الرئيسية / شخصيات أسلامية / من حياة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام (02)

من حياة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام (02)

لمكونات التربوية
وتوفرت في سبط الرسول ( ص ) وريحانته الإمام الحسين ( ع ) ،
جميع العناصر التربوية الفذة التي لم يظفر بها غيره ، فأخذ بجوهرها ولبابها
وقد أعدته لقيادة الأمة ، وتحمل رسالة الاسلام بجميع أبعادها ومكوناتها ،
كما أمدته بقوى روحية لا حد لها من الايمان العميق بالله ، والخلود إلى
الصبر على ما انتابه من المحن والخطوب التي لا يطيقها أي كائن حي من
بني الانسان .
أما الطاقات التربوية التي ظفر بها ، وعملت على تقويمه وتزويده بأضخم
الثروات الفكرية والاصلاحية فهي :

 
الوراثة :
حددت الوراثة بأنها مشابهة الفرع لاصله ، ولا تقتصر على المشابهة
في المظاهر الشكلية وإنما تشمل الخواص الذاتية ، والمقومات الطبيعية ، كما
نص على ذلك علماء الوراثة وقالوا : أن ذلك أمر بين في جميع الكائنات
الحية فبذور القطن تخرج القطن ، وبذور الزهرة تخرج الزهرة ، وهكذا
غيرها ، فالفرع يحاكي أصله ويساويه في خواصه ، وأدق صفاته ، يقول
( مندل ) :
” ان كثيرا من الصفات الوراثية تنتقل بدون تجزئة أو تغير من أحد
الأصلين أو منهما إلى الفرع . . . ” .
وأكد هذه الظاهرة ” هكسلي ” بقوله :
” إنه ما أثر أو خاصة لكائن عضوي إلا ويرجع إلى الوراثة أو إلى
البيئة فالتكوين الوراثي يضع الحدود لما هو محتمل ، والبيئة تقرر أن هذا
الاحتمال سيتحقق ، فالتكوين الوراثي اذن ليس إلا القدرة على التفاعل مع
أية بيئة بطريق خاص . . . ” .
ومعنى ذلك أن جميع الآثار والخواص التي تبدو في الأجهزة الحساسة
من جسم الانسان ترجع إلى العوامل الوراثية وقوانينها ، والبيئة تقرر وقوع
تلك المميزات وظهورها في الخارج ، فاذن ليست البيئة إلا عاملا مساعدا
للوراثة ، حسب البحوث التجربية التي قام بها الاختصاصيون في بحوث
الوراثة .
وعلى أي حال فقد أكد علماء الوراثة بدون تردد أن الأبناء والأحفاد
يرثون معظم صفات آبائهم وأجدادهم النفسية والجسمية ، وهي تنتقل إليهم
بغير إرادة ولا اختيار ، وقد جاء هذا المعنى صريحا فيما كتبه الدكتور
” الكسيس كارل ” عن الوراثة بقوله :
” يمتد الزمن مثلما يمتد في الفرع إلى ما وراء حدوده الجسمية . .
وحدوده الزمنية ليست أكثر دقة ولا ثباتا من حدوده الاتساعية ، فهو
مرتبط بالماضي والمستقبل ، على الرغم من أن ذاته لا تمتد خارج الحاضر . . .
وتأتي فرديتنا كما نعلم إلى الوجود حينما يدخل الحويمن في البويضة . ولكن
عناصر الذات تكون موجودة قبل هذه اللحظة ومبعثرة في أنسجة أبوينا
وأجدادنا وأسلافنا البعيدين جدا لأنا مصنوعون من مواد آبائنا وأمهاتنا
الخلوية . وتتوقف في الماضي على حالة عضوية لا تتحلل . . . وتحمل في
أنفسنا قطعا ضئيلة لاعداد من أجسام أسلافنا ، وما صفاتنا ونقائصنا إلا
امتداد لنقائصهم وصفاتهم . . . ” ( 1 ) .
وقد اكتشف الاسلام – قبل غيره – هذه الظاهرة ، ودلل على
فعاليتها ، في التكوين النفسي والتربوي للفرد ، وقد حث باصرار بالغ على
أن تقوم الرابطة الزوجية على أساس وثيق من الاختيار والفحص عن سلوك
الزوجين ، وسلامتهما النفسية والخلقية من العيوب والنقص ، ففي الحديث
” تخيروا لنطفتكم فان العرق دساس ” وأشار القرآن الكريم إلى ما تنقله
الوراثة من أدق الصفات قال تعالى حكاية عن نبيه نوح : ” رب لا تذر
على الأرض من الكافرين ديارا . إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا
إلا فاجرا كفارا . ” ( 1 ) فالآية دلت بوضوح على انتقال الكفر والالحاد
بالوراثة من الآباء إلى الأبناء ، وقد حفلت موسوعات الحديث بكوكبة
كبيرة من الاخبار التي أثرت عن أئمة أهل البيت ( ع ) وهي تدلل على
واقع الوراثة وقوانينها وما لها من الأهمية البالغة في سلوك الانسان ، وتقويم كيانه .
على ضوء هذه الظاهرة التي لا تشذ في عطائها نجزم بأن سبط الرسول
صلى الله عليه وآله قد ورث من جده الرسول ( ص ) صفاته الخلقية
والنفسية ، ومكوناته الروحية التي امتاز بها على سائر النبيين ، وقد حدد
كثير من الروايات مدى ما ورثه هو وأخوه الإمام الحسن من الصفات
الجسمية من جدهما النبي ( ص ) فقد جاء عن علي ( ع ) أنه قال : ” من
سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله ( ص ) ما بين عنقه وشعره
فلينظر إلى الحسن ، ومن سره أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله ( ص )
ما بين عنقه إلى كعبه خلقا ولونا فلينظر إلى الحسين ” ( 2 ) وفي رواية
أنه كان أشبه النبي ما بين سرته إلى قدمه ( 3 ) وكما ورث هذه الظاهرة
من جده فقد ورث منه مثله وسائر نزعاته وصفاته .

 
الأسرة :
الأسرة ( 1 ) من العوامل المهمة في ايجاد عملية التطبيع الاجتماعي ،
وتشكيل شخصية الطفل ، واكسابه العادات التي تبقى ملازمة له طوال
حياته ، فهي البذرة الأولى في تكوين النمو الفردي ، والسلوك الاجتماعي ،
وهي أكثر فعالية في ايجاد التوازن في سلوك الشخص من سائر العوامل
التربوية الأخرى ، فمنها يتعلم الطفل اللغة ، ويكتسب القيم والتقاليد الاجتماعية .
والأسرة إنما تنشأ أطفالها نشأة سليمة متسمة بالاتزان والبعد عن الشذوذ
والانحراف فيما إذا شاع في البيت الاستقرار والمودة والطمأنينة وابتعد عن
ألوان العنف والكراهية ، وإذا لم ترع ذلك فإن أطفالها تصاب بعقد نفسية
خطيرة تسبب لهم كثيرا من المشاكل والمصاعب ، وقد ثبت في علم النفس
أن أشد العقد خطورة ، وأكثرها تمهيدا للاضطرابات الشخصية هي التي
تكون في مرحلة الطفولة الباكرة خاصة من صلة الطفل بأبويه ( 2 ) .
كما أن من أهم وظائف الأسرة الاشراف على تربية الأطفال فإنها
مسؤولة عن عمليات التنشئة الاجتماعية التي يتعلم الطفل من خلالها خبرات
الثقافة وقواعدها في صورة تؤهله في مستقبل حياته من المشاركة التفاعلية
مع غيره من أعضاء المجتمع .
وأهم وظائف الأسرة عند علماء التربية هي ما يلي :
أ – اعداد الأطفال بالبيئة الصالحة لتحقيق حاجاتهم البيولوجية والاجتماعية .
ب – اعدادهم للمشاركة في حياة المجتمع والتعرف على قيمة وعاداته .
ج – توفير الاستقرار والامن والحماية لهم .
د – امدادهم بالوسائل التي تهئ لهم تكوين ذواتهم داخل المجتمع ( 1 ) .
ه‍ – تربيتهم بالتربية الأخلاقية والوجدانية والدينية ( 2 ) .
وعلى ضوء هذه البحوث التربوية الحديثة عن الأسرة ومدى أهميتها
في تكوين الطفل ، وتقويم سلوكه بجزم بأن الإمام الحسين ( ع ) كان وحيدا
في خصائصه ومقوماته التي استمدها من أسرته فقد نشأ في أسرة تنتهي إليها
كل مكرمة وفضيلة في الاسلام ، فما أظلت قبة السماء أسرة أسمى ولا أزكى
من أسرة آل الرسول ( ص ) . . . لقد نشأ الإمام الحسين ( ع ) في ظل
هذه الأسرة وتغذى بطباعها وأخلاقها ، ونعرض – بايجاز – لبعض النقاط
المضيئة النابضة بالتربية الفذة التي ظفر بها الحسين ( ع ) في ظل الأسرة النبوية .

 
التربية النبوية :
وقام الرسول الأعظم ( ص ) بدوره بتربية سبطه وريحانته فأفاض
عليه بمكرماته ومثله وغذاه بقيمه ومكوناته ليكون صورة عنه ، ويقول الرواة :
إنه كان كثير الاهتمام والاعتناء بشأنه ، فكان يصحبه معه في أكثر أوقاته
فيشمه عرفه وطيبه ، ويرسم له محاسن أفعاله ، ومكارم أخلاقه ، وقد علمه
وهو في غضون الصبا سورة التوحيد ( 3 ) ، ووردت إليه من تمر الصدقة
فتناول منها الحسين تمرة وجعلها في فيه ، فنزعها منه الرسول ( ص )
وقال له : لا تحل لنا الصدقة ( 1 ) ، وقد عوده وهو في سنه المبكر بذلك
على الاباء ، وعدم تناول ما لا يحل له ، ومن الطبيعي أن ابعاد الطفل عن
تناول الأغذية المشتبه فيها أو المحرمة لها أثرها الذاتي في سلوك الطفل وتنمية
مداركه حسب ما دللت عليه البحوث الطبية الحديثة ، فان تناول الطفل
للأغذية المحرمة مما يوقف فعالياته السلوكية ، ويغرس في نفسه النزعات
الشريرة كالقسوة ، والاعتداء والهجوم المتطرف على الغير ، وقد راعى
الاسلام باهتمام بالغ هذه الجوانب فألزم بأبعاد الطفل عن تناول الغذاء المحرم ( 2 )
وكان ابعاد النبي ( ص ) لسبطه الحسين عن تناول تمر الصدقة التي لا تحل
لأهل البيت ( ع ) تطبيقا لهذا المنهج التربوي الفذ . . . وسنذكر المزيد
من ألوان تربيته له عند عرض ما أثر عنه ( ص ) في حقه ( ع ) .

 
تربية الامام له :
أما الإمام علي ( ع ) فهو المربي الأول الذي وضع أصول التربية ،
ومناهج السلوك ، وقواعد الآداب ، وقد ربى ولده الإمام الحسين ( ع )
بتربيته المشرقة فغذاه بالحكمة ، وغذاه بالعفة والنزاهة ، ورسم له مكارم الأخلاق
والآداب ، وغرس في نفسه معنوياته المتدفقة فجعله يتطلع إلى
الفضائل حتى جعل اتجاهه السليم نحو الخير والحق ، وقد زوده بعدة وصايا
حافلة بالقيم الكريمة والمثل الانسانية ومنها هذه الوصية القيمة الحافلة بالمواعظ
والآداب الاجتماعية وما يحتاج إليه الناس في سلوكهم ، وهي من أروع
ما جاء في الاسلام من الأسس التربوية التي تبعث على التوازن ، والاستقامة
في السلوك قال عليه السلام :
” يا بني أوصيك بتقوى الله عز وجل في الغيب والشهادة ، وكلمة
الحق في الرضا ( 1 ) والقصد في الغنى والفقر ، والعدل في الصديق والعدو
والعمل في النشاط والكسل ، والرضا عن الله تعالى في الشدة والرخاء .
يا بني ما شر بعده الجنة بشر ، ولا خير بعد النار بخير ، وكل نعيم
دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية . . . اعلم يا بني أن من
أبصر عيب نفسه شغل عن غيره ، ومن رضى بقسم الله تعالى لم يحزن على
ما فاته ، ومن سل سيف البغي قتل به ، ومن حفر بئرا وقع فيها ، ومن
هتك حجاب غيره انكشف عورات بيته ، ومن نسي خطيئته استعظم خطيئة
غيره ، ومن كابد الأمور عطب ، ومن اقتحم البحر غرق ، ومن أعجب
برأيه ضل ومن استغنى بعقله زل ، ومن تكبر على الناس ذل ، ومن سفه
عليهم شتم ، ومن دخل مداخل السوء اتهم ، ومن خالط الأنذال حقر ،
ومن جالس العلماء وقر ، ومن مزح استخف به ، ومن اعتزل سلم ، ومن
ترك الشهوات كان حرا ، ومن ترك الحسد كان له المحبة من الناس .
يا بني عز المؤمن غناه عن الناس ، والقناعة مال لا ينفذ ومن أكثر

ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير ، ومن علم أن كلامه من عمله قل
كلامه إلا فيما ينفعه ، العجب ممن خاف العقاب ورجا الثواب فلم يعمل ،
الذكر نور والغفلة ظلمة ، والجهالة ضلالة ، والسعيد من وعظ بغيره ،
والأدب خير ميراث ، وحسن الخلق خير قرين .
يا بني ليس من قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى ، . . . يا بني
العافية عشرة أجزاء تسعة منها في الصمت إلا بذكر الله ، وواحد في ترك
مجالسة السفهاء ، ومن تزين بمعاصي الله عز وجل في المجالس ورثه ذلا
من طلب العلم علم .
يا بني رأس العلم الرفق وآفته الخرق ، ومن كنوز الايمان الصبر على
المصائب ، العفاف زينة الفقر ، والشكر زينة الغنى ، ومن أكثر من شئ
عرف به ، ومن كثر كلامه كثر خطأوه ، ومن كثر خطأوه قل حياؤه ،
ومن قل حياؤه قل ورعه ، ومن قل ورعه مات قلبه ، ومن مات قلبه
دخل النار .
يا بني لا تؤيسن مذنبا فكم من عاكف على ذنبه ختم له بالخير ، ومن
مقبل على عمله مفسد له في آخر عمره صار إلى النار من تحرى القصد
خفت عليه الأمور .
يا بني كثرة الزيارة تورث الملالة ، يا بني الطمأنينة قبل الخبرة ضد
الحزم ، اعجاب المرء بنفسه دليل على ضعف عقله .
يا بني كم من نظرة جلبت حسرة ، وكم من كلمة جلبت نعمة ،
لا شرف أعلى من الاسلام ولا كرم أعلى من التقوى ، ولا معقل أحرز
من الورع ، ولا شفيع أنجح من التوبة ، ولا لباس أجمل من العافية ،
ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت ، ومن اقتصر على بلغة الكفاف
تعجل الراحة ، وتبوأ حفظ الدعة ، الحرص مفتاح التعب ، ومطية النصب
وداع إلى التقحم في الذنوب ، والشر جامع لمساوئ العيوب ، وكفى أدبا
لنفسك ما كرهته من غيرك ، لأخيك مثل الذي عليك ( 1 ) لك ، ومن
تورط في الأمور من غير نظر في الصواب فقد تعرض لمفاجأة النوائب ،
التدبير قبل العمل يؤمنك الندم ، من استقبل وجوه العمل والآراء عرف
مواقع الخطأ ، الصبر جنة من الفاقة ، في خلاف النفس رشدها ، الساعات
تنقص الأعمار ، ربك للباغين من أحكم الحاكمين ، وعالم بضمير المضمرين
بئس الزاد للمعاد العدوان على العباد ، في كل جرعة شرق ، وفي كل أكلة
غصص ، لا تنال نعمة إلا بفراق أخرى ، ما أقرب الراحة من التعب ،
والبؤس من النعيم ، والموت من الحياة ، فطوبى لمن أخلص لله تعالى علمه
وعمله وحبه وبغضه وأخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وبخ بخ لعالم علم
فكف ، وعمل فجد وخاف التباب ( 1 ) فأعد واستعد ، إن سئل أفصح ،
وان ترك سكت ، كلامه صواب ، وصمته من غير عي عن الجواب ،
والويل كل الويل لمن بلى بحرمان وخذلان وعصيان ، واستحسن لنفسه ما يكرهه
لغيره ، من لانت كلمته وجبت محبته ، من لم يكن له حياء ولا سخاء
فالموت أولى به من الحياة ، لا تتم مروءة الرجل حتى لا يبالي أي ثوبيه
لبس ، ولا أي طعاميه أكل ” ( 2 ) .
وحفلت هذه الوصية بآداب السلوك وتهذيب الأخلاق ، والدعوة
إلى تقوى الله التي هي القاعدة الأولى في وقاية النفس من الانحراف والآثام
وتوجيهها الوجه الصالحة التي تتسم بالهدى والرشاد .

 
تربية فاطمة له :
وعنت سيدة النساء ( ع ) بتربية وليدها الحسين ، فغمرته بالحنان
والعطف لتكون له بذلك شخصيته الاستقلالية ، والشعور بذاتياته ، كما
غذته بالآداب الاسلامية ، وعودته على الاستقامة ، والاتجاه المطلق نحو
الخير يقول العلائلي :
” والذي انتهى إلينا من مجموعة أخبار الحسين أن أمه عنيت ببث
المثل الاسلامية الاعتقادية لتشيع في نفسه فكرة الفضيلة على أتم معانيها ،
وأصح أوضاعها ، ولا بدع فان النبي ( ص ) أشرف على توجيهه أيضا
في هذا الدور الذي يشعر الطفل فيه بالاستقلال .
فالسيدة فاطمة أنمت في نفسه فكرة الخير ، والحب المطلق والواجب
ومددت في جوانحه وخوالجه أفكار الفضائل العليا بأن وجهت المبادئ
الأدبية في طبيعته الوليدة ، من أن تكون هي نقطة دائرتها إلى الله الذي
هو فكرة يشترك فيها الجميع .
وبذلك يكون الطفل قد رسم بنفسه دائرة محدودة قصيرة حين أدار
هذه المبادئ الأدبية على شخص والدته ، وقصرها عليها وما تجاوز بها إلى
سواها من الكوائن ، ورسمت له والدته دائرة غير متناهية حين جعلت
فكرة الله نقطة الارتكاز ، ثم أدارت المبادئ الأدبية والفضائل عليها فاتسعت
نفسه لتشمل وتستغرق العالم بعواطفها المهذبة ، وتأخذه بالمثل الاعلى للخير
والجمال . . . ( 1 ) .
لقد نشأ الإمام الحسين ( ع ) في جو تلك الأسرة العظيمة التي ما عرف
التاريخ الانساني لها نظير في إيمانها وهديها ، وقد صار ( ع ) بحكم نشأته
فيها من أفذاذ الفكر الانساني ومن أبرز أئمة المسلمين .

 
البيئة :
وأجمع المعنيون في البحوث التربوية والنفسية على أن البيئة من أهم
العوامل التي تعتمد عليها التربية في تشكيل شخصية الطفل واكسابه الغرائز
والعادات ، وهي مسؤولة عن أي انحطاط أو تأخر للقيم التربوية ، كما أن
استقرارها ، وعدم اضطراب الأسرة لهما كبير في استقامة سلوك النشئ
ووداعته ، وقد بحثت مؤسسة اليونسكو في هيئة الأمم المتحدة عن المؤثرات
الخارجة عن الطبيعة في نفس الطفل ، وبعد دراسته مستفيضة قام بها الاختصاصيون
قدموا هذا التقرير :
” مما لا شك فيه أن البيئة المستقرة سيكولوجيا ، والأسرة الموحدة
التي يعيش أعضاؤها في جو من العطف المتبادل هي أول أساس يرتكز عليه
تكيف الطفل من الناحية العاطفية ، وعلى هذا الأساس يستند الطفل فيما
بعد في تركيز علاقاته الاجتماعية بصورة مرضية ، أما إذا شوهت شخصية
الطفل بسوء معاملة الوالدين فقد يعجز عن الاندماج في المجتمع . . . ” ( 1 ) .
ان استقرار البيئة وعدم اضطرابها من أهم الأسباب الوثيقة في تماسك
شخصية الطفل وازدهار حياته ، ومناعته من القلق ، وقد ذهب علماء النفس
إلى أن اضطراب البيئة وما تحويه من تعقيدات ، وما تشتمل عليه من أنواع
الحرمان كل هذا يجعل الطفل يشعر بأنه يعيش في عالم متناقض ملئ بالغش
والخداع والخيانة والحسد وأنه مخلوق ضعيف لا حول له ، ولا قوة تجاه
هذا العالم العنيف ( 1 ) . . . وقد عنى الاسلام بصورة ايجابية في شؤون
البيئة فأرصد لاصلاحها وتطورها جميع أجهزته وطاقاته ، وكان يهدف قبل
كل شئ أن تسود فيها القيم العليا من الحق والعدل والمساواة ، وأن تتلاشى
فيها عوامل الانحطاط والتأخر من الجور والظلم والغبن ، وأن تكون آمنة
مستقرة خالية من الفتن والاضطراب حتى تمد الأمة بخيرة الرجال وأكثرهم
كفاءة ، وانطلاقا في ميادين البر والخير والاصلاح .
وقد انتخب البيئة الاسلامية العظماء والأفذاذ والعباقرة المصلحين الذين
هم من خيرة ما أنتجته الانسانية في جميع مراحل تاريخها كسيدنا الامام
أمير المؤمنين ( ع ) وعمار بن ياسر ، وأبي ذر وأمثالهم من بناة العدل الاجتماعي في الاسلام .
لقد نشأ الإمام الحسين ( ع ) في جو تلك البيئة الاسلامية الواعية التي
فجرت النور وصنعت حضارة الانسان ، وقادت شعوب الأرض لتحقيق
قضاياها المصيرية ، وأبادت القوى التي تعمل على تأخير الانسان ، وانحطاطه
تلك البيئة العظيمة التي هبت إلى ينابيع العدل تعب منها فتروي وتروي
الأجيال الظامئة .

 
وقد شاهد الإمام الحسين وهو في غضون الصبا ما حققته البيئة الاسلامية
من الانتصارات الرائعة في إقامة دولة الاسلام ، وتركيز أسسها ، وأهدافها
وبث مبادئها الهادفة إلى نشر المودة والدعة والامن بين الناس .
هذه بعض المكونات التربوية التي توفرت للإمام الحسين ( ع ) وقد
أعدته ليكون الممثل الاعلى لجده الرسول ( ص ) في الدعوة إلى الحق ،
والصلابة في العدل .

شاهد أيضاً

من حياة الإمام الحسين بن علي عليهما السلام (01)

ألا بورك هذا الغرس الذي امتد على هامة الزمن وعيا وأشراقا وهو يضئ للناس حياتهم ...