنيًا.
– نحن نفتخر أنّنا إيرانيّون.
– بالطبع يجب أن تفتخروا. فكونكم إيرانيّين هو الأساس.
– نحن المسيحيّون راضون عن الجمهوريّة الإسلاميّة كثيرًا. رضًى يفوق الحد.
– حسنًا إنّها لكم.
– في الحقيقة، إنّهم يهتمّون بنا وبلطف يفوق الحد.
– إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة هي للجميع.
– أعتذر لأنّني آخذ من وقتكم الكثير، ولكن حصلت حادثة مهمّة جدًا بالنسبة إلينا، حين سقط الصاروخ المشؤوم على البيت. اختفت حقيبة يد أمّي1. لقد أخذوها إلى مبنى
 

1- يُقال لوالدة الزوج: أمي.
 
 
 
 
358

306

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 المحافظة تلك الليلة. كان فيها بعض القطع الذهبية. حين بحثنا عنها بعد عدّة أيّام، قالوا لنا اذهبوا إلى هناك للحصول عليها. اذهبوا إلى هنا، إلى هناك… إلى أن عرفنا أين هي. حين ذهبنا لاستلام المحفظة، قال لها الجندي يجب أن تذكري القطعات الموجودة في المحفظة واحدةً واحدة. لقد كانت أمّي مصدومة ولم تكن حالتها جيّدة، ولم تكن تذكر أصلًا ماذا يوجد في المحفظة، كانت المحفظة ذاتها ولكنّها لا تذكر بدقّة ما تحتوي، هل هو خاتم أم شيء آخر…

حين جاء معاون المحافظ، سأل الجندي ما الذي تفعله؟ قال: أُريدها أن تُحدّد لي محتويات الحقيبة. قال له: لا، لا تُكرّر هذا العمل ثانية، افتح الحقيبة للسيّدة، وهي ستأخذ ما هو ملكها. 
يشهد الله، كان هناك الكثير من أموال الجيران، لكن أمّي أخذت ما هو لها فقط. قال السيّد المعاون للجندي: “أرأيت، أنا أعرف أنّهم هكذا”. إنّ هذا اللّطف والاهتمام اللّذَين توليهما الجمهورية الإسلاميّة لنا، لا نعرف ما نقول عنه، أهو محبّة أم ثقة، إنّه لأمر يوجب الشكر.
– في النظام الإسلاميّ، في الجمهوريّة الإسلاميّة الأمر كذلك، لا فرق بين من هم تحت راية الجمهوريّة الإسلاميّة. واجبنا نحن من موقع المسؤوليّة في هذا البلد أن نُدافع عن حقوق كلّ فردٍ من الشعب وأن نحميه. حين نُريد أن نُدافع عن حقوق فردٍ ما، لا نسأله عن دينه. لا، إنّه مواطن، ينتمي إلى هذا البلد، وهو ابن هذه العائلة، علينا أن نُدافع عنه، وهذا ما نفعله.
هل سمعتِ يا أمّي. إنّ قائد هذه الدولة يقول إنّ واجبنا الدفاع عن كلّ حقوق الشعب. لا فرق لأيّ دينٍ أنتمي! ولكن الأمر ليس كذلك في كلّ مكان. هكذا يجب أن يكون، ولكنّه ليس كذلك. في الكثير من الأماكن الأمر معكوس. حتى في تلك البلاد حيث خرق ادّعاؤهم للدفاع عن حقوق الإنسان، عنان السماء! هناك إذا كنتِ من الأقليات، فليلعنك الله، حتّى حقوق الناس العاديين الذين يقبلون دينهم، ليست مهمّة، فقط مطالب الأغنياء وأصحاب النفوذ هي حقّ، حتّى لو كانت غير محقّة. بعد فترةٍ قصيرة، أقل من عام، سترين كيف أنّ مئات الآلاف من النساء والرجال والأطفال الأبرياء مثل أبنائك “جيرمن وآغاجان ورامينا” سيقتلون في قلب أوروبا. فقط ذنبهم هو دينهم، لأنّ شعب البوسنة يرغب أن
 
 
 
 
359

307

الرواية التّاسعة عشرة: حقوق الإنسان الحقيقيّة

 يبقى مسلمًا! لم يعترض ذوو اللّباس الأنيق من الأوروبيّين والأمريكيين على القتلة، بل ساعدوهم ودعموهم. في تلك الأيام فقط هذا الرجل الجالس هنا وموالوه هم من رفعوا الصوت عاليًا حتى قدّموا الشهداء كي يساعدوا المظلومين.

وليس هنالك أوضح من قضيّة فلسطين، حيث يتجلّى التاريخ الواقعي لحقوق الإنسان الأمريكيّة. من خلال آلاف النماذج من الأطفال الشهداء، والمصابين والأيتام والأسرى.
لندع هذا! ضيفك قد شرب كوب الشاي ويريد أن يودّعكم. 
– مجدّدًا أُبارك لكم هذا الميلاد المبارك، وحين يأتي والده، أوصلوا سلامي له.
شكرت “كارين” التفات السيّد لزوجها.
– لقد كُنّا نُريد، بهذه المناسبة أن نُكرّمكم ونُقدّركم أنتم كعائلة قدّمت أشخاصًا عدّة قُتلوا واستشهدوا على طريق هذه الثورة وهذا البلد وهذه الحرب.
قدّم لكِ هديةً، كتذكارٍ، وها هو يقف ليذهب.
– ليحفظكم الله. ليحفظكم الله.
أضرحة الشهداء آغاجان أوديشو، جرمن بوركوركيس ورامينا اوديشو في مدافن الآشوريين – طهران
 
 
 

شاهد أيضاً

آداب الأسرة في الإسلام

رابعاً : حقوق الأبناء : للأبناء حقوق علىٰ الوالدين ، وقد لخّصها الإمام علي بن ...