وكان عمر بن سعد أراد الموادعة فسأل الحسين ( عليه السلام ) عما أتى به فأخبره ، وخيره
بين الرجوع إلى مكة واللحوق ببعض الشعوب النائية والجبال القاصية ، فكتب بذلك
إلى ابن زياد فأجابه بالتهديد والإيعاد وباعتزال العمل وتوليته لشمر بن ذي الجوشن
إن لم ينازل الحسين ( عليه السلام ) أو يستنزله على حكمه ، فوصل الكتاب إلى عمر بن سعد
في اليوم السادس من المحرم ، وقد تكامل عنده من الرجال عشرون ألفا ، فقطع
المراسلات بينه وبين الحسين وضيق عليه ومنع عليه ورود الماء وطلب منه إحدى
الحالتين النزول أو المنازلة ، فجعل يتسلل إلى الحسين من أصحاب عمر بن سعد في
ظلام الليل الواحد والاثنان حتى بلغوا في اليوم العاشر زهاء ثلاثين ممن هداهم الله
إلى السعادة ووفقهم للشهادة .
ثم إن الحسين ( عليه السلام ) عطش في اليوم الثامن فأرسل أخاه العباس في عشرين
فارسا ومثلهم راجلا فأزالوا الحرس عن المراصد وشربوا وملؤا قربهم ورجعوا ، ثم
أتى أمر من عبيد الله إلى عمر بن سعد يستحثه على المنازلة ، فركبوا خيولهم
وأحاطوا بالحسين ( عليه السلام ) وأهل بيته وأصحابه فأرسل الحسين ( عليه السلام ) أخاه العباس معه
جملة من أصحابه وقال : سلهم التأجيل إلى غد إن استطعت ، وكان ذلك اليوم تاسع
محرم فأجلوه بعد مؤامرة بينهم وملاومة ، فلما دجا الليل بات أولئك الأنجاب بين
قائم وقاعد وراكع وساجد ، وإن الحرس لتسمع منهم في التلاوة دويا كدوي النحل ،
ثم جاءهم سيد هم الحسين ( عليه السلام ) فخطبهم وقال : ” أثني على الله أحسن الثناء ، وأحمده
على السراء والضراء ، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن
وفقهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة ، فاجعلنا من الشاكرين ” .
أما بعد : ” فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ولا أهل بيت أبر ولا
أوصل من أهل بيتي فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وإني لأظن أن لنا يوما من هؤلاء ،
ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام ، وهذا الليل قد
غشيكم فاتخذوه جملا ودعوني وهؤلاء القوم فإنهم ليس يريدون غيري ” ( 1 ) .
فأبى عليه أهل بيته وأصحابه وأجابوه بما شكرهم عليه ، فخرج عنهم وتركهم
على ما هم عليه من العبادة ينظر في شؤونه ويوصي بمهماته .
فلما أصبح الحسين ( عليه السلام ) عبأ أصحابه وكان معه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون
راجلا ، فجعل الميمنة لزهير والميسرة لحبيب ، وأعطى أخاه العباس الراية وجعل
البيوت خلف ظهورهم وعمل خندقا وراءها فأحرق فيه قصبا وحطبا لئلا يؤتى من
خلف البيوت .