ربما لم يكن في بال من خطط لـ”عملية البيجر” أن المقاومة ستخرج منها أقوى بكثير مما كانت عليه قبل الثالثة والنصف من عصر الثلاثاء، ذلك أنه لم يفهم إلى الآن رغم عقود المواجهة المفتوحة -بما فيها من مبارزة عقائدية وصراع عسكري واشتباك أمني- طبيعة هذه المقاومة وانصهارها ببيئة حاضنة وملاصقة مهما بلغت التهديدات التي خبرت كيف تحولها إلى فرصة فانتصار..
في الجنوب وعلى طول الطرقات الممتدة بين القرى، وبعد انتشار المعطيات حول تعرض أجهزة البيجر التي يستخدمها مدنيون لانفجارات أدت إلى إصابات، انتشر الناس في القرى وعلى طرقاتها، هذا يفتح الطريق لسيارة إسعاف، وهذا يستقل سيارته متجهًا إلى المستشفى للتبرع بالدم من دون إعلانٍ عن الحاجة لذلك حتى، وذاك يحاول أن يطمئن أهل جريح إلى أنه بخير وسيعود بعد بعض الوقت، حتى تواتر إلى مسمعي صوت أحدهم وهو يتحدث إلى مدير أحد المستشفيات: أنا دارس تمريض وجاي ساعدكم!
كل شيء هنا كان كخلية نحل تعود عند الغروب إلى قفيرها، ولكن الغروب كان بمنظار هؤلاء أشبه بليلٍ صعب سيمر كما مرّت سنين عجافٌ من ذي قبل، من صورها الجميلة على صعوبتها، أن جرحى المقاومة كانوا يُنقلون على السلالم بين الأودية من أجل أن يعالجهم مختص في الطب العربي، يومها لم يكن لدى المقاومة سوى قلوب أهلها لتلجأ إليها، وبعضٌ من طلقات وفتات خبز يابس، يومها تقاسمت فتات الخبز مع الناس، هؤلاء أنفسهم من جاءأبناؤهم وأحفادهم بالأمس ليردوا جميل فتات الخبز، ويفرشوا قلوبهم لمن قطّعت العبوات الصغيرة أطراف أصابعهم أو أصابتهم بجروح أو أودت إلى استشهادهم؛ بهذا يُختصر المشهد جنوبًا، نعم، كبرت المقاومة مع الوقت ولكنها ما زالت تتخذ من قلوب الناس منازل، وما زالت تقاسمهم رصاصات السني العجاف التي حولتها إلى قدرات هائلة أحالت “إسرائيل” من عدو يتفاخر بالقتل في ساحات القرى، إلى عدو هرِم ما عاد يجرؤ على القتل إلا متسترًا..
هذا العدو أصيب في مقتل بالأمس، لما تدافع الناس حول مقاومتهم، كلٌ يلبي الحاجة وفق ما يستطيع، مستشفيات المنطقة اتصلت مع البلدات والمدن بجسر من المسعفين والمتطوعين، فرق الدفاع المدني في الهيئة الصحية كانت في المقدمة، نشرت أطقمها المنتشرة على امتداد المنطقة رغم أنها تواصل جهوزيتها عند الحافة منذ بداية العدوان الحالي، فعملت على نقل المصابين إلى المراكز الطبية وفق ما أشار إليه مدير مديريتها في منطقة جبل عامل الأولى عبد الله نور الدين في حديث لموقع العهد الإخباري، والذي قال إن العمل كان يجري على خطين، الأول وهو نقل الحالات في المرحلة الأولى إلى المستشفيات لتقييم حالتها، والثاني نقل الحالات التي تحتاج لجهد طبي إضافي إلى مستشفياتٍ خارج المنطقة، ولكن نور الدين يعود ويؤكد أنه الحدث ورغم حجمه، يأتي في سياق الاعتداءات المستمرة على لبنان منذ قرابة العام، ولن يقف حائلًا أمام استمرارنا في خدمة أهلنا مقابل همجية العدو وإجرامه.
الموقف نفسه أيضًا عبر عنه إخوة الدم والموقف والمسار، في جمعية الرسالة للإسعاف الصحي الذين كانوا أيضًا بلسمًا يداوي جراح المجاهدين، إذ أشار رئيس قسم التدريب والإسعاف في مفوضية جبل عامل في جمعية الرسالة للإسعاف الصحي المسعف محمد نصر الله إلى أنهم مع أول دقائق الاعتداء عززوا من مستوى جهوزية فرقهم التي تحركت على أعلى المستويات لتلبية حاجة إخوانهم المصابين، فنقلوا الحالات إلى المستشفيات في المنطقة وخارجها، وافتتحوا مستشفيات ميدانية لتعزيز القدرات الاستيعابية للمستشفيات العاملة في الجنوب.
وقال نصر الله في حديث لموقع العهد الإخباري، إنه نظرًا للضغط الكبير الذي تعرضت له المستشفيات التي كانت تعمل بكامل قدراتها الاستيعابية، قمنا بإنشاء مستشفى ميداني أمام طوارئ مستشفى جبل عامل في صور لاستقبال الحالات المتوسطة والبسيطة، كما استحدثنا مستشفى ميدانيًا في قانا ومستشفى آخر خارج المنطقة في بيروت، فيما عملنا على تنسيق تام مع كل الجمعيات التي كانت تعمل على الأرض من أجل إنقاذ إخواننا الجرحى وعلاجهم.
وإلى هذه الخطوات الجبارة التي كانت في الواقع تمسح آثار الاعتداء النفسية في المقاومين المصابين، ضجت وسائل التواصل في الجنوب بالنداءات الداعية لأوسع حملات تبرع بالدم، قبل أن تنطلق روح البذل لتصل إلى ما هو أبعد من ذلك، فانتشرت الرسائل التي أعلن أصحابها عن التبرع بأعضائهم من أجل الوقوف إلى جانب المقاومة الإسلامية، وليس عيسى شعبان الذي تحدث لموقع العهد في هذا الخصوص سوى واحد من الآلاف الذين حارت أنفسهم
كيف يؤدون رسالة الوفاء للمقاومة، فأكد على أنه وضع عينيه وكليتيه وكل ما يحتاجه الجرحى من جسده في تصرف الجهات الطبية المعنية، لأن أدنى درجات رد الجميل لهؤلاء على ما صنعوه من تاريخ طويل من العزة والكرامة لشعبنا هو بذل الأنفس تجاههم.
هذه صورة عن الإنجاز الذي تحقق، ولكنه تحقق لصالح المقاومة ومشروعها، فالصورة في الجنوب وغالبية المناطق اللبنانية كانت جليّة لا لُبس فيها وتؤكد انتصار المقاومة على إرادة العدوان من خلال ملحمة شعبية نجحت في امتحان قياس مستوى الالتفاف حولها، وتخطته إلى درجة البذل في سبيل احتضانها والإصرار على التمسك بخياراتها، وأسقطت كل الرهانات التي كانت صفحات الإعلام المأجور تدفع نحوها -بمختلف أساليب الضغط والتهويل- أقله طوال أحد عشر شهرًا من حرب إسناد غزة. أمس انتصرت المقاومة مجددًا بالتفاف أهلها حول دمها النازف في طرقات القضية، وكتبت في جدول عطائها موعدًا جديدًا من مواعيد تخطيها للعقبات القاتلة، وتاريخ جديد، للصدفة أنه في أيلول.. ولأيلول حكاية ثبات فانتصار!