المقاومة تعمل على المواجهة الجراحية المدروسة التي تمنع استنزاف قواها، وتعمل على أن يكون صمودها خطوة نحو نصر جديد.
في خطابه في 3 تشرين الثاني/نوفمبر أكد السيد حسن نصر الله أن الانتصار على العدو الصهيوني لن يكون بالضربة القاضية، ولكن بالنقاط. خصوم محور المقاومة رأوا في هذا الطرح محاولة للتهرب من الدخول في المواجهة الشاملة، وتخلياً عن المقاومة في غزّة. تتالت الأحداث وصولاً إلى الهدنة لتثبت أن ما قاله السيد حسن نصر الله كان تعبيراً عن رؤية استراتيجية للمعركة في مرحلة تحوّلها من الدفاع إلى الهجوم، واعتماد تكتيك على الأرض يضمن عدم استنزاف قدرة المقاومة منذ الجولة الأولى.
انتصرت المقاومة في الجولة الأولى بالنقاط؛ النقطة الأولى كانت بالهجوم الذي قامت به في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ونتائجه على مستوى خلخلة البنية العسكرية لـ”جيش” الاحتلال، وضرب مشروع “الدولة اليهودية” التي تشكل ملاذاً آمناً ليهود العالم بحماية العالم الرأسمالي.
كانت صور المستوطنين والجنود الهاربين من المستوطنات كافية ليدرك الصهاينة قبل غيرهم أن مشروعهم الاستيطاني في فلسطين آخذ بالأفول. هذا ما دفع الكاتب الصهيوني أمنون لورد إلى كتابة مقال على موقع “إسرائيل اليوم” يقول فيه: ” ليس للجيش الإسرائيلي مفر غير العودة إلى القتال… لن يكون لإسرائيل وجود إذا ما بقي خلف الحدود جيش إرهاب أبدى رغبته الإبادية.”
حقق محور المقاومة النقطة الثانية بدخوله التدريجي والمدروس في المعركة. كانت البداية بمشاركة المقاومة الإسلامية اللبنانية بقيادة حزب الله، والتي شكلت ضغطاً عسكرياً على “جيش” العدو، ودفعته إلى توجيه ثلث عديده لحماية حدود فلسطين الشمالية، ثم بتصعيد عمليات استهداف مواقع العدو وآلياته وأفراده مع تصاعد العمليات العسكرية في غزّة.
وسّعت المقاومة العراقية نطاق العمليات باستهداف القواعد العسكرية الأميركية في سوريا والعراق، ورغم محدودية عدد الإصابات بين الجنود الأميركيين، فإن استمرار العمليات كان تحذيراً جدياً من إمكانية التصعيد، واستخدام صواريخ ذات قوة تفجيرية أكبر مثل صاروخ “بركان” الذي استعملته المقاومة اللبنانية تجاه موقع “برنيت” الصهيوني.
جاء الدخول اليمني من الباب العريض بإرسال الصواريخ المجنحة في اتجاه مدينة “إيلات”، ثم الانتقال بالحرب إلى مستوى دولي باحتجاز السفينة الإسرائيلية في باب المندب، الأمر الذي يهدد انسياب التجارة العالمية عبر هذا المعبر الذي يمر عبره ثلث هذه التجارة العالمية.
النقطة الثالثة كانت بدخول الضفة الغربية المعركة منذ اليوم الأول، رغم التعتيم الإعلامي المتعمد من جانب الصهاينة، وشكلت المواجهات والاشتباكات التي عمّت كل مدن الضفة الغربية ضغطاً هائلاً على “جيش” العدو، الذي اضطر إلى تسليح قطعان المستوطنين لمساعدته على مواجهة الأوضاع في الضفة الغربية.
تجاوز عدد الشهداء في الضفة الغربية 245 شهيداً، ما يشير إلى ضراوة المعارك التي اضطر “جيش” العدو إلى خوضها في المدن والمخيمات. هذه المعارك إضافة إلى استدعاء أعداد كبيرة من الاحتياط أدت إلى تعطل عجلة اقتصاد “دولة” العدو، وكبّدته خسائر اقتصادية تضاف إلى خسائر الحرب نفسها.
تمثلت النقطة الرابعة في رد فعل الشارعين العربي والعالمي. التظاهرات التي اجتاحت شوارع المدن العربية أجبرت الكثير من الحكومات المنخرطة في عملية التطبيع على تبني مواقف متشددة وصلت حد سحب سفرائها من “تل أبيب” وطرد سفراء الكيان، وتجميد بعض الاتفاقات مع العدو كما فعل الأردن، وكذلك سددت ضربة قاتلة لمشاريع التطبيع التي كانت قيد التنفيذ، لا سيما بين الكيان والمملكة السعودية.
في السياق نفسه، يمكن القول إن مسار التطبيع بأكمله قد دخل في نفق مظلم حتى لو لم تعلن أي دولة من الدول المطبعة انسحابها من الاتفاقيات مع الكيان الصهيوني. عالمياً، غصّت شوارع معظم المدن الغربية بالتظاهرات والمسيّرات التي استنكرت العدوان الصهيوني الهمجي على غزة.
لم تكتف تلك التظاهرات برفع شعار “أوقفوا إطلاق النار الآن” لكنها تبنت الرواية العربية للصراع بالحديث عن احتلال مستمر منذ 75 عاماً، وعن مجازر تتجاوز ما فعلته النازية. هذا إضافة إلى قيام دول من أميركا اللاتينية بقطع علاقاتها مع الكيان، واضطرار دول غربية مثل إسبانيا وبلجيكا إلى التراجع عن الموافقة الداعمة للكيان الصهيوني من دون قيد أو شرط، وصولاً إلى ما قاله مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بأن حماس ليست تنظيماً إرهابياً ولكنها فكرة لا يمكن القضاء عليها، وتأكيده أن ما قامت به في السابع من أكتوبر لا يبرر العدوان الإسرائيلي على غزّة والضفة الغربية.
جاءت الهدنة بشروط المقاومة، لتعلن تحقيق المقاومة للنقطة الخامسة، وتحقيق الانتصار في هذه الجولة من الصراع مع الكيان الصهيوني. عبرت الهدنة عن رضوخ العدو للمقاومة، وتنازله عن جميع الشروط التي أعلنها في بداية المعركة. ترسخ الانتصار بمشاهد إطلاق سراح الأسرى من المستوطنين، والتي رسخت صورة حماس القوية والمسيطرة على الأرض في جميع أنحاء القطاع بما في ذلك شمال القطاع.
من ناحية، أكدت على الأخلاق الثورية الإنسانية التي يتمتع بها مقاتلو المقاومة والتي دفعت الأسرى أنفسهم إلى إرسال رسائل تقدير لآسريهم، ودفعت العدو نفسه إلى منع هؤلاء الأسرى من الحديث للإعلام عن فترة أسرهم تحت طائلة العقوبة بالسجن. على الطرف الآخر، كانت مشاهد المحررين الفلسطينيين وهم يعودون إلى منازلهم وسط فرحة عارمة في مدنهم وقراهم، ومنظر الجنود يقتحمون منازل الأسرى لمنع الاحتفالات، رغم اضطراره إلى الامتثال للقوائم التي وضعتها المقاومة. كانت تلك الصور بمنزلة تمريغ لأنف الاحتلال أمام جمهوره، وإعلان قبوله فكرة الهزيمة أمام المقاومة في الشمال والجنوب.
لم تنته الحرب، لكننا كسبنا الجولة الأهم في تحويل مسار المعركة من معركة دفاعية بحتة إلى معركة هجومية. عاد “جيش” العدو إلى القتال في جولة جديدة، أعلن عنها المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي.
جولة جديدة بشروطها وأهدافها سواء من جهة العدو أو المقاومة. فالعدو لا يملك إلا حلاً وحيداً وهو استعمال قوته الغاشمة بحدودها القصوى ضد المقاومة وعلى جميع الجبهات، مدعوماً بتدخل مباشر من الولايات المتحدة كما حصل في اليمن والعراق قبيل الهدنة. المقاومة تعمل على المواجهة الجراحية المدروسة التي تمنع استنزاف قواها، وتعمل على أن يكون صمودها خطوة نحو نصر جديد. المقاومة قادرة على تحقيق الانتصار، لكن بدعم من الذين يؤمنون بالمقاومة فكراً وممارسة.