الرئيسية / زاد الاخرة / الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1

الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – ج 1 / الصفحات: ١٦١ – ١٨٠

يذكر صفة اخرى لها صلة بما تقدم {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِمَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ}.فالفئة المؤمنة هي التي رجعت مع الرسول الأكرم، وعندما جاء النداء مرة اخرى بأمر الله لرسوله بالخروج في أثر القوم وأن لا يخرج معه إلا من به جراحة، فنادى مناد: يامعشر المهاجرين والانصار مَن كانت به جراحة فليخرج به ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمدون جراحاتهم ويداونها، فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح. فلمّا بلغ الرسول (صلى الله عليه وآله) حمراء الاسد، وقريش قد نزلت الروحاء قال عكرمة بن أبي جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن الوليد: نرجع ونغير على المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعني حمزة، فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال: نزل محمد وأصحابه في حمراء الاسد يطلبونكم جد الطلب. فرجعوا الى مكة وسميت بغزوة بدر الصغرى.

وهذا الاستعراض الطويل للآيات الكريمة ١٢١ ـ ١٧٤ خير شاهد على ما جرى ودار في هذه الغزوة التي تدل على حنكة الرسول الاكرم في استخبار نيات القوم ومعرفة المنافقين وما يسعون اليه من تثبيط عزيمة المسلمين، كما اتضح من ذلك أن الخروج كان هو الحل الأمثل وان المنافقين ارادوا الايقاع بالمسلمين من خلال البقاء في المدينة والتكاسل عن الخروج والجهاد في سبيل الله.

وأخيراً نشير إلى رواية أن الرسول قال بعد نزول الآية: أما أن الله ورسوله لغنيان عنها، ولكن جعلها الله رحمة لأمتي، من استشارهم لم يعدم رشداً، ومن تركها لم يُعدم غياً”(١).

ثانياً: غزوة الخندق فقد استدل بها على الشورى والزاميتها في موطنين، الاول:

 

 

١- الشورى بين النظرية والتطبيق ٢٧ ـ ٣٠. 

١٦١
في حفر الخندق حيث نزل الرسول عند رأي سلمان الفارسي، والعجيب اعتبار ذلك من الشورى بالمعنى الذي اصطلحوا عليه حيث أنه رأي فرد واحد وليس اكثرية مضافاً الى أنه دليل على أن الرسول (صلى الله عليه وآله) يختار دائماً الرأي الصائب وإن قلّ قائله. ومنه يتضح الجواب عن سائر الموارد التي استشهد بها لمتابعة الرسول لرأي الأكثرية.الثاني: في مداولاته مع عيينة بن حصين والحارث بن عوف لاستجلابهما ومساومتهما على تمر المدينة ورفض سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ذلك. ونزوله عند رأيهما.

والجواب: أنه بعيد عما يدعونه من ولاية الشورى بل أن الرسول الاكرم انما اراد مساومة بني غطفان من أجل التخفيف عن أهل المدينة وازالة الحصار شأنه شأن أي قائد يريد فك الحصار عن قومه، ولكنه عندما رأى عزيمة وثبات الاوس والخزرج لم يجد أي داعي الى مثل هذه المساومة فالموضوع قد تبدل والامر بعيد عن ولاية الشورى.

 

الوجه السابع:

انه توجد حوادث تاريخية تثبت ان الرسول (صلى الله عليه وآله) استشار اصحابه ولم يتبع رأي الاكثرية كما في:

ـ صلح الحديبية حيث تنقل كتب السير ان كثيراً من المسلمين كانوا على خلاف الصلح بينما أصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) على الصلح مع تعنت الكفار ورفضهم ذكر اسم الله تعالى في بداية الصلح واصرارهم على كتابة اسم النبي مع ابيه دون عبارة (رسول الله) ومع ذلك كان يرى ان في الصلح خير المسلمين، مع ان الصلح لم يكن أمراً سماوياً

١٦٢
بمصطلح الوحي حتى تمنع المعارضة، وان كان اصل التوجه للعمرة أمراً إلهياً اما الصلح وما تضمنه من بنود فإنها من تدبير النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله).ـ تأمير زيد بن حارثة في وقعة مؤتة ويدل عليها ما ذكره الرسول الاكرم عند تأمير اسامة حيث خالفه عدد من المسلمين فقال (صلى الله عليه وآله) ” ما تلوموني في تأمير اسامة إلا كما لمتموني في تأمير أبيه زيد.

ففيه اشارة الى مخالفة عدد منهم لتأمير زيد وابنه اسامة فهذا يُظهر أنه (صلى الله عليه وآله) لا يرى نفسه ملزماً بالشورى.

 

الوجه الثامن:

ان آية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} مكية كما ينص عليه المفسرون ومن المعلوم انه لم تكن للمسلمين في مكة دولة أو شأناً عاماً بالمعنى الذي يحتاج فيه الى اعتماد الشورى كتنظيم يستند عليه المسلمون، فاستفادة كون الولاية للشورى مع عدم وجود مورد لها في ذلك الوقت أمر بعيد عن الصواب، خصوصاً اذا لاحظناأن الآية تعدد الصفات الفعلية للمسلمين فهذا يدل على أن هذه الصفة فعليه أيضاً، مضافاً الى أن حاكمية الرسول (صلى الله عليه وآله) في ذلك الوقت بجعل الهي وليست نابعة من تولية المسلمين له وهذا أمر لم يختلف فيه أحد فهذه الامور تدلل على أن المراد من الشورى هو نفس المفاد اللغوي، وهو المداولة الفكرية وأن من صفات المؤمن الاستفادة من خبرات الاخرين وعدم الاستبداد برأيه ولو كان في مسألة خاصة.

وما يذهب اليه البعض في الاستدلال بهذه الآية على أحد صياغات نظرية الشورى مجانبة عن الحق.

 

١٦٣

الوجه التاسع:

مضمون ما ذكره الشهيد الصدر وحاصله:

ان نظرية الشورى بالمصطلح المزعوم تعبر عن نظام حديث في تولي السلطة السياسية في المجتمع وهو سلطة الجماعة، وهو نظام نشأ في القرنين ١٩ و٢٠ الميلادي وكان المجتمع الغربي مهد هذا النظام ومازال حتى الان يتطور بين آونة واخرى وتتعدد صياغاته. ويبقى منه الاطار العام فقط وهو أن الجماعة تحكم نفسها بنفسها أما كيفية هذا الحكم وكيف يتم تداول السلطة وكيف يتم التشريع؟ واسئلة كثيرة اختلف الجواب فيها.

وقد تصل أشكال النظم التي تطبق هذا المبدأ الى ما يزيد على سبعة اشكال تتمركز فى دول العالم الجديد أوروبا وامريكا. وما تعدد هذه الاشكال الا دليل على ما يعثر عليه العقل البشري من سلبيات وثغرات اثناء التطبيق.

وبناء عليه فانه عند نزول القرآن لم يأنس المجتمع المكي بل لم يعرف مثل هذا النظام على العكس كان النظام السائد هو النظام الفردي حيث نجد أن القبيلة هي المجتمع الخاص، وسلطة رئيس القبيلة هي المطلقة ومن غير المعقول أن يقوم الاسلام بتشريع نظام يخالف فيه تماماً النظام السائد آنذاك ولا يبين فيه سوى آية أو آيتين تثبتان الإطار العام بل تثبت العنوان فقط، اما المعنون والطريقة والكيفية فلا نرى لها اثر لا في القرآن ولا في السنة، فيُعلم من ذلك بل يجزم بأن ما ورد في الآيتين الكريمتين لم يكن طرحاً لنظام جديد، وانما أرادت الآيتين أن ترشد الانسان المؤمن الى طريق جديدة في التوطئة ومقدمات التصميم والحزم ويقع في حيز المداولة الفكرية واستجماع المعلومات.

وقد حاول البعض الاجابة من هذا الامر:

ان الدين الاسلامي حينما يصوغ قاعدة فانه يؤطرها بعنوانها العام تاركاً

١٦٤
التفاصيل والجزئيات لكي يتم استنباطها بِما يتوافق مع زمان مسار التطبيق، والسر في هذه الطريقة ان الاسلام لو جعل التفاصيل الجزئية فان القاعدة سوف تكون موافقة لتلك التفاصيل ولشرائط ذلك الزمان ولا تستطيع مواكبة كل الاعصار.ولكن هذه الاجابة مدفوعة من جهة أن هذه القاعدة التي ذكرها وان كانت مقبولة في بعض القواعد إلا ان الشارع لم يكتف فيها أيضاً بذكر العنوان فقط، بل كان يجعل أسساً وضوابط خاصة تمثل الإطار العام للقاعدة التي يريد تطبيقها، أما ان يكتفي بذكر العنوان فقط فهذا مما لا نظير له في الفقه الاسلامي بل لا نظير له في القانون الوضعي. لا سيما في مثل هذه المسألة الخطيرة التي هي دعامة كل المجتمع والأفراد.

وما نحن بازائه في مسألة الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم من هذا القبيل بل ان القول بأن الشارع قد جعل نظرية الشورى يعني ان الشارع مع حكمته قد جعل المجتمع يتخبط في عالم من العشوائية لا تتناسب مع بدء نشأته للدولة الاسلامية التي يريد لها البقاء حتى قيام الساعة.

فمن البعيد عن الانصاف القول ان الشارع يترك تابعيه من دون تأهيل ومن دون أن يعبّد لهم طريق آخر للسلطة والقيادة وذلك من خلال نظرية النص لكن لا بالمعنى المألوف من رئاسة المجتمع القبلي الاستبدادي بل من خلال التنصيص على الفرد الاكمل على الاطلاق والاشبه بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو حكم فردي يقوم على اساس اشراك الناس في مهمات الامور من دون ان يكون لهم السلطة والولاية بل الرقابة والمتابعة.

 

الوجه العاشر:

من الادلة التاريخية الثابتة والتي تدلل على عدم دلالة الايتين على ولاية

١٦٥
الشورى هي طريقة اختيار الخليفة الاول والثاني والثالث.فما جرى في سقيفة بني ساعدة واحتجاج ابي بكر بالقرابة من النبي الاكرم، فإن هذه الجهة تعتمد على أُسس قبلية جاهلية أزالها الإسلام وحاربها إلا أنّهم أعادوا استخدامها خصوصاً اذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما كان قد استعد له تكتّل السقيفة من حشد القبائل المحيطة بالمدينة وايجاد جو من الارهاب بحيث لا يمكن أنْ يجابههم احد.

وهكذا طريقة انتخاب الثاني فإنها كانت بتعيين الاول، أما الآن بعد ما وقع ما جرى فترتفع اصوات لتأول فعله بأنه قد استشار الامة وأنها أوكلته في الاختيار بدليل البيعة التي لا تدل على الشورى المصطلحة بأي نحو كما سوف نشير فيما بعد الى مدى دلالة البيعة فضلاً عن البيعة التي كانت تؤخذ فرضاً ورهبةً ولا يحق لأحد الاعتراض فأين هى الأكثرية وأين هي سلطة وولاية الشورى.

فمن الجهل ان نعتبر المنحى القبلي البدائي الذي ساد هذه الخلافات هو تنظير لنظام عصري وهو نظام سلطة الجماعة.

 

الوجه الحادي عشر:

مع التنزل عن جميع الاشكالات والوجوه السابقة المقتضية لأجنبية دلالة الآيتين عن ولاية الشورى، فإنها سوف تقع في طرف المعارضة مع ايات كثيرة تبين أن الولاية فى الأصل لله عزوجل ثم للرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ومن بعده لطائفة خاصة من الأمة وهم أولوا الأمر الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون وهي آيات كثيرة تامة الدلالة. فهذا إما أن نعتبره تخصيص (لأمرهم) اي ان الولاية والقضاء والتشريع ليس من شؤون المسلمين التي تخضع للشورى بالمعنى المزعوم. أو نقول بتقديم الطائفة الاخرى على آيتي الشورى.

 

١٦٦
أما طوائف الروايات التي استدل بها على نظرية الشورى وعمدتها ما ورد عن امير المؤمنين في بعض احتجاجاته حيث يستند الى الشورى واختيار الأمة. وقبل الدخول في تفصيل هذه الخطب واجوبتها نذكر ثلاث نقاط مهمة:١ ـ أن ما يظهر من كلام الامام مؤيداً به للشورى ومعتبراً أن سلطة الجماعة هو ما أسسه الاسلام في الفقه السياسي هو من باب التنزل والجدل مع الخصم والزامه بما التزم به من نظرية الشورى، حيث إن الامام في كل هذه الموارد كان يواجه من يتشبث بالشورى فهو (عليه السلام) يبين أحقيته حتى على مذهب الشورى.

٢ ـ أن المستدل يأخذ بقسم خاص وقليل من كلام الامام (عليه السلام) بينما نجده يترك القسم الاوفر من كلامه (عليه السلام) الذي يبين أحقيته بموجب النص القاطع. ففي كثير من خطبه يبدأ (عليه السلام) ببيان أحقيته ووجود النص على امامته ثم يتعرض بعد ذلك لاثبات أحقيته على فرض التنزل وغض النظر عن النص، فنلاحظ المستدل يقتطع جزءاً من كلامه ويأخذ بالذيل تاركاً الصدر.

فمع قطع النظر عن هذا التقطيع الذي يؤدي بدلالة السياق نلاحظ انه يجب اعمال المعارضة بين كلا الطائفتين التي تنسب اليه الاستدلال بالشورى والتي يتمسك بها بدلالة النص. لكن المستدل حتى هذه المعارضة نجده يغفل عنها مع كثرتها وان الامام ما كان يترك أي فرصة الا ويبين فيها ذلك.

٣ ـ من الثابت تاريخياً والذي لا مجال لإنكاره أن الإمام (عليه السلام) امتنع عن البيعة لأبي بكر حتى وفاة الصديقة الزهراء، وانه لم يبايع إلا مكرهاً، وهذا يدل على أنه ل يقبل شورى بني ساعدة كأساس لانتخاب الخليفة، فكيف يُسند إليه القول بظرية الشورى مع هذه المخالفة الشديدة.

ومن المصادر التي ذكرت عدم بيعة الإمام للأول:

ـ مسلم في صحيحه كتاب الجهاد باب: ١: ٧٢ / ٥: ١٥٣، الاستيعاب وأسد

١٦٧
الغابة في ترجمة أبي بكر ـ كنز العمال ٣: ١٤٠، أنساب الأشراف ١: ٥٨٦. تاريخ ابن عسكر ٣: ١٧٤ مسند بن حنبل ١: ٥٥، فتح الباري في شرح صحيحة البخاري ٥: ١٤٣. سيرة ابن هشام ٤: ٣٣٨، الإمامة والسياسة ١: ١٢، مضافاً الى المصادر الخاصة التي تطبق على هذا الأمر.ـ فى الخطبة(٢): “هم موضع سره ولجأ أمره وعيبة علمه وموئل حكمه وكهوف كتبه وجبال دينه بهم اقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائص دينه..” ثم يصف آخرين اعداء آل محمد.. “رزعوا الفجور وسقوه الغرور وحصدوا الثبور لا يقاس بآل محمد من هذه الامة أحد، ولا يُسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه ابداً، هم اساس الدين وعماد اليقين إليهم يفيء الغالي وبهم يلحق التالي ولهم خصائص حق الولاية وفيهم الوصية والوراثة الآن اذا رجع الحق الى أهله ونقل الى متنقله”.

وهذه الخطبة كانت اثناء انصرافه من صفين ففيها تصريح أن الحق كان مغتصباً والان قد عاد الى أهله، فهو تنديد بما كان قد جرى سابقاً مما يسمى بالشورى.

ـ وفي الشقشقية: “فيالله وللشورى” فاذا كان هذا تعبيره عن الشورى بالمعنى المصطلح المزعوم وتقريعه لها فكيف يكون قد أقر بالشورى. فالشورى في نظر الامام (عليه السلام) استصواب الرأي في الامر المجهول الحال. “ومتى اعترض الريب فيّ مع الاول منهم حتى صرت أُقرن الى هذه النظائر”. اما اذا كان الامر بيّن ومعالمه واضحة لا غبار عليها فلا حاجة الى استصواب الرأي وما بعد الحق الا الضلال.

ـ وفي خطبته (عليه السلام): “بنا اهتديتم في الظلماء وتسنمتم ذروة العلياء، وبنا أفجرتم عن السرار..” (خطبة ٤).

فبأي مناسبة يتعرض (عليه السلام) لحقه وحقوقه آله المغصوبة.

ـ خطبة ٨٧: “فأين تذهبون وأنى تؤفكون والاعلام قائمة والايات واضحة والمنار منصوبة فأين يتاه بكم وكيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمّة الحق. وهم أعلام

١٦٨
الدين وألسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرأن. وردوهم ورود الهيم العطاش..ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر وأنزل فيكم الثقل الاصغر (اشارة الى حديث الثقلين) قد ركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام.

انظروا اهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم فلن يخرجوكم عن هدى ولن يعيدوكم في ردى فإن بعدوا فابعدوا وان نهضوا فانهضوا ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا لقد رأيت أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فما أرى أحد يشبهه منكم”.

ـ خطبة ١٠٠: “ألا ان مثل أل محمد (صلى الله عليه وآله) كمثل نجوم السماء اذا هوى نجم طلع نجم فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصناع واراكم ما كنتم تأملون”.

ـ خطبة ٧٤ حينما عزموا البيعة لعثمان: “لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة”.

ـ خطبة ١٠٩: “نحن شجرة النبوة ومحط الرسالة ومختلف الملائكة ومعادن العلم وينابيع الحكمة، ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة”.

فهنا يظهر الامام وجود صنفان في المجتمع الاسلامي وهذان تياران ليسا من جهة الدين فقط، بل تياران سياسياً ودينياً.

ـ خطبة ١٥٢: في بيان صفات الله جل جلاله وصفات أئمة الدين:

“قد طلع طالع ولمع لامع وراح رائح واعتدل مائل واستبدل الله بقوم قوماً وانتظرنا الغير انتظار المجدب، وأن الائمة قوام الله على خلقه وعرفائه على عباده ولا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه. وهذا معنى: من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية”.

ـ الخطبة ١٥٤: في فضائل أهل البيت (عليهم السلام):

“فيهم كرائم القرأن وهم كنوز الرحمن ان نطقوا صدقوا وإن سكتوا لم يسبقوا، فليصدق رائد أهله وليحضر عقله وليكن من ابناء الآخرة فإن منها قِدم واليها ينقلب”.

ففيها دلالة على العصمة وهي محصورة بهم.

 

١٦٩
ـ الخطبة ١٧٢: “الحمد لله الذي لا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً، وقد قال قائل: انك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلت: بل انتم والله لأحرص وأبعد وأنا أخص وأقرب، وانما طلبت حقاً لي وانتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه، فلمّا قرعته بالحجة في الملأ الحاضرين هبّ كأنه بُهت لا يدري ما يجيبني. اللهم اني استعديك على قريش ومَن اعانهم فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي على أمر هو لي ثم قالوا: الا أنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحق أن تتركه”..فهل يوجد اصرح من هذا البيان على أحقيته ورفضه للشورى وما يسمى بسلطة الجماعة.

خطبة ١٧٨: “أيها الناس ان الدنيا تغر المؤمّل لها والمخلد لها ولا تَنْفَسُ من نافس فيها، وتغلب من غلب عليها وأيم الله ما كان قوم قط في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم الا بذنوب اجترحوها وإني لاخشى عليكم ان تكون في فترة (والفترة في الاصطلاح المدة الفاصلة بين رسول ورسول بعده) وقد كانت أمور مضت مِلتم فيها ميلة كنتم فيها عندي غير محمودين ولان رُدّ عليكم أمركم انكم سعداء وما علي إلا الجهد ولو أشاء أن اقول لقُلت عفى الله عما سلف”.

وانظر ايضاً الى كتاب (٦٢) لأهل مصر مع مالك الاشتر وكتاب (٢٨) الى معاوية. وفيه يقول: “فاسلامنا قد سمع وجاهليتنا لا ترفع وكتاب الله يجمع لنا وما شذ عنا وهو قوله تعالى: {وأُولُوا الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض فِي كِتَابِ اللّهِ} “.

وما ورد في كتاب سليم بن قيس ص ١٨٢ فى جواب كتاب معاوية حيث طلب منه قتلة عثمان ليقتلهم قال لمن حمل كتاب معاوية: “ان عثمان بن عفان لا يعدوا أن يكون أحد رجلين اما هو امام هدى حرام الدم. وواجب النصرة لا تحل معصيته ولا يسع الأمة خذلانه أو امام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته ولا نصرته فلا يخلو من احدى خصلتين والواجب في حكم الله وحكم الاسلام على المسلمين بعدما يموت امامهم أو

١٧٠
يقتل ضالاً او مهتدياً مظلوماً كان او ظالماً، حلال الدم او حرام الدم، ان لا يعملوا عملا ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلا ولا يبدؤا بشيء قبل ان يختاروا لأنفسهم اماماً عفيفاً عالما ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة.. ان كانت الخيرة لهم ويتابعوه ويطيعوه وان كانت الخيرة الى الله عزوجل والى رسوله فإن الله قد كفاهم النظر في ذلك والاختيار ورسول الله قد رضى لهم إماما وأمرهم بطاعته واتباعه وقد بايعني الناس بعد قتل عثمان وبايعني المهاجرون والانصار بعدما تشاوروا بي ثلاثة أيام وهم الذين بايعوا أبابكر وعمر وعثمان وعقد إمامتهم، ولى ذلك أهل بدر والسابقة من المهاجرين والانصار غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة وان بيعتي كانت بمشورة من العامة فان كان الله جل اسمه جعل الاختيار الى الامة وهم الذين يختارون وينظرون لأنفسهم واختيارهم لأنفسهم ونظرهم لها خير لهم من اختيار الله ورسوله لهم وكان من اختاروه وبايعوه بيعة وبيعة هدى وكان إماماً واجباً على الناس طاعته ونصرته فقد تشاوروا فيّ واختاروني باجماع منهم وان كان الله عزوجل الذي يختار له الخيرة فقد اختارني للامة واستخلفني عليهم وأمرهم بطاعتي ونصرتي في كتابه المنزل وسنة نبيه (صلى الله عليه وآله) فذلك أقوى لحجتي وأوجب لحقي”.فهذه تدل على أن حجاجه بالشورى حجاج تنزيلي وان الشورى يجب أن تكون على ميزان، والميزان هو الضوابط العقلية والشرعية وليست سلطة الجماعة وأهواء الكثرة وانما تكون وظيفة الامة في اكتشاف وجود هذه الصفات والضوابط في المختار فليست الولاية والسلطة للشورى بل هي استكشاف.

ففي هذه الرواية يبين الامام أن البيعة على نحوين بيعة هدى وبيعة ضلال، فالبيعة اذا كانت على الموازين وكان الامام واجداً للشرائط فتكون بيعة هدى أما اذا كانت على خلاف الضوابط فانما تكون بيعة ضلال. ونلاحظ أن البعض اقتطع من هذه الرواية جزءاً استدل به على الشورى تاركاً بقية الرواية التي توضح تمام موقف

١٧١
الامام (عليه السلام).ومما استدل به في المقام ما ورد في شرح النهج للمعتزلي ج ٧ / ٤١ ان طلحة والزبير قالا للامام (عليه السلام): اعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الامور ولا تقطعها دوننا وان تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا. فقال (عليه السلام): “ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه لشاورتكما”.

وقد استدل بها أيضاً على أن الشورى مشروعة في منطقة الفراغ التشريعي حسبما يزعم من وجود ذلك الفراغ ـ.

وهذا الاستدلال ممنوع ـ بيان ذلك:

١ ـ أن لو تقيد الامتناع للامتناع اي امتناع الجواب لامتناع الشرط فالعبارة تقيد أن مشاورتكما قد انتفت لامتناع خلو الواقعة من حكم في كتاب الله والسنة والذي اوقع هذين الشخصين في هذه الملابسة هو ان الخلفاء السابقين على الامام كانوا يستشيرون بعض الصحابة في بعض الأحكام وفي كيفية اعمال المرجحات، أما الإمام فلم يقم بهذا العمل، والسر في ذلك ان الاعتقاد الحق هو انه ما من شيء يقربكم الى الله إلا وقد امرتكم به، وما من شيء يبعدكم عند الله إلا وقد نهيتكم عنه، فالقاعدة ان لا تخلو واقعة من حكم لله إلا أن هذا الحكم قد يخفى على العقول القاصرة غير المطلعة، أما من له احاطة بأحكام الله وسنة نبيه ومن عايش النبي في حلّه وترحاله لا يخفى عليه حكم حتى يحتاج فيه الى مشاورة البعض، نعم قد يكون للمشورة مجال في باب تطبيق الاحكام الكلية على مصاديقها واختيار أفضل الأساليب في كيفية تطبيق الحكم الموجود إلا ان هذا بعيد عن مرام القائل اذ لا تكون الشورى منشئة للحكم حينئذ.

ومما ذكره (عليه السلام) فيه تعريض لمن كان قبله حيث كثر جهلهم بالاحكام الشرعية وليست المسألة بالنسبة اليه (عليه السلام) من باب الاستبداد في شيء.

 

١٧٢
ـ ومما استدل به ايضاً ما أشرنا اليه من محاولة توسط بعض القرّاء بين الإمام ومعاوية والكتاب السادس في نهج البلاغة والجواب عنه مضافاً الى ما مضى وإلى الاجوبة العامة وانه لم يرض بمن بايعه الانصار في سقيفة بني ساعدة انه اشترط لتحقق البيعة “فان اجتمعوا وسموه اماماً” فان الشرط المهم هو حصول الاجتماع المطلق ولا أقل عدم الاعتراض وهذا لم يحصل فيمن سبقه، أما معه (عليه السلام) فقد حصل ذلك الاجتماع ومن سكت فانه لم يعترض كعبدالله بن عمر وابوموسى وسعد بن أبي وقاص. ففي هذا التعبير تعريض بمن يشترط الاكثرية.ـ ومما استدل به قوله (عليه السلام): “اذا كان امراؤكم خياركم وأغنياؤكم سمحائكم وأموركم شورى بينكم فظهر الارض خير لكم من بطنها”.

الظاهر ان هذا النص مقتطع من جواب الامام (عليه السلام) المتقدم لكتاب معاوية، وقد قام الشريف الرضي بتقطيع بعض النصوص لمناسبتها لأبواب مختلفة.

مضافاً الى أنه ذكر عنوانين امراؤكم خياركم وأموركم شورى بينكم فمورد الأمراء غير مورد الشورى وهما من واديان يختلف احدهما عن الاخر، وفي هذه العبارة ايضاً يرد البحث الذي ذكرناه في {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} وان الاضافة لا تعني أن لهم الولاية والسلطة في كل شيء بل ما يضاف اليهم فقد يكون في بعض الصور لا تكون لهم القابلية في البحث في هذا الأمر وهو خارج عن اختصاص الامة، كما يرد فيها نفس البحث في لفظ الشورى وقد ذكرنا انها ندب وارشاد الى صياغة فكرية في كيفية الاسترشاد في الامور المختلفة واستصوابها.

ـ ومما استدل به ما ورد في عيون أخبار الرضا عن الرضا (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله): من جاء يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الامة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه فان الله قد أذن بذلك:

وهذا الحديث لا يدل على مرادهم أيضاً، وذلك لأنه مهما كانت النظرية

١٧٣
كتاب الإمامة الإلهية (بحوث الشيخ محمد السند) – (ج ١) للسّيّد مُحمّد علي بحر العلوم (ص ١٧٤ – ص ١٨٩) 

١٧٤
وعن الرسول (صلى الله عليه وآله): ان القليل من المؤمنين كثير(١). وهذه الروايات واضحة الدلالة في كون المدار هو على الصواب والسداد للأمر بحسب الواقع وعدم القيمة الموضوعية للكثرة بذاتها.ـ ومما استدل به أيضاً الروايات الكثيرة الواردة في فضائل الاستشارة والحث عليها في كتاب الوسائل في كتاب الحج في أبواب أحكام العشرة باب ٢١ ـ ٢٦ ويُلاحظ على الاستدلال:

أ ـ انها واردة بعموم يشمل الامور الفردية الشخصية التي ليس لها بُعد اجتماعي حيث لا توجد سلطة للجماعة على الفرد، فيجب ان يكون معناها الوحداني العام هو الاراءة نحو: “من لا يستشر ندم” “من استبد برأيه هلك ومن شاور الرجال شاركها في عقولها” “ولا ظهير كالمشاورة” “خاطر بنفسه من استغنى برأيه” فحينئذ الاستشارة هي اصابة الواقع والوصول الى نتيجة صائبة، وليس فيها جهة تحكيم سلطة الجماعة أو إرادة خارج إرادة الفرد، بل هي تمد جهة التفكير الانساني بالاراء الاخرى فتمكنه من استكشاف اصوب الاراء.

ب ـ ان الروايات المذكورة تورد صفات في المستشار من الورع والعقل و”ان مخالفة الورع العاقل مفسدة في الدين والدنيا” وانها تارة تكون نافعة وتارة ضارة، واذا كانت بمعنى سلطة الجماعة فأي معنى للضرر والنفع، فالحق أنها نمط من التفكير، وفي بعض الروايات يشترط ان يكون المستشار حراً متديناً.

فلا ارتباط بين هذه الشرائط مع الحقوق العامة وانما تريد الروايات بيان مَن له اهلية الاستضاءة بخبراته وتجاربه، وان يكون رأيه الذي يدلي به خالصاً ومحضاً عن النزعات الاخرى. ولذا ورد “من استشار اخاه فلم ينعمه محض الرأي سلب الله

 

١- بحار الانوار: ٢: ٢٦٥ ح ٢١، ٢٢، ٢٣، ٢٦. 

١٧٥
عزوجل رأيه”.ـ ومما استدل به ايضاً: “اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا احدهم”.. ونحوها مما ورد في مصادر غير الإمامية كسنن أبي داود ٢: ٣٤.

وهذه الروايات لم يقل فقهاؤكم فيها بالوجوب، بل قالوا: انها من باب الندب فينظر الى ارجح القوم عقلاً فيؤمره ويستهدي برأيه، وفي كتاب الوثائق السياسية ص ١٢٠ في معاهدته مع أهل مصر “وان ليس عليكم امير إلا من انفسكم او من اهل رسول الله (صلى الله عليه وآله) “.

وواضح منها ان الرسول قد خوّلهم في ذلك الظرف الزماني والجغرافي المكاني على أن يكون الأمر بيدهم في اتخاذ امير عليهم، ومفاده يدلل على أن الامر لا يكون بيدهم ابتداءً بل بتخويل من الرسول.

ويلاحظ في هذه الطوائف أنها وردت بصيغ الاستشارة الاستفعال والمشورة مفعلة والشورى فعلى وهي كلها بمعنى واحد لاتحاد المادة. وفي نهاية هذه الروايات نذكر روايات صحيحة تؤكد ما ذكرناه من معنى الاستشارة:

١ ـ صحيحة معمر بن خلاّد قال: هلك مولى لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) يقال له سعد، فقال: أشر علىّ برجل له فضل وأمانة، فقلت: انا أشير عليك؟ فقال ـ شبه المغضب ـ: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد.

٢ ـ صحيحة الفضيل بن يسار قال: استشارني ابوعبدالله (عليه السلام) في أمر فقلت: اصلحك الله مثلي يشير على مثلك؟ قال: نعم اذا استشرتك.

٣ ـ في موثقة الحسن بن جهم قال: كنا عند ابي الحسن الرضا (عليه السلام) فذكر أباه (عليه السلام) فقال: ان عقله لا توازن به العقول وربما شاور الاسود من سودانه فقيل له تشاور مثل هذا؟ فقال: إن الله تبارك وتعالى ربما فتح على لسانه. قال: فكانوا ربما أشاروا عليه بالشيء فيعمل به من الضيعة والبستان.

 

١٧٦
٤ ـ وفي النهج ان الامام (عليه السلام) قال لابن عباس وقد اشار عليه في شيء لم يوافق رأيه: عليك ان تشير عليّ فإذا خالفتك فاطعني(١).فالخلاصة التي نخرج بها من هذه الروايات الكثيرة هي أن المراد من الاستشارة والشورى والمشورة، هو المداولة الفكرية للوصول الى نتيجة أكثر دقة واقرب الى الصواب لا ان للمستشار سلطة وولاية على المستشير.

ونختم الكلام حول هذه الطائفة بالحديث حول قوله تعالى:

{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيَما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} فالآية تتناول قضية مهمة وتعالج وظيفة من الوظائف التي تهم المجتمع وهي وظيفة القضاء، وهي من الوظائف المشتركة بين افراد المجتمع حاكماً ومحكوماً فيجب أن يشترك الجميع في تطبيقها والعمل بها ولا ينفع الالتزام من طرف واحد.

وببيان آخر نشير إلى ان الوظائف والتكاليف سواء الاجتماعية او العبادية على نحوين: أحدهما ما يقوم به فرد واحد كما في الصلوات والعبادات المختلفة. والنحو الثاني: الوظائف المشتركة كما في صلاة الجمعة حيث لا يكفي وجود الامام العادل لاقامتها بل يجب أن يتواجد افراد المجتمع لاقامتها، ويقع على عاتق كل طرف منهم قسم من اداء هذه الوظيفة المهمة السياسية العبادية، وهكذا الجهاد فهو وظيفة مشتركة بين الافراد والقائد، وهكذا في كثير من الوظائف التي تهم الاجتماع فلابد من اجتماع واتحاد ارادات في الأطراف المختلفة لأداء هذه الوظيفة والقيام بالتكليف المراد. والقضاء الوارد في الآية الكريمة من هذا القبيل فإن الرسول الاكرم هو المنصوب من قبل الله قاضياً وحاكماً فيما شجر بين المسلمين،

 

١- وسائل الشيعة: باب ٢٤ من ابواب احكام العشرة من كتاب الحج، الحديث: ١ و٢ و٣ و٤. 

١٧٧
لكن التحقق الخارجي لهذه القضية لا يكون إلا اذا التزم المسلمون بذلك وهي وظيفتهم إذ عليهم واجب الرجوع الى الرسول فيما شجر بينهم وعليهم الالتزام بما يحكم به، وهذا لا يعني أن رجوعهم اليه تنصيب منهم له (صلى الله عليه وآله) ولا انه الذي اعطاه صلاحية القضاء، بل التنصيب وصلاحية القضاء هي من عند الله عزوجل وهذا مما اتفق عليه كل المسلمين فليس المراد من (يحكموك) هو انشاء منصب الحكومة لك، بل يعني اقدارك خارجاً تكويناً ومعاونتك على تنفيذ قضاءك وفصلك للخصومات بينهم.ونفس المعنى الوارد في الآية الكريمة يذكر في مسألة الشورى وألسنة بعض الروايات التي وردت بها صيغة: “ولاّني المسلمون الامر بعده” “فانّ ولّوك في عافية…” “ان تولوها علياً”. فهو لا يعني انشاء الامة للولاية وتنصيبهم للوالي بل هي في صدد وجود واجب وتكليف استغراقي على كل أفراد المجتمع بالرجوع لمن نصبه الله عليهم والياً وحاكماً، فالانصياع لاحكامه والانقياد لأوامره وظيفة افراد المجتمع، فكل من الطرفين يتحمل عبئاً من المسؤولية وشطراً منها.

ومن هنا يمكننا ان نعود لاية: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} فنضيف اشكالاً مهماً الى الاشكالات السابقة وهو أن الامر المهم المسند الى المجموع يختلف تحديده ونمطه حسب نوعه وماهيته، فاذا كان الأمر يشمل مسألة الولاية والحاكمية فذلك بمفرده لا يدل على سلطة الأمة في امر الولاية بل يبقى السؤال والاجمال أنه ما هو طبيعة الامر المهم المسند اليهم وما هي وظيفتهم اتجاهه هل بنحو الفاعلية والاصدار والتنصيب أم بنحو القابلية والمتابعة والإعانة كأيدي وسواعد للوالي المنصوب من الشريعة المقدسة، أو ان الاية مهملة من هذه الجهة؟!

والمعهود في الشرايع السماوية كون دور المجتمع هو القبول والانصياع وقد جاءهم التأنيب على التقصير فى ذلك {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ

١٧٨
اسْتَكْبَرْتُمْ}.فتقاعسهم عن اقامة صرح الهداية واستكبارهم عن متابعة الرسول سبب توجيه هذا الذم والتوبيخ للمجتمع.

وهذا هو طبيعة كل فعل مشترك بحيث يكون صدوره من طرف على نحو الفاعلية ومن طرف آخر على نحو القبول والانصياع. ومن هنا عندما يخاطب بعض الأئمة (عليهم السلام) الناس بأنكم وليتمونا فهو صحيح من الجهة والحيثية التي ذكرناها وهي انكم عملتم بوظيفتكم التي أوجبها الله عليكم وهي الرجوع الينا، والامام علي (عليه السلام) في رواية سليم بن قيس يذكر كلا الطريقين ان كانت الخيرة للامة وان كانت الخيرة لله. وأنه الحق فالامة قد عملت بوظيفتها من الايتمام وإعانة وتمكين وليّ وخليفة الله.

فهذان خطان متقابلان أحدهما يسند الامر للأمة على نحو يكون لها الولاية وهو ما رفضناه منذ بداية البحث والاخر أن الامر بيد الله يجعله حيث يشاء وعلى الامة تطبيق ذلك خارجاً بنحو القبول والانصياع لأوامر من نصبه الله. وتمكينه من نفوذ قدرته التشريعية والتنفيذية والقضائية.

وعلى ضوء ذلك اذا فسرنا (امرهم) بهذا النحو يكون كيفية تقبل هذا الامر وكيفية القيام بهذه الوظيفة المهمة تكون بالتداول والتشاور، والانصياع والمتابعة للقائد المنصوب ويجب أن يكون برضاهم.

وقد ورد عن الصادق (عليه السلام): ان الأئمة أهل العدل الذين امر الله بولايتهم وتوليتهم وقبولها والعمل لهم فرض من الله(١).

وبهذا يتضح تمام المراد من آيات وروايات الشورى.

 

 

١- دعائم الاسلام: ٢: ٥٢٧، الارشاد ص ١٨٥. 

١٧٩
وقد ذكرت بعض الاشكالات:١ ـ انه لو كان المراد من الشورى هو المداولة الفكرية فقط من دون لزوم اتباعهم فان عقد الاستشارة في الامور المهمة سوف يؤدي أوّلاً الى عدم تفاعل المستشارين في ابداء الرأي. وثانياً سوف يخلق مشكلة اجتماعية حيث تتعدد الاراء ولن يكون هناك حسم لهذا الامر المهم، بخلاف ما اذا قلنا بولاية الشورى والاكثرية فسوف تكون ضابطة وميزان الاكثرية هي لحسم مثل هذه المشاكل الاجتماعية الهامة.

والجواب عن هذا الاشكال يكون بملاحظة التطور الحاصل في حضارات المجتمع البشري منذ بداية تَكوّن أول اجتماع من الاسرة الى القبيلة الى القرية الى البداوة الى التحضر والتمدن، وقد تعددت وسائل الاتصال بين أفراد الانسان خلال فترات التطور هذه، حتى أصبح مجتمع القرن العشرين والواحد والعشرين الميلادي قد طوى حضارة التكنولوجيا والتصنيع وحضارة الذرة، فانتهى به المطاف حالياً الى حضارة المعلومات من الارتباط والاتصالات، والهدف من جعل الارتباط والاتصال هو محور حضارة هذا العصر هو سرعة انتقال المعلومات والأفكار بين أفراد الإنسان، وهذا يدلل أن أحد ابرز وسائل السيطرة هي الهيمنة على المعلومات واستقصاء البحث. والقرآن الكريم قبل ما يزيد على الالف عام ندب الى هذا الأمر المهم، وأن يكون القائد مهيمناً على افكار الناس جامعاً لمعلوماتهم ومستمعاً لارائهم فهذا منهج مهم في حد ذاته لا يمكن الاستهانة به.

أما بالنسبة للنقطة الثانية فقد عولجت من جهتين، الاولى: ان أحد ثمار الشورى هو كون الجميع على مستوى من الوعي الثقافي والمعلوماتي بحيث يستطيع المشاركة فيما يهم المجتمع، وهذا أمر يقفز بالمجتمع على طريق الرقي، وبعد استقصاء الاراء المختلفة سوف يتضح لدى المستشير ولدى الاطراف الرأي المتين

شاهد أيضاً

قراءة القرآن وآداب تلاوته ومقاصده

الدرس السابع عشر: تفسير سورة الجمعة     أهداف الدرس على المتعلّم مع نهاية هذا ...